حوار مع د. وليد حداد
المحاضر والباحث في علم الإجرام والمعالج لحالات الإدمان، د. وليد حداد: “مثل هذه الظواهر منتشرة في البلدات العربية، بسبب حالات الهلع والخوف لدى ذوي الحصانة النفسية الضعيفة، وبالتالي اتجهوا نحو الكحول والمخدرات والعقاقير هربا من واقع صعب ومرير”.
توضيحية (Getty Images)
لا تقتصر كلفة الأزمات كالحروب والأوبئة وغيرها على الجانب المادي من أضرار اقتصادية والخسائر الفادحة بالممتلكات والبنى التحتية، وإنما تتعداها إلى النفس البشرية حيث الآثار أكثر كلفة وتعقيدا.
هناك من لا يتمتع بحصانة نفسية متينة إزاء الأزمات فيجد نفسه قد انزلق إلى مهاوي أدوية الأعصاب والكحول والمخدرات والعقاقير التي تساعد على النوم، هربا من واقع خطير جعل كل فرد وكل بيت هدفا للإصابة والموت في ظل حرب تعدت الجبهات الحدودية إلى الجبهة الداخلية.
يقول المحاضر والباحث في علم الإجرام والمعالج لحالات الإدمان، د. وليد حداد، في حديث لـ”عرب 48” إن “بلادنا واجهت أزمتين حقيقيتين في السنوات الخمس الأخيرة، هي أزمة وباء كورونا وأزمة الحرب، في ما يتعلق بالوباء لم تكن هناك أي أبحاث أو دراسات بشأن سلوكيات البشر في حالات الوباء، ولكن في أزمات الحرب هناك العديد من الأبحاث، وذلك يعود إلى كثرة النزاعات والحروب في معظم بلدان العالم”.
ارتفاع حاد في تعاطي المخدرات والمهدئات
يوضح د. حداد أنه “في أزمة كورونا الأخيرة لوحظ ارتفاع في نسب تعاطي الأدوية والمخدرات والمهدئات، وذلك نتيجة القلق والخوف، وهذا ما أشارت إليه الأبحاث التي جرت بعد تراجع الوباء. أما بالنسبة لأزمة الحرب فلدينا الكثير من المؤشرات من مختلف الدراسات التي أجريت في العالم تظهر بشكل واضح بأن فئات من المجتمع ومن سكان المناطق المنكوبة بالحروب ممن يعانون من ضعف الحصانة النفسية يتجهون لتعاطي المخدرات وغيرها للهروب من الواقع والتغلب على حالات الخوف والهلع، وبنسب أعلى بكثير مما هو في أزمة كورونا”.
ويضيف حداد أن “هذه الحرب هي الأطول في تاريخ الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وبما أن الحرب لا تقتصر على الجنود في الجبهات، بل تتعداها إلى الجبهة الداخلية أي إلى جمهور المواطنين فالكل يستشعر الخطر. ولو كانت الحرب على الجبهات فقط لكان العلاج سيقتصر على حالات الصدمة التي يعود بها الجنود من الجبهات كما كان في حرب أميركا على فيتنام فقد كان الجنود يعودون إلى أوطانهم وتظهر لديهم بعض الأمراض النفسية وأعراض الصدمات وغيرها، وحتى في إسرائيل هناك وحدات علاج خاصة تابعة لوزارة الأمن لمتابعة حالات الجنود بعد الحرب، لكن في أي من الحروب لم تكن الجبهة الداخلية جزءا من الحرب ربما باستثناء حرب 2006 مع حزب الله التي استمرت لمدة شهر واحد تقريبا، وهي فترة قصيرة نسبيا مقارنة مع الحرب الأخيرة”.
ويشير المحاضر والباحث في علم الإجرام والمعالج لحالات الإدمان إلى أنه “عندما يكون الجمهور جزءا من الحرب ويشعر بأنه مستهدف بالصواريخ والطائرات المسيرة، التي دخلت حديثا في جبهات الحروب، وأنه معرّض للقتل يوميا، ويصبح الحيز الأكبر من تفكيره يتمحور حول سبل النجاة من الموت فإنه يبحث عن طرق للهروب من هذا الواقع، يجد بأن أسهل وأقصر طريق للهروب من الواقع هو تعاطي الكحول والمخدرات وتناول العقاقير المهدئة”.
سوء الاستخدام وكثرة الطلب يفتح طريقا للسوق السوداء
يقول حداد إن “كل المعطيات، اليوم، التي جمعت من الصيدليات وصناديق المرضى ووزارة الصحة تشير إلى ارتفاع حاد في طلب الأدوية من نوع مسكنات الأوجاع والأدوية والعقاقير النفسية التي تعالج حالات الصدمة والهلع والوسواس القهري وتساعد على النوم. وبالإضافة إلى الطلب الرهيب الحاصل على هذه الأدوية نلاحظ هناك ظاهرة لا تقل خطورة وهي سوء الاستخدام لهذه الأدوية، فالطبيب يدوّن للمريض وصفة تحتوي على وجبة أدوية لكي يستخدمها المريض على مدار الشهر، ولكنها تنفد في أربعة أو خمسة أيام! فاذا كان الشخص قد استخدم هذه الكمية في هذه الفترة القصيرة فهو خطر، وإذا كانت قد استهلكت من قبل شخص آخر فهناك خطر أكبر من تتحوّل هذه العقاقير إلى السوق السوداء للتجارة بها، وهي سوق موازية لسوق المخدرات!”.
