تحوّلات كبرى في تعريف الفضاءات الاستعماريّة
ثَمّة تحليلات عديدة ومتنوّعة، تحاول تفكيك وقائع الأحداث الدراماتيكيّة المتسارعة التي يشهدها الشّرق، وفقًا لتفاعلاتها السّياسيّة في الإقليم وخارجه على حدّ سواء، خاصّة وأنّ الشّرارة الأولى، كانت قد أُشعلت بحسابات معقدة، أو مشوّشة، في السّابع من شهر أكتوبر عام 2023 انطلاقًا من القطاع المحاصر لما يقرب من العقدين من الزّمن، بوصفه ساحة تدافع ومقاومة.
فبعيدًا عن النّتائج التّكتيكيّة أو الاستراتيجيّة، لوقائع المشهد الميدانيّ وتداعياته المتداخلة، لا بدّ من قراءة خلفيّات المشهد الجيوسياسيّ الذي عرّته هذه الأحداث الأخيرة بعقل بارد، لفتح نوافذ المعطيات الاستراتيجيّة لكامل أحداث الشّرق، وعلاقة هذه المعطيات بعدّة عوامل أساسيّة، ترتبط جميعها بتصوّرات ما يُراد للمنطقة من إعادة ترتيب ديموغرافي وجغرافي بأبعاد اقتصاديّة وسياسيّة، بداية من الضربات المباشرة والمتبادلة بين إسرائيليّة والدّولة الإيرانيّة، وصولًا إلى ما يجري على أرض الدّولة السّوريّة، وما بينهما من مذكّرات اعتقال لنتنياهو ووزير دفاعه المُقال؛ واتّفاق وقف إطلاق النّار على الجبهة اللّبنانيّة، في ظلّ إزاحة عدسات الإعلام عمّا يحدث في فلسطين، سواء ارتبط الأمر باستمرار حرب الإبادة في غزّة، أو تهيئة الأرض لضمّ الضّفّة الغربيّة.
مما لا شكّ فيه أنّ المشهد الجيوسياسيّ في الإقليم، كان مشغولًا طيلة العقود الأربعة الماضية، في الواجهة العامّة بوجود مشروعين توسّعيّين متناقضين، يتكئ أحدهما على الأسطورة، والآخر على أمجاده التّاريخيّة الغابرة، هما المشروع الصّهيونيّ، والإيرانيّ، تزاحمهما أحيانًا طموحات العثمانيّة الحديثة، المسكونة بإمكانيّة استعادة مكانها ومكانتها على صدر الخارطة الجيوسياسيّة للإقليم وخارجه، بيد أنّ تحالفات الأوّل جعلته مشروعًا غربيًّا يخدم المركز، لا مشروع دولة تناور في حدود الهامش؛ فيما تمكّن الثّاني، أي الإيرانيّ، بعد حرب الخليج الأولى، من التّمدّد خارج حدوده الجغرافيّة، ممّا ساهم في تغيير عقيدته العسكريّة التي باتت تجابه أعداءه انطلاقًا من الخارج عبر الأدوات والأذرع، بينما حوصر المشروع التّركيّ من الشّرق والغرب لأسباب متعدّدة ومتداخلة يرتبط أبرزها بصراع الحضارة الغربيّة مع الحضارة الإسلاميّة “السّنيّة” تحديدًا.
فإذا ما حاولنا قراءة معطيات التّحوّلات الدّراماتيكيّة التي يشهدها الإقليم، ومؤخّرًا الدّولة السّوريّة، على خلفيّة إخراج السّاحة اللّبنانيّة من معادلة محور المقاومة، وتردّد السّاحة العراقيّة، بعد تراجع الموقف الإيرانيّ؛ سنجد أنّنا إزاء نجاح ملموس للانقضاض على كامل المحور، وكلّ وجوه المقاومة داخل الحدود الفلسطينيّة وحولها، ليس إضعافًا ومحاصرة للمشروع الفارسيّ الذي ذهب إلى ما يشبه التّخلّي عن طموحاته التّوسّعيّة وحسب، ولكن أيضًا لتكبيل وتطويق أيّة تحرّكات إقليميّة تحاول تعديل كفّتي الميزان المعتلّ لصالح المشروع الصّهيوأمريكيّ الدّاعي لشرق أوسط جديد، تكون الدّولة الإسرائيليّة في مركزه اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا.
