77 عامًا على قرار التقسيم: من مؤتمر لندن 1946 حتّى خطاب غروميكو في الأمم المتّحدة 1947 (32/8)
الرفض القاطع لأفكار لجنة “موريسون چريدي” من قبل العرب واليهود على حدٍّ سواء جعل بريطانيا تدعوهم، في محاولة يائسة وأخيرة، إلى مؤتمر لندن في 9 أيلول / سبتمبر 1946، لنقاش مفتوح يقوم على أساس مقترحات اللجنة المذكورة أعلاه، كبداية إلى حلٍّ من الممكن أن يلاقي تأييدًا من الطرفين. ولكن هيهات، حيث رفض الطرف الصهيوني حضور المؤتمر رفضًا لمشروع “موريسون چريدي” واحتجاجًا على اعتقال جزء من قيادة الوكالة الصهيونية في حملة “أجاثا”. كذلك كان شأن الهيئة العربية العليا (الفلسطينية)، التي رفضت الحضور بسبب أن المشروع هو عبارة عن مشروع تقسيم، يرفضه العرب جملة وتفصيلًا. مع ذلك، وتلبية لطلب وزير الخارجية البريطاني “بيفن” حضر ممثلون عن الدول العربية وهم: نوري السعيد عن العراق، وحافظ رمضان عن مصر، وعبد الرحمن عزام عن جامعة الدول العربية.
أما أمريكا، فلم تحضر المؤتمر أيضًا، مع أنها أصبحت شريكًا لبريطانيا في إيجاد حل في فلسطين، وذلك لأن الرئيس الأمريكي يرفض الخطة، بل واقترح مشروعًا بديلًا لها هو عبارة عن مشروع تقسيم جديد، كما تقدم في الحلقة السابقة.
عمليًا كانت مباحثات المؤتمر عقيمة، ويقال إن “أتلي” ووزير خارجيته اعتقدا أن المؤتمر لن يسفر عن حلٍّ جديد لم تأتِ به لجنة سابقة، بل أرادوا من المؤتمر أن يوضحوا للولايات المتحدة أن فشل المؤتمر سيؤدي بهم إلى الذهاب للأمم المتحدة بدون أي اقتراحات مسبقة. كانت بريطانيا قد أعلنت سابقًا، وبالتحديد في شهر نيسان / أبريل 1946 في اجتماع حلّ عصبة الأمم، إنها ستستمر في انتداب فلسطين بناءً على تصريح من الأمم المتحدة التي تأسست مكان عصبة الأمم، لذلك من الطبيعي أن أي حلّ مستقبلي في فلسطين، عليه أن يأخذ موافقة من المؤسسة الأممية حديثة العهد.
استمر المؤتمر، في جولته الأولى، حتى 2 تشرين أول / أكتوبر 1946، حيث توقفت المباحثات حتى منتصف كانون أول / ديسمبر 1946. أما ترومان فاستمر في الضغط على بريطانيا من أجل هجرة 100 ألف يهودي إلى فلسطين، ولذلك صرّح في 4 تشرين أول / أكتوبر بأن هناك حاجة ملحة لإدخال 100 ألف يهودي فورًا إلى فلسطين، وأن الإدارة الأميركية تؤيد مشروع التقسيم الذي اقترحته سابقًا على بريطانيا. وكان سبب موعد هذا التصريح، الذي أحرج بريطانيا أيّما حرج أمام أصدقائها العرب، هو يوم عيد الغفران (الكيبور) لليهود، والذي يصادف 5 تشرين أول / أكتوبر 1946. فالرئيس “ترومان”، أراد من تصريحه هذا أن “يخفّف مشاعر الألم لدى اليهود”، أو هكذا قال في ردّه على تساؤل “أتلي” عن التوقيت العجيب لهذا التصريح، الذي يعمل على تخريب مساعي بريطانيا في مؤتمرها “الفاشل” أصلًا. أما السبب الحقيقي لتوقيت هذا التصريح فهو معرفة “ترومان” أن منافسه الجمهوري في الانتخابات الجارية في أميركا، سيصرح في 6 تشرين أول / أكتوبر، بأن المطلوب هو هجرة مئات الآلاف من اليهود إلى فلسطين، ولا يمكن الاكتفاء بالعدد المطروح من قبل الرئيس الحالي. وفي نفس هذا اليوم، أي 6 تشرين أول / أكتوبر، ومن أجل استغلال التأييد الأميركي الجارف لمشروع الحركة الصهيونية، قامت منظمة “الهجاناة” ببناء 11 مستوطنة جديدة في النقب، الذي سيصبح حسب خطة التقسيم الأميركية جزءاً من الدولة اليهودية.
