الحسابات المحتملة لمعركة “ردع العدوان” ورهانات الفرقاء
أحدثت عملية “ردع العدوان” تأثيرا كبيرا على سيرورة الصراع في شمالي سورية خصوصًا، وسورية عمومًا؛ ومسار التفاهمات الكامنة بين القوى الإقليمية الضامنة في البلاد.
حلب، نهاية الشهر المنصرم (getty images)
في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، أطلقت مجموعة من فصائل المعارضة السورية المسلحة، بقيادة “هيئة تحرير الشام” والجيش السوري الوطني، بإدارة “غرفة عمليات الفتح المبين” هجوما كبيرا ضد الجيش السوري النظامي، بدأ في الريف الغربي لمحافظة حلب، وتمكنت خلاله فصائل المعارضة من السيطرة على كتائب عسكرية وسريات وغرف قيادة عمليات في المنطقة الشمالية الغربية من البلاد. وتُعد عملية “ردع العدوان” وبموازاتها عملية “فجر الحرية” أبرز تصعيد في الأعمال القتالية بين الجيش النظامي السوري وفصائل المعارضة المسلحة منذ وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه روسيا وتركيا عام 2020، ونجم عنه جعل هذه المنطقة منطقة خفض تصعيد بموجب اتفاقية أستانة التي أطلقت صيغتها عام، 2017 ودخلت حيز التنفيذ في 2020، وبقيت هذه المنطقة خارج الحسابات العسكرية والعمليات الأمنية، حتى تمكنت فصائل المعارضة من السيطرة على حلب و إدلب وريف حماة، واغتنام عدد كبير من الأسلحة والذخائر والمقدرات الحربية من القطع العسكرية الكبرى.
وفي ظل التخبط العسكري والأمني في المنطقة، جاء هذا الهجوم في هذا التوقيت الحرج في الشرق الوسط عمومًا ردا على عمليات قصف طاولت قرى في ريف إدلب وريف حلب، وهي القرى التي تجمعت فيها فصائل المعارضة السورية المسلحة بعد اتفاقيات المصالحة الوطنية منذ 2017 برعاية روسية. وبحسب الناطقين العسكريين باسم المعارضة، فإن العملية تهدف إلى ردع المزيد من العدوان وحماية المدنيين، فيما تعتبر دمشق وموسكو وطهران الهجوم انتهاكا لوقف إطلاق النار، وتهديدا لوحدة الأراضي السورية، وانتهاكا لاتفاقية أستانة، وتعديا على السيادة السورية على الأرض. وفي الوقت ذاته، فقد أعلنت تركيا أنها لم تكن مسؤولة عن عملية “ردع العدوان”، وأن القرار اتخذ داخليًا بالتنسيق بين الفصائل السورية المسلحة.
ليست عملية “ردع العدوان” هي الهجوم الكبير الأول الذي أطلقته المعارضة السورية في شمالي سورية. ففي السنوات الأخيرة، نفذت فصائل المعارضة بدعم تركي وافر وبتغطية عسكرية متينة عدة عمليات أهمها عملية درع الفرات (2016-2017)، وهي عملية مدعومة تهدف إلى تطهير مدينة الباب السورية الشمالية من سيطرة تنظيم “داعش”؛ وعملية غصن الزيتون (2018)، وهي عملية أخرى لوحدات حماية الشعب الكردية في منطقة عفرين؛ بالإضافة إلى عملية نبع السلام (2020)، وهي عملية عسكرية تركية أُطلقت ردا على تحركات الجيش السوري النظامي في محافظة إدلب، ورغبته في رسم معالم أماكن سيطرته في الشمالي الغربي من البلاد، إذ كان من مصلحة أنقرة أن تعيد ترتيب الأوراق في ذلك الوقت، وتفرض طوقا على وحدات الأكراد في المنطقة، ومنعهم من الالتفاف على قوات الجيش السوري الوطني المدعوم من قبلها.
