"جمهوريّة حيفا"…
في الوقت الّذي أعادت فيه الحرب على غزّة الشعور بالخطر الوجوديّ الّذي بدأ يتبدّد في العقود الأخيرة، بعد أن كان قد رافق إسرائيل منذ قيامها على أنقاض الشعب الفلسطينيّ، وحاول قباطنة حرب الإبادة محوه عبر اللجوء إلى محاولة محو قطاع غزّة عن الوجود، فإنّ ردّة الفعل الشعبيّة العالميّة جاءت معاكسة، وتوّجت بشعار فلسطين حرّة من البحر إلى النهر.
“جمهوريّة حيفا: مستقبل ديمقراطيّ لإسرائيل” هو أحد كتب الكاتب الإسرائيليّ- الألمانيّ الشهير عالميًّا، عمري باهام، الّذي سترى ترجمته العبريّة النور قريبًا، ويتناول فيه حلّ الدولة الواحدة بين البحر والنهر.
باهام ولد في إسرائيل، ونشأ في متسبيه جيلون في الجليل لوالدين محاضرين في العمل الاجتماعيّ، ودرس في برنامج متعدّد المجالات للطلّاب المتفوّقين في جامعة تل أبيب، وحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة ييل الأميركيّة والبوست دكتوراة من جامعة ميونيخ الألمانيّة، وهو يعمل أستاذًا في جامعة نيو كاسل في نيويورك، وبالرغم من أنّه يتمتّع بشهرة دوليّة حيث يكتب ويستضاف في العديد من الصحف والمنصّات العالميّة، إلّا أنّه غير معروف في إسرائيل ربّما بسبب آرائه الّتي يراد التعتيم عليها.
وينطوي اسم الكتاب “جمهوريّة حيفا” على رمزيّة معيّنة بالنظر إلى أنّ حيفا كانت مدينة مختلطة قبل عام 1948، وهو يعارض فيه الحلّ الّذي يطرحه اليمين الإسرائيليّ والمتمثّل بإدامة الاحتلال ضدّ الفلسطينيّين وكذلك الحلّ الّذي يطرحه “اليسار الإسرائيليّ” تحت مسمّى “دولتين لشعبين” ويبيّن أنّ فكرة الدولتين الّتي وردت في أوسلو لم تطرح تسوية حقيقيّة، لأنّ 50% من السكّان الّذين يعيشون بين البحر والنهر كان يفترض أن يحصلوا على سيادة محدودة على 22% من الأرض في منطقتين منفصلتين هما الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة.
ودون الحديث عن مئات آلاف المستوطنين الّذين يسكنون في الضفّة الغربيّة، فإنّ الفكرة كانت، أنّه إذا ما رفض الفلسطينيّون هذه التسوية، فسيفقدون الحقّ في أيّ حقوق، وبالطبع فإنّ تسوية من هذا النوع، كما يقول باهام في مقابلة أجرتها معه صحيفة “هآرتس”، هي بعيدة كلّ البعد عن التعامل مع الفلسطينيّين كشركاء متساوين، ولذلك فهي لا تنطلق من افتراض حقيقيّ يرى بالتوصّل إلى سلام معهم كواجب أخلاقيّ ينبع من مصلحة سياسيّة، ولذلك من غير المستغرب استمرار دعاة هذه التسوية في تأييد الاستيطان.
باهام ينضمّ بذلك، عمليًّا، إلى أصوات كثيرة في الغرب باتت ترى خلال الحرب على غزّة أنّ الحلّ يمتدّ بين البحر والنهر، وهو الشعار الّذي تحوّل إلى هتاف مركزيّ في مظاهرات الطلّاب ومخيّماتهم الّتي عجّت بها جامعات وشوارع أميركا وأوروبا، الأمر الّذي ساهم في زيادة حفيظة إسرائيل ومؤيّديها الّذين ادّعوا أنّها دعوة إلى إزالة إسرائيل عن الوجود، وذلك بالرغم من أنّه ينتقد سلوك اليسار العالميّ في هذا السياق.
إلّا أنّه لا يدّخر أيّ نقد ضدّ المعارضة الإسرائيليّة، من حاربوا ضدّ “الانقلاب القضائيّ” ووضعوا الاحتلال جانبًا باسم الدفاع عن فكرة الدولة اليهوديّة الديمقراطيّة، وينادون اليوم بوقف إطلاق نار في غزّة لأجل إعادة المخطوفين، بالمقابل لم تطلق صرخة واحدة لوقف سياسة التجويع والقصف والتهجير الّتي تمارس ضدّ سكّان غزّة، من قبل القيادات الّتي دعت في السابق إلى حلّ الدولتين ولا من قبل من كانوا يعتبرون ضمير اليسار الإسرائيليّ.
وحتّى عندما تبيّن حجم الكارثة الّتي حلّت بغزّة ظلّ هؤلاء يدّعون أنّ وقف إطلاق النار يمسّ بحقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وإن أظهروا أنّهم يعارضون بن غفير وسموترتش وخطّة الجنرالات والتهجير، إلّا أنّ غالبيّتهم لم يحرّك ساكنًا لمنع كلّ ذلك والتصدّي للهدم الحياة بالكامل في غزّة.
اقرأ/ي أيضًا | اتّفاق لبنان يقوّض حجج نتنياهو حول استمرار الحرب على غزّة
المصدر: عرب 48