مؤتمر لندن يستأنف أعماله
طالب البريطانيون أن يضع العرب خطة بديلة لخطة “موريسون چريدي”، بدل أن يعلنوا رفضهم لها فقط، فقدّم العرب مشروعًا بديلًا في 2 تشرين أول / أكتوبر 1946، فطلب الوفد البريطاني مهلة لدراسة المشروع العربي، ولذلك تم تعليق أعمال المؤتمر حتى الانتهاء من ذلك.
كان المشروع العربي عبارة عن مطالبة بإعلان دولة فلسطينية واحدة، للعرب واليهود، مع حكومة ديموقراطية ودستور تضعه لجنة مخصوصة لذلك. على أن تكون هناك حكومة انتقالية يترأسها المندوب السامي مكونة من سبعة أعضاء عرب وثلاثة يهود. في هذه الدولة المقترحة يتمتع اليهود بحقوق كاملة، وتحافظ الحكومة على الأماكن المقدسة في القدس وغيرها، وأن يترك موضوع الهجرة اليهودية لهذه الحكومة الفلسطينية التي تبحثه وتقرر فيه. كما تعقد اتفاقية تعاون مع الدولة البريطانية.
عند تعليق المؤتمر وبسبب المشروع العربي، قررت الزعامة الصهيونية أن آن الأوان من أجل المشاركة في مباحثات المؤتمر، في حل تجدده، لكن المشاركة تم رفضها في المؤتمر الصهيوني الذي انعقد في كانون أول / ديسمبر 1946 بأغلبية الأصوات. أما الطرف العربي المتمثل بالجامعة العربية، فقد عقد اجتماعًا في أواخر تشرين أول / أكتوبر 1946، وأعلن فيه عن احتجاجه الشديد على الحكومة البريطانية التي ما زالت تسمح لليهود بالهجرة إلى فلسطين. كذلك تم الاحتجاج على سياسة الولايات المتحدة وتدخلها في القضية الفلسطينية.
استأنف المؤتمر في لندن أعماله بدءاً من 28 كانون ثانٍ / يناير 1947، باشتراك الهيئة العربية العليا ووفود الدول العربية فقط. وفي المؤتمر أعلن الوفد البريطاني رفضه للمشروع العربي، واعتبر أن خطة “موريسون چريدي” هي الأفضل، مع بعض التعديلات التي أضافها الوفد البريطاني، حيث اقترح ضم أجزاء من النقب للقسم اليهودي، إرضاءً للرئيس الأميركي واقتراحه للتقسيم. رفض العرب الخطة الأصلية والمعدّلة بشكل قاطع.
أراد “بيفن”، وزير الخارجية البريطاني، أن ينقذ مؤتمره المأزوم، فأدلى بدلوه في موضوع المسألة الفلسطينية، حيث قدم اقتراحًا جديدًا عُرف بمشروع “بيفن”، وهو مشابه لتوصيات “موريسون چريدي” لكنه لا يعتقد أن التقسيم هو الحلّ الوحيد القابل للتحقيق، بل يدعو إلى استمرار الانتداب لخمس سنوات أخرى، تؤسّس خلالها مجالس وهيئات عربية ويهودية مستقلة ذاتيًا، وأن تكون الهجرة إلى المنطقة اليهودية فقط، وأن يكون تعداد المهاجرين 96 ألف يهودي خلال العامين المقبلين. بعد مرور السنوات الخمس، يبحث جميع الأطراف مصير البلاد مرة أخرى.
تم رفض مشروع “بيفن”، الذي يؤكد الرأي السائد بأن بريطانيا تريد أن تظهر للجميع، وخاصة الولايات المتحدة، بتعذر الوصول إلى حلّ مقبول على اليهود والعرب، وأن يكون هذا الحلّ قابلًا للتطبيق. مع هذا الرفض، وصلت بريطانيا إلى طريق مسدود، ولذلك أعلن “بيفن” عن نهاية المؤتمر وضرورة تحويل أمر المسألة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة، بدون أي شروط أو اقتراحات مسبقة. كان ذلك في 18 شباط / فبراير 1947.
تحويل قضية فلسطين إلى الأمم المتحدة 1947
كانت فكرة “بيفن” عندما أعلن عن تحويل قضية فلسطين إلى الأمم المتحدة، تقضي بأن يمنع أي صدام مباشر لبريطانيا مع الدول العربية من جهة، وأن يضع الولايات المتحدة في صدارة إدارة الصراع العربي الصهيوني من جهة أخرى، حيث إن اشتراكها في إيجاد حلّ للصراع في فلسطين، سيجعلها ترفع يدها عن بريطانيا، وتخفف ضغطها من أجل هجرة 100 ألف يهودي. لذلك أعلن “بيفن” تحويل القضية للأمم المتحدة بدون أية توصيات للحل المنشود، وبدون أن يصرح أنّ بريطانيا ستستمر في انتدابها لفلسطين، أو أنها ستنهي وظيفتها في البلاد.
وبينما يعتقد البعض بأن تحويل القضية للأمم المتحدة كانت بسبب الوصول إلى طريق مسدود من قبل بريطانيا، وخيبة أمل “بيفن” من أن يقنع العرب والصهاينة على قبول مقترحات لجانه الرسمية أو مؤتمراته، يرى البعض الآخر أن وزير الخارجية البريطاني حوّل القضية إلى الأمم المتحدة كنوع من التهديد المبطّن لأميركا بأنها ستأخذ الأمور على عاتقها، أو تعطي بريطانيا مزيدًا من الوقت لإيجاد حلّ يضمن لها إبقاء السيطرة بيديها.
من ناحية أخرى، كانت أميركا وحليفتها بريطانيا مهتمتين بأن لا تتركا ساحة فلسطين لدولة عظمى أخرى، تقود المعسكر الاشتراكي في وجه المعسكر الغربي، ألا وهي الاتحاد السوفييتي والتي كانت تريد أن توسع نفوذها داخل الشرق الأوسط عن طريق القضية في فلسطين. بسبب ذلك عملت الدولتان، أميركا وبريطانيا، ومن أجل ضمان عدم دخول الاتحاد السوفييتي إلى الصورة، وذلك بالتنسيق بينهما قبل انعقاد أي جلسة في الأمم المتحدة من أجل بحث قضية فلسطين.
في المرحلة الأولى قررت أميركا وبريطانيا في بينهما، عدم طلب بحث الموضوع في مجلس الأمن، بسبب قدرة الاتحاد السوفييتي على أخذ دور مركزي هناك، لذلك اقترحت أميركا أن يتحول الموضوع إلى مجلس الأمناء المسؤول عن الانتدابات، ولكن هذا الاقتراح سقط بسبب أن بريطانيا يجب أن تتخلى عن انتدابها لفلسطين في حالة تحويل الموضوع لمجلس الأمناء، وهذا ما لا تريده بريطانيا.
استمرت بريطانيا في مداولاتها بهذا الشأن، مع إضافة الأمين العام للأمم المتحدة “تريچڤا لي” للمشاورات، حيث إن اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة سيكون في خريف عام 1947، وهذا بعيد بالنسبة ل”بيفن” والذي يريد بحث هذه القضية بالسرعة القصوى الممكنة. اقترح “لي” أن يعين بنفسه لجنة خصيصًا للموضوع، ويأخذ موافقة على هذه اللجنة من الدول الخمس الأعضاء الثابتين في مجلس الأمن، ولكن اقتراحه لم ينفذ بسبب احتجاج وزير الخارجية العراقي على الأمر بشدّة أمام الأمين العام، وحذّره من أن هذا من شأنه فقدان الثقة بالأمم المتحدة.
كان “بيفن” قد اقترح الدعوة إلى اجتماع خاص وسريع للجمعية العامّة لبحث قضية فلسطين، ولكن هذا الاقتراح كان مرفوضًا من قبل أميركا، خوفًا من أن تضطر إلى طرح تصورها للحلّ أمام باقي الدول، ولكن بعد أن فشل اقتراح الأمين العام “لي”، صارت تضغط من أجل جلسة خاصة للأمم المتحدة، ولتنفيذ ذلك كان على بريطانيا أن تقدم طلبًا لذلك إلى الأمين العام. ولأن أغلب الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وافقت على انعقاد الجلسة الخاصة، قامت بريطانيا بتقديم طلبها لعقد الجلسة في 2 نيسان / أبريل 1947.
