Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

بونابرت إسرائيل

حاول كارل ماركس في مقالته الشهيرة الثامن عشر من برومير – لويس نابليون (The Eighteenth Brumaire of Louis Napoleon)، تفسير تمكّن الرجّل الذي اعتبره جوهر «الرداءة الفظيعة» من الوصول إلى السلطة وليصبح ديكتاتور فرنسا. وسرعان ما استنتج أن نابليون لم يكن مهمًا على الإطلاق، وأن البنية الاجتماعية التي كان يتصرف في إطارها كانت أكثر أهمية بكثير. وقد تجسد هذا الكشف في واحدة من أقواله الأكثر شهرة: «يصنع النّاس تاريخهم بأيديهم، ولك ليس بأهوائهم، وليسِ في ظروف يختارونها بأنفسهم، بل في ظل ظروف قائمةٍ بالفعل، ومُعطاةٍ ومنقولة من الماضي».ليس بنيامين نتنياهو بأي حال من الأحوال رديئًا رداءة فظيعة، بل هو في رجلٌ ديماغوجي موهوب، وسياسي ماهر، وأيديولوجي نيوليبرالي حتى النخاع. بيد أن التشابه بين «بيبي»، كما يحب معجبوه مناداته، ولويس نابليون في كتاب ماركس، مفيدٌ من نواح أخرى، نواحٍ تتجاوز مُجرد ملاحظة أن كليهما كان يتخذ خيارات، ولكن ليس من اختياره الخاص. في فهم ماركس، فإن ما مكن من صعود الديكتاتورية في فرنسا كان الصراع الطبقي الذي قاد إلى طريق مسدود سياسيًا. وبناءً على هذا الوضع، اغتصب لويس نابليون سلطات الدولة لتنفيذ سياسة عدوانية في الخارج، بينما كان يسعى إلى تنفيذ أجندة صارمة مؤيدة للأعمال التجارية في الداخل. وقد أدّى هذا إلى نشوء وضع متناقض حيث سعى بونابرت الثاني إلى تطبيق سياسات تتماشى مع سياسات البرجوازية الفرنسية، في حين خنق حريتهم السياسية والثقافية في التعبير. وهذا هو جوهر المفارقة التي تعيشها إسرائيل تحت قيادة نتنياهو[1].

والطريقة لحل هذه المفارقة هي متابعة تاريخ الصراع الطبقي في إسرائيل. لقد بدأ الأمر بجدية في عام 1977، مع الانتخابات «الانقلابية» التي أنهت الحكم الطويل لحزب العمل الإسرائيلي، الذي حكم البلاد منذ عام 1948. وصل حزب الليكود الذي يمثل إلى حد كبير الفقراء في ذلك العام إلى السلطة. فتح هذا الحدث فصلًا جديدًا في تاريخ إسرائيل، وأدى إلى بدء حرب باردة استمرت عقودًا من الزمن، وتصاعدت في بعض الأحيان إلى عنف صريح، بين تحالفين اجتماعيين. وتضمن التحالف الأولى بقيادة حزب الليكود، الطبقة العاملة، والمستوطنين في الأراضي المحتلة، واليهود المتشددين دينيًا. وكان التحالف الآخر بقيادة حزب العمل الإسرائيلي. وعلى نحو يعكس التحول الذي حدث في أحزاب يسارية أخرى في العالم المتقدم، تخلى حزب العمل الإسرائيلي عن الطبقة العاملة الإسرائيلية. واستوعب تدريجيًا وعلى نحوٍ متزايد احتياجات الطبقة المتوسطة والبرجوازية، وأصبح، على حد تعبير توماس بيكيتي (Thomas Piketty)، نوعًا من «اليسار البراهمي»[2].

قبل عامين من وصول مارغريت تاتشر إلى السلطة في المملكة المتحدة، وقبل ثلاثة أعوام من دخول رونالد ريجان إلى البيت الأبيض، عمل حزب الليكود على تعميق هذه الخطوط الفاصلة والمزلزلة من خلال إطلاق الثورة النيوليبرالية في إسرائيل، وبالتالي ترسيخ مكانة البلاد بوصفها مشاركة مبكرة في الموجة العالمية. إلا أن تبني العقيدة النيوليبرالية بالنسبة لحزب الليكود الإسرائيلي كان يهدف في المقام الأول إلى اكتساب السلطة المؤسسية. كان زعماء الليكود، على سبيل المثال، يعرفون الخبير الاقتصادي ميلتون فريدمان (Milton Friedman)[3] ودعوه إلى إسرائيل في عام 1977 للمساعدة في الترويج للنيوليبرالية للجمهور الإسرائيلي. لكنهم تجاهلوا النصيحة التي قدمها لهم خلال إقامته القصيرة. وفي عملية من التجربة والخطأ، تبنت قيادة الليكود المبادئ النيوليبرالية للحكم، لأنها قدمت نموذجًا جاهزًا للاستيلاء على المؤسسات التي أنشأها حزب العمل الإسرائيلي، وسيطر عليها حتى عام 1977 أو لتحطيمها. لقد كانت ثورة موجهة بالممارسات البيروقراطية والسياسية، وليس بخريطة طريق أيديولوجية[4] .

