دفعوا مهر الحرّيّة ويستحقّونها كاملة
وصل نظام البعث السوريّ بقيادة آل الأسد إلى نهايته بعد حكم دامٍ دامَ أكثر من نصف قرن، بدأ حكم عائلة الأسد تحت شعار “الثورة التصحيحيّة”، وانتهى بدمار كبير وتشريد ملايين ومذابح وحشيّة شتّت شمل السوريّين.
اندلعت الثورة في العام 2011 وبمشاركة ملايين السوريّين، إلّا أنّ هتافات “سلميّة سلميّة ثورة ثورة سلميّة” لم ترق للنظام لقوّة جذبها، ولا هي راقت لأنظمة عربيّة أخرى، رأت أنّ المدّ الثوريّ للشعوب قد يصلها، فجنّدت المخرّبين، وأبرزهم تنظيم داعش الإرهابيّ من جهة، وشبيحة ومجرمي النظام من جهة أخرى، حيث استباح الطرفان دماء وأموال وأعراض السوريّين، وأثخنوا بعضهم ببعض، وبلا شكّ أنّ النظام هو الأساس الّذي يتحمّل المسؤوليّة في ما آلت إليه الأمور.
دفع الشعب السوريّ أثمانًا باهظة نتيجة تعنّت النظام فضجّت جدران السجون في سورية من التعذيب والقتل والإجرام بشتّى وجوهه وثقته الكثير من الأفلام، وهذا جزء صغير جدًّا، والمخفيّ أعظم. ساد الخوف والجريمة والنهب والسلب والفقر.
في هذه الأيّام يفرح كلّ سوريّ اضطرّ إلى اللجوء في بلاد الآخرين، وذاق مرارة العيش غريبًا ونازحًا، فقد تعرّض ملايين من السوريّين إلى الاستغلال والإذلال في دول عربيّة وأوروبّيّة على يد طائفيّين وعنصريّين ومجموعات نازيّة جديدة وحدثت فواجع كثيرة، فأحرقت خيامهم في لبنان، واعتدي عليهم بسادية، وغرقوا في قوارب الهجرة غير الشرعيّة، وعاشوا في مخيّمات، وماتوا بردًا وعدوانًا، وقضوا في شاحنات التهريب بين الدول الأوروبّيّة، وبقي منهم ملايين في تركيّا وفي شمال سورية المقسّم إلى مناطق نفوذ. وقد جرت انتخابات الرئاسة التركيّة في ظلّ التحريض على السوريّين، واتّهامهم بتراجع الاقتصاد، وتحريض القوميّين الأتراك على طردهم، وانتشرت الاعتداءات عليهم.
من حقّ كلّ سوريّ وإنسان ذي ضمير أن يفرح لفرحة الشعب السوريّ الكبيرة والّتي دفع ثمنها مئات آلاف الشهداء.
ما نراه وما وصل إلى الإعلام من تصرّفات “هيئة تحرير الشام” يختلف عن ما كنّا قد رأيناه في السنوات السابقة، ويبدو أنّ هيئة تحرير الشام تعلّموا من دروس المرحلة الماضية.
لم يصدر عنهم حتّى الآن سوى المظاهر الإيجابيّة، وهي تحرير أسرى، وإعلان الأمن والأمان لأبناء الطوائف والمذاهب الأخرى، ولجنود النظام الّذين يستسلمون، ودعوة المسلّحين منهم والمحتفلين إلى الحفاظ على الأمن والممتلكات العامّة لأنّها ملك الشعب السوريّ، والدعوة الأخلاقيّة لدخول دمشق متواضعين، وتأمين الناس على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم. ثمّ الإعلان بأنّ مجرمي النظام سوف يحاسبون من خلال العدالة.
كلّ هذا يطمئنّ ويثير التفاؤل ويبعث الرضا والفرح.
إلى جانب هذه الرسائل الإيجابيّة، يجب الأخذ بعين الاعتبار، أنّ القوى الّتي خرّبت الثورة السوريّة في بدايتها ما زالت موجودة، وأنّ من بين الثوّار مدسوسون، وأجهزة مخابرات من كلّ العالم، وهنالك من يطلقون شعارات مذهبيّة تحريضيّة وإن كانوا أقلّيّة، وهنالك من هم مستعدّون لإثارة الفوضى والغوغائيّة والفتنة، وهنالك من فقدوا أحبّاء على يد شبيحة النظام ولدى بعضهم نزعات انتقاميّة.
بقصد، أو من غير قصد، هناك من ينفخ على جمرة المذهبيّة والطائفيّة ليذكّيها، وهذا ما يجب الحذر والانتباه منه إلى أقصى حدّ.
نضج الشعب السوريّ، وذاق الأمرين بنار الحرب الأهليّة الّتي تحوّلت إلى مقتلة رهيبة، وسيحاول أعداء سورية والعرب والمسلمين وحرّيّة الشعوب إعادة الكرة، كما سلبوا الشعوب العربيّة ثوراتها.
هنالك المتربّصون الّذين لن يهدأوا وسيعملون كما عملوا على حرف الثورة عن أهدافها الأولى، ولهذا فإنّ المرحلة الانتقاليّة حسّاسة جدًّا. قد تنشأ فجأة صراعات مسلّحة مفتعلة بين فصائل تابعة لهذا القائد الميدانيّ أو ذاك، وقد تقوم جهات أجنبيّة بتبنّي هذا الجناح أو ذاك، وقد تقوم أيد مشبوهة بجرائم لإشعال الفتن.
من حقّ الشعب السوريّ محاكمة كلّ من أجرم بحقّه، ولكن يجب أن تكون هذه محاكمات حضاريّة وليست ميدانيّة وعشوائيّة.
من حقّ الشعب السوريّ أن يعود بأسرع ما يمكن للعيش في ظلّ نظام مدنيّ، وإنهاء عقود من حكم العسكر وقوانين الطوارئ.
من حقّ الشعب السوريّ أن يعيش الحرّيّة في التعبير، والتعدّديّة السياسيّة والحزبيّة بما يتماشى مع روح العصر. هذا سابق لأوانه وقد يستغرق وقتًا، ولكن يجب أن تكون البداية مبشّرة.
نجاح الثورة لا يعني تحرير المدن والقصور من رموز النظام السابق فقط، بل يتعلّق إلى حدّ كبير بقدرتها على لمّ شمل السوريّين من مختلف الأطياف المذهبيّة والطائفيّة والاتّجاهات الفكريّة، والترفّع عن التشدّد والعصبيّات بشتّى صورها. لقد دفع الشعب السوريّ مهر حرّيّته غاليًا جدًّا، وحقّه أن يحصل عليها كاملة من غير نقصان.
المصدر: عرب 48