الأمم المتحدة تقرر إرسال لجنة خاصة إلى فلسطين 1947
افتتحت الجلسة الخاصة للأمم المتحدة في 28 نيسان / أبريل 1947. كانت مهمة الجلسة حسب الطلب البريطاني، هي تشكيل لجنة خاصة لبحث قضية فلسطين، وأن تكون هذه القضية هي الوحيدة على جدول الأعمال. في ذلك الوقت كانت الأمم المتحدة مكونة من 54 دولة، تنقسم بسبب الجغرافيا والسياسة إلى عدة مجموعات: مجموعة دول أميركا اللاتينية، وتضم 20 دولة، وكانت هذه المجموعة الأكبر وكانت دولها تحاول جاهدة في إثبات وجودها أمميًا، ولذلك نشطت بشكل كبير في اجتماع الأمم المتحدة، بل إنها استطاعت أن تحسم التصويت في كثير من الأحيان لصالح موقفها. كانت مجموعة دول آسيا وأفريقيا ليست متجانسة مثل المجموعة اللاتينية، وكان هذا طبيعيا لاختلاف منطلقات دولها وثقافاتهم، وكذلك كانت مجموعة دول غرب أوروبا واسكندنافيا؛ حيث إن هذه الدول كانت بالمجمل تميل إلى صالح الصهيونية، وتتعاطف مع مطالب اليهود، ولكن كل دولة فيها انتهجت نهجًا مستقلًا عن باقي الدول. ورغم الاعتقاد بأن مجموعة دول أوروبا الشرقية ستكون موحدة على رأي واحد خلف الاتحاد السوفييتي، إلا أن دول هذه المجموعة كانت تتصرف باستقلالية عن الموقف السوفييتي بل كانت لها آراء مختلفة وتصويت مختلف. كذلك الأمر لدى مجموعة دول “الكومونولث” التي لم تتبع مواقف بريطانيا حرفيًا، بل اتخذت في بعض الأحيان منحى الاستقلالية في آرائها. مجموعة الدول العربية الخمس مصر سورية والعراق والسعودية ولبنان، كانت المجموعة الوحيدة التي تنسق فيما بينها وتصرّ على موقف واحد مشترك، وهو رفض كل حلّ من الممكن أن يؤدي إلى تقسيم فلسطين أو إنشاء دولة أو كيان لليهود فيها.
أصرت الدول العربية على تغيير جدول أعمال الدورة الخاصة للأمم المتحدة، واقترح ممثلوهم من على منبر الاجتماع بأن تقوم الأمم المتحدة بالإعلان عن إقامة الكيان العربي في فلسطين، حيث إن لا حاجة لإرسال لجنة إلى فلسطين تكون كسابقاتها، حيث ستضع تصورًا يحمل في طياته ظلمًا وغبنًا للشعب العربي في فلسطين. وهاجم العرب سياسة الدولة المنتدبة التي كانت تستند إلى وعد بلفور الغير شرعي والغير ديموقراطي لأنه يمسّ بمصالح عرب فلسطين، ونفوا علاقة اليهود الأوروبيين بفلسطين، وأن اليهود الأصليين موجودون في الدول العربية فقط، كما قال مندوب سورية فارس الخوري.
لم توفق الوفود العربية في مطلبها، حيث صوتت الجمعية العام على إضافة البند الذي طالب العرب بإضافته لجدول الأعمال في 1 أيار / مايو 1947، وسقط هذا الاقتراح بأغلبية 24 معارضًا و 15 مؤيدًا وامتناع 10 دول عن التصويت. كذلك تم التصويت في جلسة الأمم المتحدة في 3 أيار / مايو 1947، وتقرر بأغلبية كبيرة أن يتم إرسال لجنة خاصة للتحقيق في الوضع في فلسطين، وتقدم توصياتها واقتراحاتها للأمم المتحدة قبل دورتها العادية التي كان مقررًا أن تعقد في شهر أيلول / سبتمبر 1947.
فشلت الدبلوماسية العربية في إقناع المجلس بطلبها، بسبب الآراء المسبقة لدى الدول الأعضاء، وعدم قدرة العرب على المناورة بشكل صحيح بين هذه الدول، كما فعلت الحركة الصهيونية، والتي خافت في البداية من عرض الموضوع على الأمم المتحدة، بسبب عدم خبرتها في هذه المؤسسة، ولكنها سرعان ما تداركت نفسها ونجحت في استغلال مؤيديها من أجل التأثير على مواقف الآخرين، حيث إن قرار انتداب لجنة خاصة سيكون في صالحهم بشكل قاطع، وسيستغلون وجودها أحسن استغلال من أجل الوصول إلى مبتغاهم.