كانت إسرائيل عندما بدأت تلك الثورة تتمتع بأعلى درجات المساواة الاجتماعية في العالم، وأصبحت اليوم واحدة من أكثر البلدان التي تعاني من انعدام المساواة، حيث تكاد الفوارق في الدخل تساوي تلك الموجودة في الولايات المتحدة، أكبر راعٍ لها.[5] أشرف حزب الليكود على تنفيذ هذه السيرورة، رغم ادّعائهِ طوال الوقت بأنه يمثل المحرومين ويحصل على أصواتهم باستمرار. احتجت البرجوازية المؤيدة لحزب العمل بشدّة على حكم الليكود، حتى في الوقت الذي استفادت فيه من الإصلاحات النيوليبرالية التي نفذها. وفي واقع الأمر، وخلال الفترات القصيرة التي تولى فيها حزب العمل السلطة، طبّق المبادئ النيوليبرالية بقوة أكبر من الليكود. وفي حين عرض الليكود على الأقل دفعات أساسية تعوِّض إلى حد ما عن الحرمان الذي عانى منه، طَالبَ اليسار الإسرائيلي بإلغاء آليات التعويض هذه. هذا هو الهيكل الذي دخل إليه نتنياهو في أوائل تسعينيات القرن العشرين، وهكذا كانت قواعد اللعبة التي تعلّم اللعب بها إلى حد الكمال.

لم تنشأ الصراعات الداخلية التي شهدتها إسرائيل من فراغ. وكثيرًا ما تعرضت إسرائيل لضغوط دولية، وكان بعض هذه الضغوط يتعلق بموقعها الجيوسياسي الحيوي لنقل النفط والغاز من الخليج الفارسي إلى سوق الطاقة الأوروبية. ومن ثم كان لإسرائيل دائمًا دور رئيس في تأمين المنطقة، وقد كافأتها حليفتها الولايات المتحدة بسخاء. وبدورها، أصبحت إسرائيل تعتمدُ اعتمادًا كبيرًا على هذا السخاء، ونتيجة لذلك أصبحت عرضة للضغوط الخارجية. حددت المخططات الأميركية في الشرق الأوسط المعايير ليس فقط للسياسة الخارجية الإسرائيلية، بل لسياساتها الداخلية أيضًا. كما وسعى المسؤولون الأميركيون في كل خطوة على الطريق إلى تصدير أساليب الحكم النيوليبرالي التي اخترعت لأول مرة في الولايات المتحدة.

يُشكّل الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية الموضوع الرئيس في هذه القصة، وذلك لوجودِ علاقة تكافلية بين النيوليبرالية والاستعمار. كانت النيوليبرالية الإسرائيلية قاسية ووحشية للغاية؛ لأنها استطاعت استخدام الأراضي المصادرة على نحوٍ غير قانوني في الضفة الغربية بوصفها صمّام أمان اجتماعي. وبدورها، ساهمت النيوليبرالية الإسرائيلية في تشكيل معالم الاستعمار الإسرائيلي في الضفة الغربية. وكثيرًا ما تسببت الصراعات مع الفلسطينيين في حدوث صدمات اقتصادية. وقد استغل النيوليبراليون الإسرائيليون هذه الظروف، حيث تبنوا «مبدأ الصدمة» لإجراء تخفيضات أعمق في الميزانية وخصخصة أجزاء أكبر من الاقتصاد. رغم أن مشروع المستوطنات كان في بداياته، إلا أنه بدا منفصلًا عن الواقع الديمقراطي (نسبيًا) في إسرائيل. وعلى نحو متزايد، أصبحت أساليب الحكم التي أدامت الاحتلال في الضفة الغربية مستوردة من النيوليبرالية الإسرائيلية. وقد أصبحت هذه الديناميكية واضحة وضوح الشمس بعد تفشّي جائحة كوفيد-19.

