مسرحية «شاكر هولمز»: قراءة نقدية
إن أهمية الشخصيّة في العمل المسرحيّ تنبع من تمثيلها للإنسان بقضاياه وتاريخه وصفاته وخصائصه العقلية والنفسية. ومن أجل ذلك كان الاهتمام ببنية الشخصيّات في العمل المسرحيّ شديد الأهميّة. ويعدّ ذلك من لوازم التأليف المسرحيّ منذ المسرح اليوناني القديم إلى المسرح الحديث. فقد أخذت الشخصية بشكل عام حقّها من الانتظام المنهجي وتجلّت أنواعها وأعمالها في الخطاب المسرحيّ ونالت بعض الاهتمام في الميزان النقدي المسرحي. ولا يمكن تخيّل مسرحيّة من دون شخصيّات، سواء أكانت إنسانيّة أم مؤنسنة؛ ذلك أن للشخصيّة في المسرح خصوصيّةً تجعلها تختلف عمّا هي عليه في الفنون الأخرى، في كونها تتحوّل من عنصر مجرّد إلى عنصر ملموس عندما تتجسّد بشكل حيّ على خشبة المسرح بواسطة جسد الممثّل وأدائه بما يدركه المتلقي مباشرة بالحواس.
ومن منطلق أن الشخصية تمثل الكيان الذي تنهض عليه المسرحية بسماتها وأنماطها وأفعالها وصراعاتها الداخلية والخارجية فإن الأسطر التالية تحاول التعرّف على البناء المتكامل للكيان الذي تنهض عليه مسرحية «شاكر هولمز» ومدى صلته بالعالم المحيط به.
وقد تسنى لي في يوم السبت 23 نوفمبر 2024 حضور العرض المسرحي لمسرحية «شاكر هولمز» من تأليف ظافر الشهري، وإنتاج فرقة كلاسيك المسرحية، ودعم هيئة المسرح والفنون الأدائية منصة ستار. وقد نفّذت على خشبة مسرح جامعة اليمامة بقاعة الشيخ محمد الخضير. وهذه المسرحية تُعرض ضمن مسابقة تقيمها هيئة المسرح والفنون الأدائية. وقد قسمت على مسارين حسب نوع المسرحية فالأول المسار الاجتماعي، والثاني المسار المعاصر. وعدد المتأهلين للمسابقة عشرون فرقة، إحدى عشرة فرقة ضمن المسار المعاصر، وتسع فرق ضمن المسار الاجتماعي. وتعرض كلها في المدة من 1525 ديسمبر للعام الحالي 2024 على مسرح جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن في الرياض.
وقبل الدخول في مسرحية «شاكر هولمز» لا بد من التوضيح أن المسرح السعودي يعتبر من المسارح التي لاقت حظاً وفيراً من الاهتمام والتطور والتقدم في عصرنا الحالي بدعم من قبل الجهات الرسمية المعنية؛ إدراكاً منها بأهمية المسرح في تشكيل النظام المجتمعي الذي يؤسس للعلاقات بين أفراد المجتمع، وفي كونه بناءً متكاملاً في المجتمع، وفي قدرته على إحداث التغيير للأفضل، فهو الناصح الأمين الهين اللين الذي لا يفرض السلطة القسرية في تربية المجتمع وصياغته.
نأتي إلى مسرحية «شاكر هولمز» فيبدو لي أنها تبشر بقفزة نوعية وتطور في المسرح السعودي المعاصر. فقد احتوت على فصل واحد، مكون من شخصيتين رئيسيتين: الأولى (شاكر هولمز) المحقق خارق الذكاء، والثانية (راشد الباقي) رئيس شرطة البلدة منذ سنوات طويلة. وتعد بقية الشخصيات ثانوية تؤدي أدواراً تساعد في تقصي الحدث للوصول إلى حل لغز من هو سارق البنك. تصف فكرة المسرحية (شاكر) المحقق البارع الذي اكتشف لص البلدة بذكاء واحترافية عالية. على أنه شخصيّة لها حضور فعال في المسرحية، وكذلك له تأثير في سير الأحداث، فهو من نوع الشخصيّة النامية التي تتحرك وتنمو مع تقدّم المسرحية وسيرها للأمام. أما علاقتها بغيرها من الشخصيّات فهي علاقة حدثية تقوم على حركة الشخصيات، فعلاقة الحدث (سرقة البنك) بحركة الشخصيات (خروجها من ثقوب داخل الجدران) تنم عن نهاية معلومة في مكان محدد هو مركز الشرطة وزمان محدد. وكان الوقوف على التوجّهات الثقافيّة للشخصيات الثانوية وطرائق تفكيرها وأوضاعها النفسيّة والاجتماعيّة وعلاقاتها بالواقع المعيش وكذلك علاقتها بالشخصيّة الرئيسية وتأثيرها فيها وعلى سير الأحداث قد لعب دوراً في صناعة الحبكة المسرحيّة.
