مزيد من الاحتلال يوسّع دائرة المقاومة
تعتبر إسرائيل التي سارت على طريق المقامرة العسكرية، في حرب إبادة جماعية متعددة الجبهات، أن أهم إنجاز قد حققته من هذه الحرب هو إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، ذلك النظام الذي صمد نحو أربعة عشر عاماً، في الوقت الذي سقطت فيه الأنظمة العربية التي تعرضت لما سمّي «الربيع العربي»، الذي انطلق العام 2011، سريعاً وتباعاً، حتى أن بعضها سقط في أيام معدودة.
ونظام بشار الأسد صمد كل تلك السنين، رغم أن حجم التدخل الإقليمي والدولي العسكري والسياسي في سورية كان واسعاً، وبالطبع وكما أشرنا في مقال سابق، كان أحد أهم أسباب صمود النظام السوري مساندة «حزب الله» وإيران له أولاً، ثم روسيا ثانياً. المهم في الأمر أنه سقط بشكل مفاجئ، وخلال أيام معدودة، ودون قتال بين قواته وقوات المعارضة التي صارت منذ الثامن من الشهر الحالي هي السلطة الحاكمة في سورية. ورغم حجم المأزق الذي ينتظر النظام قيد التشكل، لجهة أنه متعدد التوجهات، وإن كان أغلبها إسلامياً جهادياً متشدداً، غير معهود في تاريخ سورية، ومن الصعب على المنطقة أن تتقبله، لذا قد تشهد سورية حالة مشابهة لما شهدته أفغانستان، بعد سقوط نظام بابراك كارمال، وسيطرة الفصائل الإسلامية المتعددة على الحكم، في ثمانينيات القرن الماضي.
أما المعضلة التي ستواجه النظام الجديد في سورية، والذي لم تتحدد ملامحه بعد، وهو بدأ بتشكيل حكومة مؤقتة، إلى جانب القوة العسكرية التي أطبقت على الدولة، بقيادة جبهة تحرير الشام، أو جبهة النصرة برئاسة أحمد الشرع «أبو محمد الجولاني»، فتتمثل في احتلال إسرائيل مناطق إضافية من الأرض السورية، حتى بات حجم الاحتلال الإسرائيلي الجديد يشكل 95% من محافظة القنيطرة، التي تضم الجولان وتبلغ مساحتها 1200 كم2، وبذلك تصبح الأرض السورية المحتلة من قبل إسرائيل الثانية من حيث المساحة والأهمية بعد احتلال أرض دولة فلسطين بالكامل.
لا أحد يدري، رغم أن واقع الحال يقول إنه أسوأ سيناريو بالنسبة للعرب وأفضله بالنسبة لإسرائيل، ما سيكون عليه قادم الأيام، فصحيح أن «الجولاني» ولقبه هذا الذي أطلقه على نفسه، سيطالبه بأن يكون اسماً على مسمى، قد سارع لكسب رضا أميركا وإسرائيل بالقول: إن بلاده منهكة وليست مستعدة للدخول في حرب مع إسرائيل.. حيث سارعت أميركا إلى شطب المكافأة التي كانت مرصودة للقبض عليه سابقاً، وصحيح أيضاً، أن من أوصل الجولاني وجيشه للحكم في سورية، ليست إسرائيل بشكل مباشر، وإنما تركيا العدو الثاني لسورية، والتي تحتل منها لواء الإسكندرون منذ عقود طويلة، إلا أن نظام الأسد بالخمسين عاماً، التي أمضاها في الحكم، عبر الأب والابن، لم يحارب إسرائيل منذ العام 1973، بل إنه لم يطلق المقاومة السورية في الجولان المحتل، وظل يردد منذ العام 73 أنه يعد للتوازن الإستراتيجي حتى يمكنه أن يخوض حرباً مع إسرائيل، وظل يسعى لاحتواء م ت ف، وحتى المقاومة اللبنانية لم يقم بدور الداعم لها، بل إيران من فعلت، وهكذا كان يعد جيشه فقط لتثبيت أركان حكمه الداخلي.
وحتى أن النظام السوري وقبل أن يسقط كان يتعرض لقصف إسرائيلي متواصل وغارات جوية متتالية، ولا يقوم لا بالرد، ولا بمبادرة تشكيل حركة مقاومة، ضد الاحتلال الإسرائيلي لأرضه المحتلة، وهكذا فربما تندم إسرائيل على أيام نظام الأسد، الذي كان عدواً لها على الورق، وليس بالضرورة أن يبادر نظام الجولاني إلى إعلان الحرب على إسرائيل، أو إلى تشكيل حركة مقاومة لتحرير أرضه المحتلة منها، بل ربما يحدث في سورية، وعلى الأغلب سيحدث ما يحدث في العراق مثلاً، من انحصار الحكم في مربع أمني يقع في قلب العاصمة، فيما تسيطر قوى مختلفة على مختلف المناطق، بما يمكن وصفه «بالفسيفساء» السياسية، قد تنطلق حركة مقاومة سورية من أجل تحرير الجولان وأرض محافظة القنيطرة المحتلة بشكل شبه كامل، أي الأرض السورية المحتلة من قبل إسرائيل، حركة مقاومة للاحتلال الإسرائيلي.