وردا على سؤال حول فرض وزارة الصحة عادة قيودا مشددة على إعطاء وصفات لهذه العقاقير المخدرة حتى لمن يحتاجها بالفعل؟ يجيب حداد “طبعا، وأنا أقول لك وصفات وهناك تشديد، ولكن دائما هناك السوق السوداء وخاصة عندما تزيد الحاجة للعقاقير ويزيد الطلب عليها رأسا تنتج هناك سوق سوداء قد يتعاون معها بعض الصيادلة وربما بعض الأطباء في سبيل الربح المادي، وتحدث سرقات للأدوية من المستشفيات والصيدليات ومخازن الشركات المنتجة للأدوية ومصادر أخرى لا نعرفها.. وفي الشرطة دائما هناك تحقيقات وملفات تتعلق بسرقات أدوية لغرض بيعها في السوق السوداء الكبيرة والمزدهرة في إسرائيل في مجال التجارة بالعقاقير والأدوية المحظورة، وهي – كما ذكرت – سوق موازية لسوق المخدرات”.
ويلفت إلى أن “المجتمع الفلسطيني داخل إسرائيل هو أيضا جزء من الحرب، وسقط من أبنائه العديد من الضحايا في الحرب، ومثل هذه الظواهر منتشرة في البلدات العربية، بسبب حالات الهلع والخوف لدى ذوي الحصانة النفسية الضعيفة، وبالتالي اتجهوا نحو الكحول والمخدرات والعقاقير هربا من واقع صعب ومرير، ليس فقط بسبب الحرب، بل أيضا بسبب فقدان مكان العمل وحالات الإحباط والاكتئاب وغياب الأمل، وتدهور الحالة الاقتصادية العامة، يُضاف إلى ذلك ترك بيوتهم وربما الغرق في ديون ناجمة عن تراجع الوضع الاقتصادي العام”.
بعد سنوات من التعافي عادوا إلى الإدمان
يتحدث حداد عن ظاهرة أخرى خطيرة لأشخاص تعافوا من تعاطي المخدرات منذ سنوات طويلة جدا (أكثر من 10 أعوام) واليوم يعودون إلى ذلك المربع الأول، “تخيل أن إنسانا كان مدمنا وتعافى من الإدمان، وفجأة اليوم فقد عمله ومصدر رزقه فإنه قد يلجأ إلى المكان الذي كان يعرفه وهو المكان الذي تعاطى فيه المخدرات والكحول. وكثيرون هم الذين عادوا في هذه السنة إلى المخدرات بعد سنوات من العلاج والتأهيل ولا يوجد سبب واضح لهذه العودة سوى الضغط النفسي والاقتصادي والهلع وحالة القلق المسيطرة”.
وفي حديثه لـ”عرب 48” يتطرق إلى ارتفاع أسعار ما يسمى بـ”حشيش الكيف” أو “الماريحوانا” التي كان يتم تهريبها من لبنان وسيناء، “نتيجة الاستنفار الأمني بسبب اندلاع الحرب على هاتين الجبهتين، أصبح المهربون يخشون على حياتهم ويمتنعون عن الاقتراب إلى الحدود، ولهذا السبب لوحظ ارتفاع كبير على أسعار هذه المخدرات التي يستهلكها مئات الآلاف في البلاد بشكل شبه يومي، وأصبح سعرها يضاهي الكوكائين والهيرويين، فبالتالي يتوجه البعض من هؤلاء إلى المخدرات المصنعة ‘الكيماويات’ من ‘نايس غاي’ وحتى ‘الكيتامين’ الذي لم نكن نعرفه، يستخدم في الطب البيطري، وهو مخدر قوي جدا ويترك أثرا عنيفا في النفس والجسد، ولكن بسبب عدم توفر البدائل يلجأ البعض إلى هذا المخدر على الرغم من كل أخطاره”.
آثار نفسية بقيت منذ اجتياح لبنان عام 1982
ردا على سؤال “عرب 48” حول توقف هذه الظواهر مع توقف الحرب؟ يجيب المحاضر والباحث في علم الإجرام والمعالج لحالات الإدمان: “الآثار تستمر لسنوات فالذي يدخل هذا العالم ربما يستطيع أن يتدارك نفسه ويقلع عنها مع انتهاء الأزمة (الحرب) فيما لم يصل إلى درجة التعلق النفسي والجسدي إلى حد الإدمان، ولكن قسم كبير سيبقى يتناول هذه العقاقير والمخدرات حتى بعد زوال الأزمة، وهو ما تؤكده كل الأبحاث.. وأنا أذكر لك حالات لأشخاص بدأوا يتعاطون هذه المخدرات في الحرب الأولى التي شُنت على لبنان عام 1982 وما زالوا يتعاطونها حتى اليوم وهم في السبعينيات من أعمارهم! وهذا هو ضرر الحروب الأخطر من سقوط البنايات والدمار المادي، فهذه الآثار التي تصيب النفس البشرية ليس من السهل التخلص منها، وبعضها ينتهي بالانتحار أو بالجنون”.
ويختم حداد حديثه بالقول إن “تجارب كثيرة لا تتّسع لها الصفحات، وكل تجربة تزيد الموضوع تشعّبا، لكن كل الحالات تجتمع تحت سقف واحد، وهو زيادة منسوب القلق الذي يؤدّي إلى زيادة الحاجة للمهدئات على أنواعها، ويترافق ذلك مع الحاجة للمال. وكلّما كانت ظروف حياة الأفراد مليئة بالضغوط، بات الخروج من الدوامة أصعب، وهذا الأمر ينطبق على النازحين الذين يعيشون في المدارس ومراكز النزوح، حيث الاكتظاظ الذي يؤدّي إلى الضجيج الدائم واحتمالات وقوع إشكالات بين النازحين، ما يحتِّم على المرء البحث عن وسيلة للهروب”.
المصدر: عرب 48