لماذا نجح وقف إطلاق النار في لبنان وتأخّر في غزة؟
منذ أن أعلن حزب الله عن عمليات إسناد جبهة غزة بعد يوم واحد من معركة طوفان الأقصى، بدأت إسرائيل بتوجيه ضربات ضد الأراضي اللبنانية تشمل معاقل حزب الله ومصالحه في سورية والعراق، بما يشكل خطة ردع للحزب الذي أجبر نفسه على الدخول في معركة غزة، ربما بحالة إجبار للحفاظ على سمعته كحركة مقاومة في المقام الأول، ولضمان ألا تستفرد إسرائيل بحركة حماس الشريكة أيضًا في محور المقاومة، وبالتالي إجهاض مشروع المقاومة في المنطقة، وتفريغها من خطوط الردع الحليفة لإيران أمام إسرائيل والولايات المتحدة.
لبنان: من الحرب إلى اتفاق الهدنة
تصاعدت العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل، لا سيما بعد سلسلة من الاختراقات والاغتيالات التي طاولت قيادات الصف الأول من الحزب، وتنفيذ غارات جوية على قواعد ومنشآت للحزب في عدة مناطق في لبنان، وتغيرت قواعد الاشتباك المعهودة منذ حرب 2006، والتي تقضي توازنا إلى حد ما في حجم الضربات المتبادلة ومستوى قيادات العمليات العسكرية والمساحة المقدرة للضربات من الطرفين. في تشرين الأول/ أكتوبر 2024، شنت إسرائيل غزوا واسع النطاق على جنوبي لبنان، في تصعيد للاشتباكات المستمرة مع حزب الله، التي كانت امتدادًا للحرب الإسرائيلية على غزة. وتزامنت العملية مع تصاعد التوترات بعد سلسلة هجمات متبادلة بما في ذلك غارات إسرائيلية استهدفت قادة حزب الله، وأبرزها هجوم اغتيال الأمين العام للحزب، السيد حسن نصر الله، الذي تسبب في ردود فعل متصاعدة من الحزب على الحدود الشمالية لإسرائيل. نفذت إسرائيل غارات جوية مكثفة استهدفت مواقع حزب الله في الجنوب، الضاحية الجنوبية لبيروت، ومناطق أخرى في بعلبك والبقاع، ما أسفر عن سقوط آلاف القتلى والجرحى من المدنيين والعسكريين. تم تقدير عدد القتلى بأكثر من 3,800، بينهم نساء وأطفال، بالإضافة إلى إصابة أكثر من 16 ألف شخص. وتسببت العمليات في نزوح حوالي 1.4 مليون لبناني داخليًا في لبنان، وصولاً إلى سورية والعراق في أزمة إنسانية مستحدثة بعد 2006.
وفي رد لحزب الله، أطلق صواريخ مكثفة على مستوطنات شمالي إسرائيل ومدن رئيسية مثل حيفا وصفد. تضمنت العمليات استهداف معدات إسرائيلية في مناطق حدودية واستخدام تكتيكات متنوعة لصد التقدم الإسرائيلي؛ وواجهت القوات الإسرائيلية مقاومة شرسة من حزب الله، لا سيما في أثناء الاجتياح البري في قرى الجنوب، مثل بنت جبيل والخيام ومارون الراس وعيتا الشعب، ما أدى إلى خسائر كبيرة على المستوى البشري ومستوى المعدات.
أدى تطور العمليات والحرب الواسعة التي شنتها إسرائيل إلى تداعيات خطيرة على المستوى الاجتماعي الإنساني والديموغرافي إذ تفاقمت الأزمة الإنسانية في لبنان بشكل كبير، حيث دُمّرت قرى بأكملها ومجمعات سكنية راحت ضحيتها عائلات كاملة، ومسحت من السجلات المدنية نتيجة القصف الهمجي، وتعرضت البنية التحتية لأضرار بالغة، بما في ذلك تدمير مستشفيات ومدارس ومساجد ومنشآت حيوية. بالإضافة إلى ذلك، أثرت الغارات على المساعدات الإنسانية، وأدت إلى نزوح جماعي من قرى الجنوب اللبناني ومواقع في الضاحية الجنوبية لبيروت مثل برج البراجنة، والشياح، والليلكي، وغيرها. تشير هذه الحرب إلى تعقيد المواجهة العسكرية في المنطقة، حيث تسعى إسرائيل لإضعاف حزب الله بعد دعمه المستمر للمقاومة الفلسطينية. من جهة أخرى، يعكس رد حزب الله قدرته على التحمل العسكري والتكيف مع الظروف المتغيرة، رغم التفوق الجوي والتكنولوجي الإسرائيلي ورغم الإسناد الدولي.