والحقيقة أن إسرائيل اليمينية، التي وقفت ضد اتفاق أوسلو، قد رأت في انقلاب « حماس » على سلطة «فتح» العام 2007 أمراً مشابهاً لما تراه اليوم في سورية، لكن حسابات إسرائيل كما هي حسابات أميركا دائماً تفتقد للعنصر الإستراتيجي، وذلك بسبب النظام السياسي الانتخابي، ولم تدرك أن غزة حين تخرج من عباءة سلطة «فتح»، ستذهب إلى محور إيران في آخر المطاف، حتى وجدت نفسها تتعرض لصدمة السابع من أكتوبر 2023، وإسرائيل أيضاً ظلت مغمضة العينين بنفس المنطق، وهي تقوض السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، ولم تدرك معنى استتباب الأمن منذ العام 1994، حتى سنوات قليلة مضت، وجربت بنفسها أن تفرض الأمن دون السلطة، وفشلت فشلاً ذريعاً رغم مرور ثلاثة أعوام على عملية «كاسر الأمواج»، إلى أن أقرت مؤخراً بأهمية وجود الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، وهكذا تفكر أميركا أيضاً، ليس بأبعد من أنفها الأفطس، فقبل أيام عاد جاريد كوشنر صهر الرئيس المنتخب ترامب، مهندس اتفاقيات أبراهام، ليؤكد أن إدارة ترامب القادمة ستسير على نفس الطريق، وأن عشر دول ستنضم لقطار الاتفاقيات مع السعودية.
مشكلة أميركا أيضاً أنها ترى أنه يمكن صنع الترتيبات السياسية مع الأنظمة العربية، حتى أن بنيامين نتنياهو ما زال يتشدق بأنه قام بإعادة تشكيل الشرق الأوسط بحرب إبادته الإقليمية، لكن المهم أن أميركا تنسى أن الشعوب العربية ما زالت ترزح تحت حكم الأنظمة المستبدة التي لا تعبر عن إرادتها، لذا فإن عقد الاتفاقيات معها يعني أن تظل معلقة في الهواء، كذلك من شأن توسيع رقعة الاحتلال الإسرائيلي، والتوغل الإسرائيلي، إن كان جغرافياً، وربما يتواصل ذلك إلى وجود عسكري إسرائيلي مع الوجود العسكري الأميركي في منطقة شاسعة تشمل جنوب سورية والعراق، يضاف لذلك التوغل الاقتصادي والأمني والسياسي والسياحي كما يحدث في الإمارات، وهذه كله ستنجم عنه ردود فعل شعبية، ستأخذ شكلها في ظهور جماعات المقاومة في كل المنطقة، وستكون المقاومة بمختلف الأشكال والوسائل العامل الموحد لشعوب المنطقة في مواجهة التمدد الإسرائيلي.
وإسرائيل اليوم بعد حرب الإبادة باتت منبوذة دولياً، تماماً كما كان حال جنوب أفريقيا، حيث كلما اتسعت دائرة احتلالها للأرض العربية اتسعت دائرة المقاومة، وتعددت جبهاتها، وإسرائيل أولاً وأخيراً دولة غريبة على الشرق الأوسط، وبدلاً من أن تسعى إلى كسب ود المحيط بسلوك إنساني، تقوم بزيادة مستوى حقد شعوب المنطقة عليها؛ بفرض نفسها على الجميع بالقوة.
ويبقى أن نقول: إنه ليس فقط العالم يتغير، بحيث لا تعود فيه القوة كما كان حالها من قبل، لكن الشرق الأوسط يتغير حقاً وفعلاً، بما في ذلك أدوات المقاومة نفسها، وإسرائيل لا تقر بأن المقاومة وضعت حداً لتفوقها الجوي بالصواريخ والمسيّرات، وأن كل الحديث عن الاحتلالات بهدف إقامة مناطق أمنية ما هو إلا وهم، تلقي به الصواريخ وأشكال الحرب الجديدة إلى قارعة الطريق، واليوم هناك حتى سلاح «الهاكر» والمقاطعة الاقتصادية، والقضاء الدولي، والعالم الافتراضي، وليس هناك أسوأ من «دولة» تظل في حالة حرب مع المحيط ثمانين عاماً. فإلى متى ستظل إسرائيل تحارب طواحين الهواء، على طريقة «دون كيشوت»، وبعد كل «الانتصارات» السابقة، كان قادة إسرائيل يقولون ما يقولونه اليوم، بعد كامب ديفيد/ مصر قالوا: إن الحرب انتهت، وبعد 82، ظنوا أنهم فرضوا الأمن والسلام بالقوة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر