في هذه الحرب لم تنتصر إسرائيل ولم يهزم حزب اللّه
في هذه الحرب، لم تكن النتيجة مجرّد انتصار أو هزيمة؛ بل كانت درسًا في الثبات والعزيمة يستخلص منه الكثير من الدروس والعبر. إنّ المعارك الّتي واجهتها المقاومة اللبنانيّة لم تكن مواجهة بين طرفين فقط، بل هي صراع إرادات وتحدّ لموازين قوى مختلّة أصلًا. فإسرائيل، بتكنولوجيّتها المتطوّرة وتفوّقها الجوّيّ، واجهت عقبات لم تكن متوقّعة، وهذا لم ينتقص من مكاسبها، في حين أثبت حزب اللّه صمودًا لا يستهان به، وقدرة على التكيّف والابتكار رغم اغتيال وتصفية القيادة العليا في حرب بدت صدامًا بين الكفّ والمخرز.
رغم الضربات العسكريّة الموجعة الّتي وجّهتها إسرائيل لحزب اللّه بهدف تركيعه، فإنّ المزاج الجماهيريّ لم يقتنع بانتصارها، إذ يتراوح موقف قرابة 70% من الإسرائيليّين بين عدم حسم إسرائيل للحرب أو حتّى خسارتها، وفقط 19% يؤكّدون على الانتصار. هذا في وقت يعبر أكثر من 58% عن فقدانهم الأمن والأمان لتخوفهم من انهيار الاتّفاق في غضون شهور. مخاوف عبّر عنها مستشار سابق لنتنياهو، بقوله “لقد وقّعنا اتّفاقًا مع لبنان لا قيمة له، لأنّنا لم نتمكّن من إعادة السكّان إلى منازلهم في الشمال مع حفظ أمنهم، فيما يعود اللبنانيّون وبينهم أفراد حزب اللّه إلى قراهم في الجنوب. حقيقة ما فعلناه غير عقلانيّ، لأنّ من أهداف الحرب كانت إنشاء منطقة عازلة ومنزوعة السلاح في جنوبيّ لبنان، وهذا لم يذكر في الاتّفاق”. وهذا ما عكسه موقف وزير الأمن الداخليّ، إيتمار بن غفير، في تعليل عدم تصويته لصالح الاتّفاق، حينما قال إنّ “هذا الاتّفاق لا يخدم أمن سكّان الشمال”. ويدعمه من المعارضة قول عضو الكنيست أفيغدور ليبرمان بتهكّم إنّ “نتنياهو قال إنّ الحرب ستستمرّ حتّى الانتصار، ولكنّه لم يحدّد من الّذي انتصر”.
كانت تشترط إسرائيل في بداية الحرب حرّيّة اختراق السيادة اللبنانيّة، جوًّا وبرًّا وبحرًا متى تشاء، وهذا ما منعه الاتّفاق بتأكيده على أنّ “إسرائيل لن تنفّذ أيّ عمل عسكريّ هجوميّ في لبنان برًّا أو بحرًا أو جوًّا”. كذلك أعلنت إسرائيل في حينه عزمها إبعاد قوّات حزب اللّه إلى ما وراء الليطاني بالقوّة العسكريّة، فيما لم تتقدّم إسرائيل أكثر من خمسة كيلومترات في العمق اللبنانيّ، ولم تحتل أيّ مدينة في جنوبيّ لبنان، رغم الزجّ بأكثر من 50 ألف جنديّ بعتادهم المتقدّم جدًّا، وأكثر من 40 يوم حرب ضارية لم تستطع فيها إسرائيل اختراق قوّات حزب اللّه بسرعة حرب 1982، الّتي وصلت فيها القوّات الإسرائيليّة إلى بيروت العاصمة في غضون أسابيع معدودة، ولا بسرعة اجتياح حرب 2006. كما فشلت إسرائيل في تدمير قدرات حزب اللّه ومنع الضربات الصاروخيّة والمسيرات للعمق الإسرائيليّ، حتّى طالت بدقّتها شبّاك غرفة نوم رئيس الحكومة الإسرائيليّ، بنيامين نتنياهو، في العمق الإسرائيليّ في مدينة قيساريّة، وقتلت وجرحت الكثير من الجنود في قواعدهم العسكريّة. والعبرة هنا من هذه الحرب أنّ إسرائيل لم تصبح وحدها سيّدة الأجواء، وأنّ سدّ الفجوة بينها وبين المقاومة في معركة السيطرة الجوّيّة في حالة تراكميّة إستراتيجيّة لصالح المقاومة، وفي اللحظة الّتي تتوازن فيها معركة السيطرة على الجوّ ستبدأ إسرائيل بخسارة الحرب، “لأنّها قائمة على التفوّق الجوّيّ، وفي اللحظة الّتي ستخسر فيها السيطرة الجوّيّة ستنتهي”، على حدّ تعبير محمّد حسنين هيكل. كلّ هذا ويضاف إليه اعتراف رؤساء سلطات محلّيّة إسرائيليّة بتدمير 70% من بيوت وبنى تحتيّة في قراهم ومدنهم.
في المقابل، فقد بدا حزب اللّه في بداية الحرب على أنّه “نمرّ من ورق”، وتنظيم مهلهل مخترق استطاعت إسرائيل خلال أيّام تصفية مجلس قيادته الأعلى، وعلى رأسهم الأمين العامّ، حسن نصر اللّه، وقتل وتحييد وإعماء الآلاف من قيادة الصفّ الأوّل والثاني والثالث وغيرهم، من خلال عمليّة تفجير أجهزة الاتّصال المفخّخة الّتي أدّت مهمّتها الاستخباراتيّة لإسرائيل على أحسن وجه قبل التفجير، ومنها تحديد إسرائيل مواقع حزب اللّه الإستراتيجيّة وتدميرها في الضاحية الجنوبيّة وغيرها في أنحاء لبنان.
وأذعن حزب اللّه لمطلب إيران عدم الإصرار على التمسّك بموقف قائده الراحل حسن نصر اللّه واشتراطه وقف الحرب في لبنان بوقفها على جبهة غزّة. موقف كان يعني التمسّك به الانتحار السياسيّ والعسكريّ لحزب اللّه، وهذا قد يبرّره مدى مصداقيّة ترويج الحزب أنّ هناك ضمانات دوليّة لإنهاء الحرب على غزّة في غضون شهرين.
وعليه، كان منصفًا تاريخيًّا موقف المقاومة الفلسطينيّة والشعب الفلسطينيّ في رفع تحيّة الإجلال والإكبار للشعب اللبنانيّ ومقاومته لدفعه ثمن نصرة غزّة ومقاومتها غاليًا، في وقت خذلتها الشعوب والأنظمة العربيّة والإسلاميّة وما زالت. وهذا لا يعني أنه ليست هنالك أصوات فلسطينيّة نشاز تزايد على حزب اللّه وتعيبه في التوقيع على اتّفاق فصل وعزل الجبهات وفكّ الارتباط مع غزّة، ومعه ضرب مفهوم محور المقاومة ووحدة ساحاتها، متناغمين بذلك مع ما يزعمه نتنياهو الّذي ما زال يؤكّد أنّ الحرب بدأت ولم تنته بعد، فإيران واليمن الأهداف القادمة، وقبلها إكمال مهمّة طحن المقاومة الفلسطينيّة في غزّة.
خلاصة القول؛ يزايد من يدّعي أنّ إسرائيل انتصرت، ويظلم من يؤكّد أنّ حزب اللّه انهزم، أو العكس صحيح. لأنّ المعارك توقّفت ولم تنته الحرب بعد وفقًا لمنطق وجوديّة الصراع. في هذا السياق، فإنّ الإسرائيليّين أنضج في تقييم الموقف حين يؤكّد أكثر من 70% منهم إنّ إسرائيل لم تحسم الحرب، أو قد خسرتها على جبهة لبنان. وعليه سيبحثون عن الانتصار الكامل على جبهة غزّة، ويدرك نتنياهو أنّ مصير حكومته ومصيره السياسيّ الشخصيّ متعلّق بها.
المصدر: عرب 48