تأثير عملية “ردع العدوان”
أحدثت عملية “ردع العدوان” تأثيرا كبيرا على سيرورة الصراع في شمالي سورية خصوصًا، وسورية عمومًا؛ ومسار التفاهمات الكامنة بين القوى الإقليمية الضامنة في البلاد. فعليا، فقد حققت قوات المعارضة تقدما كبيرا، واستولت على قرى ريف حلب الغربي كاملة، واستولت على عدة قطع عسكرية ونقاط أمنية كان يستخدمها الجيش السوري النظامي في عملياته ضد المعارضة السورية المسلحة، بالإضافة إلى استيلائهم على مطارات مهمة مثل مطار كويرس ومطار منغ، وهما مطاران عسكريان للجيش السوري النظامي، واستخدما في ضرباته ضد الفصائل الإسلامية المعارضة في الشمال السوري. ولاقت فصائل المعارضة سهولة في عملية الاستيلاء على هذه المواقع نظرا لانسحاب قوات النظام منها، وإخلائهم النطاق الأمني والعسكري الذي يشكل غرف عمليات لجيش النظام وقوات حزب الله وإيران في الشمال السوري.
هذه العملية أشعلت الجبهة الشمالية من جديد، وأعادت المعارك إلى دائرتها في 2015 و2016، عندما وصلت المعارضة المسلحة على مشارف مدينة حلب، وكانت المعارضة المسلحة قد استولت حينها على ما يقارب 60% من الأراضي السورية، وتمركزت فيها قبل أن تخسرها بفعل التدخل الروسي والإيراني لصالح النظام. وحتى عام 2020، شكلت المنطقة الشمالية الغربية من البلاد محط معارك دامية على الطرفين، لينتهي الصراع بوضع الطريقين الدوليين M4 وM5 اللذين يعدان امتدادًا لخطوط الترانزيت الرئيسية من الخليج إلى تركيا مرورًا بسورية، تحت وصاية روسية – تركية عقب اتفاقية خفض التصعيد. أما اليوم، فقد استولت الفصائل المسلحة على طريق M5، وكانت قد استولت على M4، فلذلك أصبح من الصعب بالنسبة إلى النظام تحريك قواته عبر خطوط الإمداد الرئيسة، وتقطع عليه إرسال تعزيزات إلى الشمال، وتطويق القوات المتبقية في مثلث أرياف حلب وإدلب و حماة.
حققت فصائل المعارضة اختراقا حاسما من خلال السيطرة على هذه القرى بأكملها والتقدم إلى الأحياء الرئيسية داخل المدن، بما يمنح هذه الفصائل سطوة أكبر على المناطق الأمنية والثكنات العسكرية والسجون ومقرات عمليات الجيش السوري النظامي، ولذلك فقد أفرزت هذه العملية نتائج أبرزها إبعاد خطر التهديدات العسكرية ضد مناطق وجود المعارضة السورية المسلحة، وتوسيع رقعة المناطق الآمنة لتسهيل عودة النازحين واللاجئين إليها، وإقامة حكم شبيه بنموذج إدلب الذي صممته “هيئة تحرير الشام” والفصائل العاملة هناك.
أثارت العملية أيضا مخاوف بشأن احتمال تصعيد أكبر وصراع إقليمي أوسع نطاقا. ما يحصل في سورية في ظل وجود عدد لا بأس به من الدول الضامنة، بدءا من روسيا وصولا إلى إيران وتركيا والولايات المتحدة، يشير إلى تعدد وتعقيد في الحسابات وأولويات حل النزاع كل حسب أجنداته التي يسعى إلى تحقيقها. طهران في موقف حرج بعد الضربات التي تلقتها في لبنان، لتصبح أمام خيارين واقعيين: إما أن تكمل في مسار التصعيد، وترسل مزيدا من القوات إلى سورية، الأمر الذي من شأنه أن يعرض هذه القوات لضربات مباشرة من إسرائيل أو من قوات التحالف كما حصل في ضربة منطقة البوكمال بتاريخ 2 كانون الأول/ ديسمبر 2023، ويزيد من حقد أبناء المنطقة عليها؛ أو أن تبدأ بوضع خطة انسحاب تدريجي من الأراضي السورية وتقليص دورها السياسي والعسكري، سيما مع الفرقة الرابعة أحد أهم الفرق العسكرية في سورية. وهنا ستظهر ضعفها و تخسر ملف سورية كورقة ضغط ومنطقة نفوذ طالما استخدمتها ضد تركيا ودول الخليج وإسرائيل والولايات المتحدة على حد سواء.