ونتيجة لعداد الخسائر المتزايد على مستويات عدة، وللضغط الحاصل على الطرفين لإنهاء الحرب والعودة إلى تطبيق القرارات الدولية، بدأت سلسلة مفاوضات وجولات مكوكية قادها المبعوث الأميركي الخاص، عاموس هوكشتاين، إلى لبنان ومجموعة من دول المنطقة بغرض الحصول على ضمانات وعروض للهدنة، التي من الممكن أن تكون دائمة في حال التزام الأطراف بمبادئها بما يضمن عودة آمنة لمرحلة ما قبل الحرب. لكن المفاوضات تأخرت نتيجة تعنّت تل أبيب التي أرادت أن تبسط ذراعها على أجواء لبنان لتضرب أي تحرك عسكري من شأنه أن يهدد شمال الأراضي المحتلة عام 1948، وتتدخل في لبنان حين تشاء، وركزت على نزع سلاح حزب الله وتأمين حدودها الشمالية وضمان أمن مستوطنات الشمال وعودة السكان إلى المستوطنات كما الحال قبل 7 أكتوبر 2023؛ إلا أن هذه الشروط جرى رفضها من قبل الدولة اللبنانية حفاظًا على سيادتها واستقلالية قرارها السياسي والأمني. في هذه المرحلة أبدى حزب الله مرونة في التعامل مع مساعي اتفاق الهدنة الذي رعته الدولة اللبنانية، بعد أن أعلن الشيخ نعيم قاسم، الأمين العام الحالي لحزب الله، تفويض رئيس مجلس النواب، نبيه بري، بقيادة ملف المفاوضات، وجرى التوصل إلى صيغة نهائية للاتفاق الذي رعته واشنطن بما يؤمن “راحة” من القتال للطرفين، على المدى القريب على أقل تقدير.
تشمل بنود اتفاق الهدنة الذي جرت صياغته هذه المرة بين لبنان وإسرائيل، وليس كما حرب 2006 الذي خرج بصيغة “حزب الله وإسرائيل”، على أن تمتنع إسرائيل عن شنّ أية عمليات عسكرية هجومية في لبنان سواء أكانت برية أم بحرية أم جوية، وأن تلتزم جميع الفصائل المسلحة في لبنان، ويلتزم حزب الله بعد شن أي هجوم على إسرائيل أو مستوطناتها في الأراضي المحتلة؛ بالإضافة إلى حصر السلاح بيد الجيش اللبناني مع التحقق أن لا يتم توريد أي سلاح لحزب الله؛ على أن يتم ضرب أي شحنة من المتوقع أن تكون متوجهة ليستخدمها الحزب في إعادة ترتيب قواته. وسرت الهدنة منذ فجر الأربعاء 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، وسط مباركات دولية وإقليمية من دول راعية وداعمة للمفاوضات على أساس قرارات الشرعية الدولية، لا سيما قرار 1701 القاضي بإبقاء منطقة جنوب الليطاني خالية من السلاح، على أن يكون الجيش اللبناني هو المسؤول الأول والوحيد عن أي نشاط عسكري في الجنوب. ومع ذلك فقد سمحت إسرائيل لنفسها خرق الهدنة عشرات المرات، نفذت خلالها ضربات ضد قرى لبنانية حدودية، شملت إطلاق قذائف مدفعية وضربات صاروخية طاولت مصالح مدنية، بزعم أنها عسكرية لصالح الحزب؛ بالإضافة إلى إصرار الجيش الإسرائيلي على تهديد سكان بعض القرى الحدودية، وإرغامهم على البقاء خارجها حتى إشعار آخر.