اللجنة العربية العليا والوكالة الصهيونية أمام الجمعية العامة
قبل الخوض في تركيب اللجنة وأعضائها في الجلسة الخاصة للأمم المتحدة، تمّ إقرار أن يقوم ممثلون عن الوكالة الصهيونية بإلقاء خطابات في الاجتماعات، مع أن الوكالة الصهيونية ليست دولة، ولا يُسمح لغير الدول الأعضاء بالاشتراك في الجلسة، وبرغم معارضة الدولتين العظمتين بريطانيا والولايات المتحدة ذلك. لكن أوروجواي وبولندا وتشيكوسلوفاكيا، طلبوا بشدّة بإعطاء حق الكلام لممثلي الصهيونية بشكل خاص، لأنهم غير ممثلين من قبل أي دولة، بينما هناك خمس دول عربية تمثل عرب فلسطين. وحسم هذا الأمر عند تدخل ممثل الاتحاد السوفييتي “أندريه جروميكو” لصالحه، الذي طالب أن يتحدث ممثلو الوكالة الصهيونية في الجلسة، مما أحرج الولايات المتحدة وبريطانيا وجعلهما توافقان على مشاركة المؤسسة الصهيونية، وبذلك أتيحت الفرصة للجنة العربية العليا أن تلقي بكلماتها أمام المجلس أيضًا، وذلك لأن هذا يعتبر توازنًا بين طرفي النزاع في فلسطين.
في 8 أيار / مايو 1947، اعتلى هنري كتن واميل الغوري منصّة الأمم المتحدة لتمثيل اللجنة العربية العليا. حاول هنري كان أن يقنع الحضور، استنادًا إلى القانون الدولي، بانتهاء المشروعية الدولية للانتداب البريطاني على فلسطين، وذلك لأنه أقرّ على يد عصبة الأمم التي انتهى دورها وحلّت. لذلك يجب أن تعود السلطة إلى السكان الأصليين، كذلك فإن وعد بلفور باطل وكل ما نتج عنه، بما فيها الهجرة اليهودية، باطل أيضًا. وأشار إلى أن هذا الوعد أعطى من بريطانيا لليهود بدون علم وموافقة الشعب الأكثر تأثرًا من ذلك. كما أن وعد بلفور يتنافى مع حقوق الشعوب في تحقيق مصيرها كما ينص دستور الأمم المتحدة. كذلك يتعارض هذا الوعد مع التعهدات التي أعطيت للعرب قبله وبعده. وقال أيضًا أن القانون الدولي لا يجب أن يستند إلى حقّ تاريخي مزعوم، لأن دولة يهودية كانت قائمة، فقط، في جزء من فلسطين قبل ألفّي عام. وقال أيضًا إن مشكلة اليهود اللاجئين في أوروبا هي مشكلة العالم أجمع، وليس فلسطين وحدها هي التي يجب أن تتحمل عبء حلّ مشاكلهم، بالرغم من أنها ليست المسبب لما حدث معهم، أي يهود أوروبا، وأن الوقت قد حان لحصول فلسطين على استقلالها، ووقف إضعاف البنية الإثنولوجية والسياسية للبلاد على يد أعلى هيئة عالمية.
أما الوكالة الصهيونية، فمثلها “دافيد بن غوريون” و”موشي شاريت” و”آبا هيلل سيلفر”. قام رئيس الوكالة “بن غوريون” بمهاجمة بريطانيا، وأشار إلى تطلع اليهود إلى إقامة دولتهم في فلسطين. أما “هيلل سيلفر” فقد استند إلى وعد بلفور في خطابه قائلًا إن هذا الوعد نابع من “حقوق تاريخيّة وحاجات آنية”، مشيرًا إلى أن هذا الوعد قد أعطي قبل جيل واحد فقط، ولذلك فالدولة اليهودية ما زالت طور الإنشاء ولم تكتمل بعد، كما أن المجتمع الدولي لم يقم بإلغاء هذا الحقّ.