يمكن القول إن الكاتب قد أبدع في إظهار الموقف التواصلي في التفاعل الناتج عن الشخصيّات التي لا تسير بالأحداث من البداية حتى النهاية على وتيرة واحدة، بل تتفاوت صعوداً ونزولاً حسب العلاقة التي تربط الشخصيّات بعضها مع بعض. وهذا التفاعل بين الشخصيّات والاختلاف في درجة تفاوته يولّد الصراع الذي يعد العمود الفقريّ للمسرحيّة؛ لأنّه يبقي الشخصيّات على اتصال مكثف، ويجعل المتفرج في حالة توتّر وقلق يبقيه متّصلاً طوال الوقت مع الأحداث حتى يصل إلى نهاية المسرحيّة.
أما الصراع فقد اتخذ شكل الصراع التقليدي بين الخير والشر، وهو صراع بين المحقق والسارق، أي: صراع بين إصلاح المجتمعات أو فسادها بانتشار الجريمة. على أن الجريمة ظاهرة اجتماعية لا يمكن مكافحتها بإغلاق الأعين عنها، وكأن رسالة المسرحية الأخلاقية تقول إنه من العسير تعليم النشء وتربيته من طريق إخفاء الشر وإقصائه عن طريقهم؛ لذا بدأت المسرحية بالإعلان عن جريمة سرقة بنك البلدة، وقد تكررت هذه الجريمة مراراً، ولا بد من القضاء عليها، ومن ثم يكون استتباب الأمن مرة أخرى.
ويتخذ الكاتب الشهري الرمز عنصراً أساسيّاً في بناء فكرة المسرحية؛ ذلك أن شخصية (شاكر) مستدعاة من الأدب الإنجليزي عن شخصية المحقق البريطاني «شرلوك هولمز» أشهر محقق في زمانه، فكما تبدأ الجريمة من شيء غير محسوس كذلك تبدأ المسرحيّة من شخصيّة (شاكر). وبلا مقدّمات ولا تمهيد يظهر شاكر رمزاً للحقيقة، ويدخل الرمز مرحلة أخرى حينما لا نجد اسماً واحداً يحمل تفسيراً للموقف، فبقية الشخصيّات تدل أسماؤها على الوظيفة دون إحداث تغيير في سير القضية. وتكتمل الرمزية في عبارة دالة في حوار يدور بين شاكر وراشد، وهو حوار تهكّمي كوميدي يزيد الحوار غموضاً:
شاكر: إلا على طاري الفكاك.. هو ما قدر يفك غموض الجريمة هذي..كعادته.
راشد: والله أنا مثلك مصدوم.. لكن.. خلنا نكون واقعيين.. ترى الجرايم مثل الألغاز.. بعضها لها حل.. وبعضها ما لها حل..
إن المزج في بناء شخصيّه مسرحيّة رمزيّة بين المفهوم الرمزي لبناء الشخصيّة والكوميديا الضاحكة، يجعل الجمهور يستوعب فكرة الرمز ودلالاته. إن الكاتب قدم شخصياته بطريقة كوميدية هادفة تغذي الفكر في المجتمع، وتستهدف الأفراد بطرح المشكلات أمامهم ومعالجتها.
وقد استخدم الكاتب تقنية التماهي بتشكيل تجربة وجودية في القدرة على الشعور بتجارب الشخصية وخبراتها، وذلك بتجسيد شخصية «شارلوك هولمز» وهي شخصية أدبية خيالية، ابتكرها الكاتب الإسكتلندي «آرثر كونان دويل»، ويعد (هولمز) أشهر محقق خاص في الأدب والسينما والتلفزيون. ويمتلك مهارات فريدة في التحليل والاستنتاج، ويستخدم المنطق والتفكير العلمي في حل ألغاز الجرائم ومدى الشعور بالشخصية الأدبية المعروفة بالأدب الإنجليزي وجعلها كائناً حيّاً. وهو تماهٍ غير مباشر حيث الاندماج مع الشخصية الأدبية من خلال البيئة والثقافة والقيم، وتجاوز بها الحدود واتحادها مع شخصية (شاكر هولمز) وتكوين شخصية لها معتقدات وأفكار تناسب المجتمع العربي، وتسهم في حل قضاياه بشخصية عربية مبتكرة.
إن مسرحية «شاكر هولمز» تجربة فنية وجمالية تؤثر على المشاهد وتؤدي إلى الاندماج مع العمل المسرحي وتكفل التأثير العاطفي والفكري والتفاعل الاجتماعي النشط ووصول الرسالة الواضحة والمؤثرة.
وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن المسرح السعودي بشكل عام يسعى إلى تقديم حلول للقضايا عن طريق تجسيد الواقع بشكل تمثيلي جاذب للجمهور؛ لذا اهتم الكتَّاب في السعوديّة بشكل عام بالمسرحية؛ لأنها قادرة على التأثير في الجمهور وإقناعهم بوجهات نظر محدّدة يتابعونها عن طريق خشبة المسرح. ولا شك أن الخشبة تعتمد على كلّ أدوات التعبير الدرامي وضروبه الفنية؛ لذا جاءت العناية دقيقة ومتراكمة بالمسرح السعودي والنهوض به.