يساعد كل ما سبق في الإجابة على أحد الألغاز المركزية في التاريخ السياسي الإسرائيلي: كيف نجح نتنياهو في التشبث بالسلطة لسنوات عديدة واكتساب ثقة أغلبية ضئيلة من الإسرائيليين؟ لماذا يستمر جزء كبير من الشعب الإسرائيلي في دعم نتنياهو على الرغم من فشل سياساته، وخاصة منذ عام 2022؟ يكمن مفتاح هذا اللغز في المزيج الناجح الذي نجح حزب الليكود في تحقيقه من خلال الجمع بين الاقتصاد النيوليبرالي والسياسة الزبائنية. عمل الليكود من خلال تفكيك دولة الرفاهية على خلق قطاعات في المجتمع الإسرائيلي تعتمد على حكمه. وتتمتع هذه القطاعات بالقدرة على الوصول إلى آليات التعويض مثل السكن الرخيص في الضفة الغربية وإعانات الأطفال السخية. ومن ناحية أخرى، طالب اليسار في إسرائيل دائمًا بإلغاء هذه السياسات، وعمل على تحقيق هذه الغاية خلال الفترات القصيرة التي تولى فيها السلطة. وهكذا فإن التحالف الاجتماعي الذي يقف وراء هيمنة الليكود على السياسة الإسرائيلية لم يعد لديه مكان آخر يتجه إليه. وكان سر نجاح نتنياهو هو حرصه على رعاية هذا الائتلاف واستعداده للذهاب إلى أبعد مدى للحفاظ عليه.

من الاضطراب إلى التضخم: ثورة الليكود النيوليبرالية (1977-1984)

ذهب ميلتون فريدمان في تموز/ يوليو 1977 إلى إسرائيل، إذ دعاه البروفيسور دون باتينكين من الجامعة العبرية لتلقي درجة فخرية وإلقاء ندوة. رحّبت الحكومة بفريدمان، وطلبت منه البقاء لفترة أطول حتى يتمكن من المشاركة في بعض المشاورات غير الرسمية. وكما أوضح نائب وزير المالية للسفير الأميركي، فقد اختِير فريدمان «لاستثمار فكرة الليكود من أجل تحرير الاقتصاد الإسرائيلي مع هيبة اسم فريدمان». واستغل فريدمان الذي يعرف كيف يتعامل مع وسائل الإعلام، زيارته لإجراء عدة مقابلات مع الصحف الإسرائيلية. واستغل شهرته بوصفهِ خبيرًا اقتصاديًا بارزًا لبيع الأجندة الاقتصادية لحكومة الليكود الجديدة إلى الجمهور الإسرائيلي، والتي تضمنت الخصخصة وإصلاحات السوق الحرة.

وكما اتضح، في حين كان وزراء الليكود على استعداد للقاء فريدمان خلال زيارته القصيرة، فإنهم لم يتشاوروا معه بشأن خططهم، ولم يكن لفريدمان أي تأثير على القرارات التي اتخذوها. لقد أدرك فريدمان جيدًا أنه لم تكن لدى الحكومة الإسرائيلية أي نية للاستماع إلى نصيحته، إلا إنه كان يعتقد «أنني أستطيع أن أكون أكثر فائدة من خلال توفير قدر من الاحترام والهيبة للبرنامج الاقتصادي [للحكومة الإسرائيلية]». وبعد سنوات قليلة فقط من تلك الزيارة المشؤومة، بذل فريدمان جهودًا لإبعاد نفسه عن البرنامج الاقتصادي لحزب الليكود. ومن السهل أن نفهم السبب. كانت سياستها الاقتصادية فوضوية للغاية خلال سنواتها الأولى في السلطة.

لقد ورث الليكود اقتصادًا في حالة أزمة. تعرض الاقتصاد الإسرائيلي في عام 1973 لضربة مزدوجة. لقد عانت إسرائيل من التكاليف المرتفعة لحرب يوم الغفران وارتفاع أسعار النفط المصاحب لها (ارتفعت تكاليف الوقود في إسرائيل بنسبة 277% خلال عام 1974). بلغ معدل التضخم 36 في المئة سنويًا. وردت حكومة إسحاق رابين (التي تولت السلطة بين عامي 1974 و1977) برفع الضرائب للتعامل مع العجز المتزايد في الميزانية وميزان المدفوعات. خُفِّضت قيمة الليرة الإسرائيلية[6] عدة مرات لتقليل الواردات وزيادة القدرة التنافسية للصادرات الإسرائيلية. وكانت النتائج مثيرة للقلق. انخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي من 11.9% في عام 1972 إلى -0.3% في عام 1976، أي أن الاقتصاد كان ينكمش. وفي ظل الوضع الاقتصادي المتردي، فلا عجب أن يخسر حزب العمل بشكل فادح أمام الليكود في انتخابات عام 1977.