جبهة غزة المشتعلة والفرص
يمكن القول إن معركة إسرائيل ضد حزب الله تختلف عن معركتها ضد حماس، لأسباب أبرزها أن قوات حزب الله موجودة داخل حدود دولة لبنان التي لها سيادتها وموقعها من الخريطة الإستراتيجية والعسكرية في المنطقة، وبالتالي تحسب تل أبيب حسابات دولية في حال أرادت توسيع نطاق الحرب؛ وأن حزب الله، وإن تعاظمت قوّته وسطوة سلاحه، إلا أنه يحتكم سياسيا ودبلوماسيا إلى قرارات الدولة اللبنانية، وأن لحزب الله مخزون تسليح، ويؤمن تسليحه من عدة دول من إيران وصولاً إلى العراق وسورية كخط إمداد رئيسي، وهو ما عملت إسرائيل على تقطيع أوصاله عبر ضرب جميع المعابر بين سورية ولبنان، وضرب أية مواقع للحزب داخل سورية، حتى في مطار دمشق الدولي أو محيطه. بالإضافة إلى ذلك، فإن القضاء المطلق على الحزب لم يكن ضرورة ملحّة لتل أبيب، واكتفت باغتيال قيادات الصف الأول وتغيير معالم المجلس الاستشاري للحزب، مع الحرص على ألا يفنى الحزب سياسيًا داخل لبنان.
على الطرف المقابل، فإن حرب إسرائيل ضد حماس هي حرب وجودية بنظرها، ضد حركة داخل الإطار الجغرافي الذي تحتله إسرائيل، وتسبب لها “قلقًا وجوديًا” منذ إدارتها لقطاع غزة على مدار 20 عامًا الماضية، وتسعى للتخلص منها كليًا؛ سواء على المستوى العسكري أو المستوى السياسي. بعد 7 أكتوبر، شنت إسرائيل حربًا شعواء على قطاع غزة المحاضر بالأساس، واجتاحته بريًا بهدف القضاء على حركة حماس وبسط نفوذها على القطاع، الذي تعتبره تل أبيب جزءًا من “أملاكها” وبحاجة إلى استرداده من حماس، وفي الوقت ذاته تلوّح تل أبيب دائما بأن حماس لا يمكن أن تحكم غزة من جديد، وسيتم تفكيك وزاراتها وهيئاتها الإدارية لضمان أمن إسرائيل في المقام الأول، وإعادة ترتيب الوضع السياسي في القطاع.
تعكس المواقف المتضاربة لكل من إسرائيل وحماس العقبة الأساسية أمام التوصل إلى وقف إطلاق النار. بالنسبة لإسرائيل، الأهم هو سيطرتها الأمنية على قطاع غزة. وقد دفع هذا النهج إسرائيل إلى رفض وقف إطلاق النار غير المشروط، معتبرةً أنه يمنح حماس فرصة لإعادة بناء قدراتها العسكرية والبنية التحتية الإدارية والمدنية. كما تحاول إسرائيل فرض وقائع جديدة على الأرض من خلال إنشاء مناطق عازلة، مثل “ممر نتساريم” الذي يقسم غزة إلى شمال وجنوب، وتوسيع سيطرتها على الحدود مع مصر؛ وتأكيد سيطرتها على هذه المنطقة عبر تأمين زيارات ميدانية للقادة العسكريين والسياسيين، وعلى رأسهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو.
في المقابل، حماس ترى أن وقف إطلاق النار يجب أن يضمن رفع الحصار المفروض على غزة منذ عام 2007، وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وضمان حرية الحركة لفلسطينيي القطاع، وإدخال مساعدات غير مشروطة تضمن وصولها الجهات الأممية. تفاءلت حماس بعد إعلان وقف إطلاق النار في لبنان، وأصبحت الآن أكثر مرونة في التفاوض للتوصل إلى اتفاق برعاية وسطاء، وأبرزهم حاليا الوسيط المصري. يضع الوضع الإنساني المتدهور في غزة ضغطًا كبيرًا على الأطراف لإيقاف القتال، حيث يعاني السكان من نقص حاد في الغذاء والماء والرعاية الطبية، وزاد الوضع سوءًا مع دخول فصل الشتاء بواقع إنساني سيئ مع نقص في المساعدات الممنوحة وعدم كفايتها للسوق في غزة.