قال “أبا هيلل سيلفر” أن مشكلة فلسطين ليست مجرد مشكلة توفيق بين طرفي صراع، بل إنها الحلّ لمشكلة اللاجئين اليهود في أوروبا والتي ما زالت مستمرة رغم مرور عامين على توقف الحرب. كذلك اعتبر أن اليهود مثلهم كباقي الشعوب ولديهم الحق في إقامة دولتهم المستقلة، وأن يتمثلوا في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
أما “موشي شاريت” فقد قام باتهام المفتي محمد أمين الحسيني، رئيس اللجنة العربية العليا” بأنه كان شريكًا فعليًا في القضاء على يهود أوروبا. كان هذا جزءاً من دعاية صهيونية أميركية ضد اللجنة العربية العليا ورئيسها، حيث إن الوكالة الصهيونية وزعت على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة مذكرة مطوّلة تتضمن معلومات عن وقوف المفتي إلى جانب دول المحور، وضمت المذكرة صورة له مع الزعيم الألماني “أدولف هتلر” في برلين. زعمت المذكرة أن اللجنة العربية العليا هي “صنيعة جامعة الدول العربية”، وأنها تدار من مصر بواسطة المفتي الحاج أمين الحسيني، وإن أعضاء اللجنة ليسوا منتخبين بل إنهم “صفقة بين زعماء الأحزاب العربية في فلسطين”. ووصفت المذكرة ثلاثة أعضاء من اللجنة العربية العليا وهم: إميل غوري رئيس وفد اللجنة العربية العليا في اجتماع الأمم المتحدة، والمندوبين واصف كمال وراسم الخالدي، بأنهم “من أسوأ مجرمي الحرب من بين دول المحور”. كذلك ادعت المذكرة بأن المفتي كان يرافق “أدولف آيخمان” في زياراته لغرف الغاز في “اوشفيتس”.
كان ردّ اللجنة العربية العليا على هذه المعلومات عن طريق إميل الغوري الذي قال في خطابه: أنه يستغرب من أن يقوم ممثل الشعب الذي صلب المسيح بمهاجمة رجل دين عربي. أثار هذا الخطاب غضب الموجودين، وتم تحذيره بعدم التطرق لهذا الأمر مرّة أخرى، وذلك عن طريق ممثل أستراليا، رئيس اللجنة السياسية في المؤتمر. كما أن وفود الدول الأخرى انتقدوا فيما بينهم عدم ردّ اللجنة العربية العليا على ادعاءات تعاون الحسيني مع النازيين، والاكتفاء بكيل المديح له.
مع ان الوفد الفلسطيني والحاج أمين الحسيني في مذكراته اعتبرا أن تمثيل الهيئة العربية العليا للفلسطينيين في الأمم المتحدة كان إنجازا كبيرًا، بحكم أن اللجنة أسمعت صوتها لكل العالم، إلا أنه يمكن تلخيص الجلسة بأنها كانت نجاحًا للحركة الصهيونية أكثر منه للجنة العربية، حيث إن الصحف الأميركية والبريطانية قامت بدعم الموقف اليهودي، ودعت الأمم المتحدة إلى تلبية المطالب الصهيونية.
تشكيل اللجنة الخاصة للأمم المتحدة بشأن فلسطين (أنسكوب)
كان تشكيل اللجنة أو تركيبتها مسألة كبيرة بحدّ ذاتها، حيث إن بريطانيا إرادتها لجنة موسعة من 26 دولة، حتى تستطيع أن تجري دراسة شاملة عن الوضع، لكن أميركا في المقابل إرادتها مكونة من 7 أعضاء فقط، لدول “محايدة” كما تعتقد أميركا، ولذلك كانت قد اقترحت على اللجنة السياسية أن تتمثّل الدول التالية في اللجنة الخاصة وهي: هولندا وكندا والسويد وتشيكوسلوفاكيا والهند وبيرو والأورغواي. كانت أميركا تريد أن لا تشترك الدول الخمس العظمى في اللجنة، حتى لا تعطي الاتحاد السوفييتي الإمكانية للسيطرة على أمور اللجنة، وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى العديد من الدول، وحتى التي اقترحتها الولايات المتحدة، خوفًا من أن تكون قرارات اللجنة الخاصة حبرًا على ورق، حيث من الممكن أن ترفضها إحدى الدول العظمى.
الوكالة الصهيونية كانت تفضل لجنة مكونة من ممثلي الدول العظمى، بالإضافة إلى دول أخرى. أما بريطانيا فكانت تتضمن في اقتراحها أن يكون للعرب ثلاثة ممثلين في اللجنة الموسعة من 26 عضوًا. كذلك اقترح وزير الخارجية العراقي تمثيلًا لبلاده في اللجنة. كذلك اقترح الأمين العام للأمم المتحدة إضافة لاقتراح بريطانيا أن يكون في اللجنة تمثيلًا للدول العظمى، مما سهّل الأمر على الولايات المتحدة التي أصرت على اقتراحها. لم تعارض بريطانيا الاقتراح الأميركي؛ لأنها أرادت أن تأخذ هذه دفة أمور تأليف اللجنة وعملها، وبذلك تخفف الضغط عنها.