أمّا المعطى الموازي، فيمكننا ملاحظته في التّحرّكات الإسرائيليّة الأخيرة، على السّاحة الفلسطينيّة الأساسيّة، والتي تبحث فيها الحكومة المتطرّفة عن هدف التّغيير الدّيموغرافيّ والجغرافيّ لفرض السّيطرة والتّحكّم على كامل فلسطين التّاريخيّة، عبر مخطّط الضّمّ للضّفّة الغربيّة ليكون العامل الأهمّ للحيلولة دون عودة الحديث عن مشروع حلّ الدّولتين، بالتّزامن مع ارتفاع وتيرة حرب الإبادة في القطاع تنفيذًا لمخطّط التّطهير العرقيّ الكلّي أو الجزئيّ؛ إذ ذهبت حكومة التّطرّف الإسرائيليّة إلى اعتماد عدّة قرارات جديدة، تعمل مجتمعة على خلق وقائع تنفيذيّة على الأرض تهيئة لمشروع الحسم؛ أهمّها يكمن في إقرار قوانين جديدة لتطوير البنية التّحتيّة للمستوطنات الصّهيونيّة في الضّفّة الغربيّة، بالإضافة إلى قرار إغلاق بوابة الإدارة المدنيّة، وصولاً إلى قرار مصادرة 24 ألف دونم من أراضي الضّفّة لصالح الاستيطان وتوسيعه قبل استلام الجمهوريّين لمقاليد الحكم في البيت الأبيض، وهو ما عبّر عنه وزير الماليّة المتطرّف بتسلئيل سموتريتش بالقول: “لقد تحدّثت مع نتنياهو ومع سفيرنا القادم في واشنطن والأمر جدّيّ جدًّا، سوف نستغلّ زخم وجود الإدارة الجديدة لإلغاء الإدارة المدنيّة”.
المعطى الثّالث في هذا السّياق، يشير إلى انخراط اللّاعب التّركيّ في تفاصيل التّرتيبات الإقليميّة بما يراه البعض تنسيقاً صريحاً مع طرفي المعادلة الفاعلة الإسرائيليّ، والأمريكيّ، وربّما مع إدارة الجمهوريّين على وجه التّحديد، وكأنّنا أمام تحالف للإمبرياليّة الأمريكيّة الصّهيونيّة مع العثمانيّة الجديدة؛ وهو ما يعني أنّنا إزاء عوامل متجدّدة دخلت على خطّ المشهد الجيوسياسيّ لإعادة ترتيب الشّرق الجديد؛ ما يطرح سؤال الشّراكات والتّحالفات الجديدة؛ هل تغيّر موقع اللّاعب الإيرانيّ من حيزه المقاوم للمشروع الصّهيونيّ، إلى موقع الشّريك الباحث عن مكانه الجديد في كامل مشهد الشّرق المستهدف؟ وماذا عن الدّور التركي، هل غيّر من حساباته الاستراتيجيّة فاكتفى بدور الشريك عوضاً عن أحلام السّطوة والقيادة، بعد محاولته إعادة إحياء الطموحات التركيّة في الشّرق، وانكفاء هذه المحاولات من المتوسّط إلى القوقاز لأسباب متعددة ومتداخلة؟ والموقف اللّافت لربّما يكوّن الموقف الروسيّ الذي عمل طيلة العقد الماضي على تعزيز حضوره في منطقة النفوذ الأمريكيّ بوضع القدم الفاعل في المنطقة عبر البوابة السوريّة تحديداً؛ ما يؤكّد العمل بمبدأ المقايضات المحتملة، القائمة على لغة المصالح، ومفردات القوّة، كعوامل أساسيّة لشكل الموقف السياسيّ، خاصّة مع صعود ترامب لقيادة البيت الأبيض، وعلاقته القويّة مع الدّبّ الروسيّ، وإمكانيّة الذّهاب إلى مقايضة السّاحات الوظيفيّة، كما حال الساحة الأوكرانيّة بالساحة السوريّة، على سبيل المثال لا الحصر!
غير أنّ المفارقة اللّاذعة في كامل هذا المشهد، تتطلّب الكثير من الفحص والدّراسة، وفق الكثير من المتابعين والمحلّلين، تكمن في انزياح مفهوم الجهاد، وتقزيم هويّّته الدّينيّة بمنطقها المتّكئ على البعد الأخلاقيّ، ليتدفّق هذا المفهوم بصورته المستجدّة من شكله المقاوم لكلّ عدوّ ومستعمر، إلى مقاربته النّيوجهاديّة ورهاناته على العدوّ والمستعمر، إن صحّت الأنباء المشيرة إلى غضّ طرف المعارضة السوريّة، لما تقوم به الدّولة الإسرائيلية في الجولان، وتأكيد الأولى عدم نيّة الصّدام مع الثّانية، وكأنّها تتفاعل وتتلاقح وتتكامل معه، في سياق إعادة ترسيم الشّرق وتفاعلاته السّياسيّة التي ستخلّف بالضّرورة والاحتمال، تحوّلات كبرى، في تعريف الفضاءات الاستعماريّة وأدواتها.
المصدر: عرب 48