على صعيد الوساطة، تقود مصر حاليًا محادثات مكثفة، وفعّلت جهودًا حثيثة، لا سيما عبر إرسال مبعوثين إلى تل أبيب لمناقشة بنود اتفاق مشابه لاتفاق لبنان، واستقبلت أيضًا ممثلين عن حركة حماس لمناقشة ذات البنود ورسم معالم اتفاق. كما يشمل المقترح المصري تفاصيل إعادة فتح معبر رفح، لكن بإشراف السلطة الفلسطينية كجهة حكومية رسمية، مع وقف القتال لمدة 60 يومًا على الأقل، مع السماح لتل أبيب أن تبقي وجودا عسكريًا في غزة مع ضمان إطلاق سراح الرهائن خلال الأسبوع الأول من تنفيذ الهدنة.
هذا المقترح المصري قد يواجه تحديات بسبب الشروط المتناقضة لكل طرف من الأطراف. إسرائيل تضغط للحصول على ضمانات أمنية قوية بأن تعيد حماس جميع الأسرى الإسرائيليين، وأن تبتعد حماس كليًا عن المشهد السياسي والعسكري في القطاع، ويحل محلها قوات دولية فيها قوات عربية، فيما تطالب حماس بضمانات دولية تنهي الحرب بشكل كامل. الجهود الدولية غالبًا ما تصطدم بمواقف الطرفين المتصلبة، خاصة مع وجود دعم سياسي متباين؛ حيث تُتهم الولايات المتحدة بالتحيز لإسرائيل، فيما يعتبر موقف حماس ضعيفًا أمام القوى الدولية التي استخدمت الفيتو لتعطيل مشروع قرار بوقف إطلاق النار في القطاع بعد سنة وشهرين من الحرب، التي لم تبقِ ولم تذر.
من وجهة نظر الواقعية السياسية، يمكن القول إن عدم الاعتراف بحركة حماس كحكومة تقود قطاع غزة، وتصنيفها “كحركة إرهابية” من قبل الولايات المتحدة، من شأنه أن يعطل جهود الوساطة في ظل عدم وجود حكومة معترف بها تقود المفاوضات من قبل الطرف الفلسطيني، ومن شأنه أن يطيل أمد الحرب في القطاع. وعلى الرغم من جهود مصر وقطر للوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار. على عكس ما يحصل في غزة، فإن قيام الحكومة اللبنانية باستلام دفة المفاوضات بالتنسيق مع حزب الله والمبعوث الأميركي إلى لبنان، كان قد سهّل على الأطراف التوصل إلى اتفاق الهدنة رغم هشاشته، بعد أن أغارت إسرائيل مجددا على بعض القرى الحدودية واعتقالهم مواطنين لبنانيين، وتهديد العائدين إلى جنوبي لبنان.
أحد أبرز العوائق التي تحول دون التوصل إلى اتفاق هو الخلاف حول مستقبل غزة بعد وقف إطلاق النار. إسرائيل ترى أن استقرار القطاع يتطلب إعادة صياغة دورها، سواء من خلال بقاء عسكري طويل الأمد أو إدارة غزة عبر أطراف ثالثة مع سيطرة أمنية إسرائيلية. وكما الحال في الاختراقات الإسرائيلية لاتفاق الهدنة في لبنان، هناك تساؤلات حول النوايا الحقيقية لإسرائيل في غزة؛ إذ تشير التحليلات والتصريحات إلى أنها لا تسعى إلى إنهاء الصراع بالمطلق، بل إلى إعادة تشكيل الوضع القائم بحيث يظل في صالحها إستراتيجيًا، كونها ترغب في تغذية حالة الانقسام وإبقاء الصراع بين الفصائل الفلسطينية مشتعلاً بما يضمن سطوتها فوق الأراضي الفلسطينية.
المصدر: عرب 48