أما بالنسبة إلى موسكو، فمن المهم جدًا الحفاظ على وجودها في سورية كخط متقدم أمام المعسكر الغربي، ووصولها المهم إلى المياه الدافئة وترسيخها قواعد في الشرق الأوسط، أهمها قاعدة حميميم في اللاذقية، مع وجودها في ميناء طرطوس. موقف روسيا ليس بأفضل حالاته، إذ إنها منهمكة في حرب مهمة في أوكرانيا، ولم تعد تلك القوة التي يمكنها أن تحسم الصراع لصالح النظام كما الحال في 2017، سيما وأنها قلّصت وجودها في سورية، وسحبت قواتها (التي كانت قد استفادت من التدريب الميداني الحقيقي على أراضي سورية) لصالح انخراطها في حرب أوكرانيا، كما اقتصرت الطلعات الجوية الروسية على غارات متفرقة ليست ذات ثقل حربي كما كانت سابقًا، ولذلك ليس من مصلحتها إعادة تفعيل الحامي الحقيقي للنظام خوفًا من هجمات أو تهديدات من المعارضة لقواعدها المتبقية في اللاذقية وتدمر وطرطوس، وللضغط على النظام السوري للقبول بمفاوضات مع الجانب التركي بهدف الخروج من المأزق الحالي.
أما تركيا، فيبدو موقف أنقرة لصالح فصائل المعارضة المسلحة، إذ أعطتهم الضوء الأخضر، وأمنت لهم الدعم والتغطية الميدانية والإعلامية، وأعطت الضوء الأخضر لهم لتنفي هذه العملية ضمن إطار محدود، بما يسمح بإبقاء خط عودة مفاوضات محتملة وترسيم مناطق نفوذ، وربما اتفاق دائم ضمن مسار تطبيع أشارت إليه تقارير دولية، ومن ضمنه الاتفاق على عودة النازحين إلى قراهم مع ضمان تنظيف الملفات الأمنية لسكان هذه المناطق، وضمان عدم التعرض لهم مستقبلًا. وبالإضافة إلى ذلك، فإن من شأن تركيا أن تمارس ضغطا عسكريا على سورية لإعادة إحياء فرص تطبيع العلاقات والقبول ببقاء القوات التركية في الأراضي التي اقتطعتها تركيا كخط أمامي في وجه قوات سورية الديمقراطية.