وافقت أغلب الدول على الاقتراح الأميركي بأن تكون الدول “محايدة”، لكن المندوب الأسترالي الذي كان يريد لبلاده أن تكون ممثلة باللجنة، اقترح توسيع اللجنة من 7 إلى 11 عضوًا، مما وافقت عليه الأغلبية من الأعضاء. وفي يوم 13 أيار / مايو 1947، تمّ التصويت على اقتراح روسي بأن تضم اللجنة الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن، ولكن الأغلبية رفضت هذا الاقتراح، مما دعي بولندا إلى اقتراح لجنة مكونة من 11 عضوًا تضم في داخلها الدول الخمس الكبرى، لكن هذا الاقتراح رفض أيضًا.
أخيرًا، قدمت أستراليا اقتراحها بأن تكون اللجنة مكونة من 11 عضوًا من دول غير الدول الخمس العظمى، حيث أضافت إلى الاقتراح الأميركي الدول الآتية: إيران وأوستراليا وغواتيمالا ويوغوسلافيا، مما يعني إضافة دولة من كل مجموعة: إيران من آسيا، وأستراليا من دول الكومنولث، ويوغوسلافيا من المعسكر الشرقي، وغواتيمالا من الدول اللاتينية. نجح الاقتراح بأغلبية صوتين فقط، حيث إن 31 دولة امتنعت أو تغيبت عن التصويت، لذلك حصل الاقتراح على 13 مؤيدًا مقابل 11 معارضًا، رغم أهمية الموضوع التاريخية وتأثيره على مصير شعب وأرض.
بعد التصويت على تركيبة اللجنة، بقي شيئان للبحث فيهما، الأول هو الصلاحيات المعطاة للجنة وهنا اقترح العرب أن يكون من صلاحياتها أن تبحث موضوع إمكانية إعطاء استقلال فوري لفلسطين، ولكن طلبهم رُفض وتقرر أن تعمل اللجنة بدون توجيهات مسبقة وتوصي بالحل الذي تراه مناسبًا. كما وسقط الطلب العربي بأن لا تكون هناك علاقة بين وضع اليهود في مخيمات اللاجئين في أوروبا، وبين ما يحدث في فلسطين، وكانت زيارة مخيمات اليهود من قبل اللجنة، قد اقترحت عن طريق ممثل الحركة الصهيونية “موشي شاريت”، حيث أعطى حق الكلام في هذه الجلسة بشكل استثنائي.
خطاب غروميكو في الجلسة الختامية (تصريح بلفور السوفييتي)
عقدت الأمم المتحدة جلستها الثالثة عشر والأخيرة، في هذه الدورة، بتاريخ 14 أيار / مايو 1947، على أساس أن تكون الجلسة احتفالية بمناسبة نجاح الدورة الخاصة في المهمة التي انعقدت من أجلها حسب طلب بريطانيا. لكن المندوب السوفييتي “أندريه غروميكو” قرر أن يخطف الأضواء عندما اعتلى المنصة وألقى خطابًا لا يتلاءم مع السياسة السوفييتية اتجاه فلسطين وعلاقتها مع العرب، وموقفها المعارض للحركة الصهيونية ومشروعها في فلسطين.
عرض “غروميكو” على المندوبين معاناة اليهود في الحرب العالمية الثانية، وأن “الشعب اليهودي قد عانى خلال الحرب الأخيرة من حزن ومعاناة غير عاديين، ولا يمكن وصفهما”. وأشار إلى أن ممثل الوكالة الصهيونية هو من لفت انتباه الحضور إلى وضع اليهود اللاجئين في الجلسة الأولى، عندما وصف الحرمان الشديد الذي يعانيه مئات آلاف اليهود اللاجئين في أوروبا. وأشار إلى أن “التجارب السابقة، وخاصة الحرب العالمية الثانية، تعلمنا أن الدول الأوروبية الغربية لم تستطع أن توفر الحماية الدنيا أمام عنف الجلادين الفاشيين، وهذا يفسر طموح اليهود في إقامة دولتهم الخاصة بهم”. ثم تحدث عن حقهم في تحقيق طموحاتهم من أجل إقامة دولة يهودية، “وليس من العدل أن ننفي حق اليهود في هذا، خاصة على ضوء ما مرّ بهم خلال الحرب العالمية. كذلك “فإن واقع أن سكان فلسطين يتألفون من شعبين، يهودي وعربي، هو واقع غير قابل للنقض، ولكل شعب منهما جذور تاريخيّة في فلسطين”. كما قال “إن تطلعات جزء كبير من الشعب اليهودي ترتبط بمشكلة فلسطين وإدارتها المستقبلية، وهذا شيء لا يحتاج إلى إثبات”.
ومن أجل التأكيد على عدم إمكانية القبول باستمرار الانتداب البريطاني في فلسطين، استعان “غروميكو” بما قالته لجنة “بيل” عام 1937 عن استحالة تنفيذ الانتداب. كما استعان بالاستنتاجات التي توصلت إليها اللجنة الأنجلو أميركية عام 1946، بشأن عدم إمكانية إبقاء الوضع على حاله، وبأن “فلسطين عبارة عن معسكر مسلّح”، وأن أعضاء اللجنة شعروا بذلك بمجرد عبورهم الحدود إلى فلسطين. واستمر بعرض ما طرحته اللجنة المذكورة بشأن حجم استثمارات حكومة الانتداب في المحافظة على الأمن.
ليس هذا فحسب، بل كان “غروميكو” جريئًا إلى درجة عالية عندما عرض على اللجنة المنتدبة ما يعتقد بأنه الحلّ الأمثل للمشكلة، رغم أن دولاً عظمى أخرى خشيت أن تتطرق إلى أي حلّ مقترح خوفًا من أن تتورط سياسيًا، خاصة مع الدول العربية. قال “غروميكو” “أن إقامة الدولة العربية في كل فلسطين تتنافى مع حق اليهود الشرعي في تقرير مصيرهم”، كذلك نفى أن تكون الدولة اليهودية الواحدة هي الحلّ. لذلك عرض “غروميكو” أحد مشروعين: المشروع الأول هو عبارة عن إقامة دولة واحدة يعيش فيها العرب واليهود بمساواة، وإن تعذر ذلك، يجب أن يكون الحلّ هو تقسيم البلاد إلى دولتين منفردتين.
كان هذا الخطاب عبارة عن تحوّل في الخطاب السوفييتي بشأن قضية فلسطين، وبداية موقف مؤيد لإقامة الدولة اليهودية، مما اعتبرته جريدة فلسطين في عددها الصادر بعد الجلسة، بأنه عبارة عن “تصريح بلفور السوفييتي”، حيث إن هذا الخطاب أوقع الذهول والارتباك في المعسكر العربي، وأدّى إلى السرور والبهجة في أوساط الوفود المناصرة للصهيونية. أما الصحف اليهودية فقد رحبت بالخطاب، حيث اعتبرته صحيفة “هآرتس” بأنه كان “مرضيًا ليهود أميركا وفلسطين وكل العالم”، وبان موقف “غروميكو” من شأنه أن “يهز الأسس، التي بنى عليها خبراء وزارة الخارجية البريطانية بلندن، كيان السياسة البريطانية في الشرق الأوسط وفلسطين”. وكذلك صحيفة “دافار” و”عل همشمار” وغيرهما.
لم يكن الموقف السوفييتي المفاجئ، والذي وصفه البعض بأنه صاعقة في يوم مشمس، ينبع من إيمان القيادة السوفييتية بحق تقرير المصير لليهود، أو بسبب معاناتهم من النازية، بل إن الاعتقاد السائد هو أن المصالح السوفييتية كانت تقضي بضرورة إضعاف بريطانيا العظمى، واستغلال التناقضات بين لندن وواشنطن، ومفاقمة الانقسام الأنجلو أميركي بشأن قضية اللاجئين اليهود.
انتهت الدورة الخاصة للأمم المتحدة بخسارة العرب لجميع المعارك فيها، ولم يتم التصويت لصالح أيٍّ من اقتراحاتهم، أما اللجنة الخاصة التي عينتها الأمم المتحدة، فقد كانت مكونة من دول تظهر أنها محايدة، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك، كما سيتم تفصيله لاحقًا، ولذلك كان من الصعوبة بمكان على العرب أن ينتصروا في المعركة السياسية الفاصلة والأخيرة.
المصدر: عرب 48