السلاح والتدريب
تعكس عملية ردع العدوان بحسب المشاهدات والانتقالات بين الأرياف والقرى حالة إعادة التنسيق وضبط العلاقات العامة بين الفصائل المسلحة، مع الحرص على تجنب الوقوع في أخطاء الانقسامات وتبني الفكر الأيديولوجي المتعنت لكل جماعة، بحيث تقترب هذه الفصائل أكثر إلى ضبط إستراتيجيات الهجوم والدفاع بما يتناسب مع أهداف العملية. لتنفيذ هذه التكتيكيات لا بد من وجود استشارات خارجية وغرف عمليات مشتركة أهمها في تركيا، تشرف على تسيير الأمور اللوجستية للفصائل ومراقبة تحركاتها العسكرية وقراراتها، وتدير المعارك وفق نسق استخباراتي عالي المستوى يضمن تحقيق النتائج المرجوة من العمليات. تلقت قوات المعارضة السورية أسلحتها من عدة مصادر، منها: الدعم الخارجي، إذ تشير تقارير إلى أن الفصائل تلقت دعما عسكريا وماليا وتدريبا وفق تقنيات وتكتيكات حربية حديثة من قبل دول مثل الولايات المتحدة وتركيا وأوكرانيا، حيث قدمت هذه الدول أسلحة وتدريبا ودعما لوجستيا، خاصة للفصائل العاملة في شمال سورية في المدة بين 2019 و2024. هذا الدعم مكنها من ترتيب لوجستيات التسليح سواء على مستوى القطع العسكرية الخفيفة أو الثقيلة من عربات وسلاح مدفعية، والأبرز حديثًا وصول سلاح المسيرات التركية والأوكرانية إلى الفصائل المسلحة. تشمل هذه الأسلحة أيضًا البنادق مثل AK-47، المدافع الرشاشة، المسدسات، صواريخ موجهة مضادة للدبابات (ATGMs) مثل صاروخ TOW، وقذائف المدفعية والهاون والقذائف المضادة للدروع.
بالإضافة إلى ذلك، استولت فصائل المعارضة المسلحة على الأسلحة الموجودة في القطع العسكرية التابعة للجيش السوري النظامي، التي تشمل صواريخ أرض – أرض، وصواريخ أرض-جو، وصواريخ منظومة بانتسير الروسية المخصصة للدفاع الجوي عن المنشآت العسكرية، ومنظومات الدفاع الجوي البعيدة المدى التي من المحتمل أن تتعرض للهجمات من الطائرات والمروحيات والصواريخ المجنحة والطائرات المسيرة.
فرص إعادة “ترتيب الملفات”
فعليًا الدول الضامنة الآن منشغلة في منطقة الشرق الوسط بعدة ملفات، بدءًا من ملف القضية الفلسطينية وحرب إسرائيل على غزة وعدم القدرة على التوصل إلى اتفاق وقف نار حتى الآن، وحرب إسرائيل على لبنان والاتفاق الهش الذي تخرقه إسرائيل بعدة مرات خلال اليوم الواحد، بالإضافة إلى ملف إيران والخليج العربي، والأبرز على الساحة الآن هو ملف سورية الذي يبدو أنه سيتصدر الواجهة في الأيام المقبلة إلى حين الوصول إلى تفاهمات دولية بين الدول الضامنة. على المستوى الأكثر حدّة، فالمعارك ستستمر بتدخلات دولية بدأتها القوات الروسية، على الرغم من ضعفها هذه المرة، لتعزيز موقف دمشق، وتتبعها حكمًا تدخل إيران وتركيا ومن ثم القوات الأميركية وقوات التحالف للجم القوات الإيرانية بالمحصلة؛ وهذا السيناريو سيطيل أمد الحرب المشتعلة مجددا.
أما على المستوى الأقل حدة، فتشير تقارير إلى وجود ضغط على كل من أنقرة ودمشق للعودة مجددا إلى مسار المفاوضات، في حال أرادت دمشق إيقاف التمدد العسكري لفصائل المعارضة والعودة إلى ما قبل 27 تشرين الثاني/ نوفمبر؛ وينجم عنها ربما التزام الفصائل في القرى التي سيطرت عليها، ما يجبر الأطراف على الدخول في حالة توازن ناعمة. أيضًا هنا يُعوَّل على الموقف رغبة الروسي في الدخول في الوساطة لضمان استقرار المنطقة.
بين موسكو وأنقرة تاريخ مليء بالاتفاقات بشأن الملف السوري وأهمها اتفاق سوتشي ،2018 واتفاق خفض التصعيد 2020، الأمر الذي يجعلها تفتح الباب لمفاوضات جديدة؛ وهو السيناريو الذي يحظى بدعم أيضًا من الولايات المتحدة بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، كونه لا يريد أن يبقى الشرق الوسط مشتعلا إلى هذا الحد.
المصدر: عرب 48