كان أول قرار اقتصادي رئيس اتخذه حزب الليكود هو التحول نحو التقشف. في تموز/ يوليو 1977، أعلن سيمحا إيرليتش، أول وزراء المالية الأربعة في حزب الليكود على مدى السنوات الأربع التالية عن خفض الميزانية بمقدار 143 مليون دولار (أي ما يقرب من 1% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 1976)، وخفض دعم الغذاء والوقود بنسبة 25%، وخفض قيمة الليرة الإسرائيلية بنسبة 2%. وجاء هذا الإعلان عشية لقاء بين رئيس الحكومة مناحيم بيغن والرئيس الأميركي جيمي كارتر. كانت إسرائيل في ذلك الوقت تعتمد اعتمادًا كبيرًا على المساعدات الاقتصادية الأميركية. ساعدت تحويلات رأس المال الأميركي في تغطية العجز الكبير في ميزان المدفوعات الإسرائيلي. وعلى وجه التحديد، كان بيغن على وشك أن يطلب من كارتر مساعدات ضخمة قدرها 2.3 مليار دولار، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 30.5% عن طلب العام السابق. وقبيل الاجتماع، أشارت إدارة كارتر إلى حكومة بيغن بأن إسرائيل يجب أن تنظم بيتها الداخلي، وإلا فإنها ستواجه احتمال خفض المساعدات الأميركية. وكان المؤتمر الصحافي الذي عقده إيرليتش، والذي أعلن فيه عن إجراءات التقشف، بمثابة رد على تلك الضغوط.

ثم جاءت الثورة الاقتصادية في تشرين الأول/ أكتوبر 1977. خطّط لها في سرية تامة خمسة مسؤولين فقط في وزارة المالية، وأُبلِغ عنها وزير الخزانة الأميركي مايكل بلومنثال (Michael Blumenthal) قبل يومين فقط، كان البند الرئيس في الحزمة التي ناقشتها الحكومة في 28 أكتوبر/تشرين الأول/ أكتوبر هو جعل الليرة الإسرائيلية قابلة للتحويل بالكامل لأول مرة منذ عام 1939 (كانت الانتداب البريطاني على فلسطين قد تبنى الرقابة على العملة خلال الحرب العالمية الثانية). وكان صندوق النقد الدولي على علم بهذه الخطة، وكان يمارس ضغوطًا على المالية الإسرائيلية لتبنيها. وكان صندوق النقد الدولي يتمتع بنفوذ كبير، لأن إسرائيل كانت تعتمد على قروضه أيضًا. كما طُلب من الوزراء الموافقة على إلغاء مختلف التدابير التي تحمي الصناعة الإسرائيلية من منافسة الواردات. وحثّ رئيس الحكومة بيغن المشاركين على الموافقة على الحزمة من أجل «زيادة الحرية الاقتصادية». وقد تأثر مجلس الوزراء بعرض بيغن، وصوت لصالح الخطة. وكما هي الحال دائمًا، لم يكن ميلتون فريدمان على علم بما يجري، ولكن عندما سمع عن الإجراءات التي اتخذتها حكومة بيغن، شعر بالبهجة وقال إن «هذا هو أحد أعظم الأشياء التي حدثت لإسرائيل منذ تأسيسها»[7].

انتهت تجربة العلاج بالصدمة من دون أي علاج. ارتفع معدل التضخم إلى 167% بحلول عام 1979. وتضخم الدين الخارجي، وزاد العجز التجاري. ولم تتحقق أهداف الخصخصة التي وضعتها الحكومة. وبحلول ذلك العام، بدأت الصدمة النفطية الثانية نتيجة للثورة في إيران، ولم تكن إسرائيل مستعدة للتعامل معها. واستقال إيرليتش استقالةً مخزية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1979[8]. وجاء في مكانه ييغال هورفيتز، الذي حاول التعامل مع هذا المأزق بالعودة إلى التقشف. وباعتباره وزير التجارة والصناعة المنتهية ولايته، كان هورفيتز يتمتع بمعرفة واسعة بالشؤون الاقتصادية، ولكنه كان ينتمي إلى حزب صغير منشق كان متحالفًا مع الليكود وكان يفتقر إلى قاعدة السلطة. وعندما لم يحظ طلبه بخفض الميزانية بدعم مجلس الوزراء، استقال في كانون الثاني/ يناير1981.

كان بديل إيرليتش هو يورام أريدور الماكر، وهو عضو طموح ارتقى في صفوف الليكود. كانت سياساته مرتبطةٌ بالسياسة أكثر منها بالاقتصاد. خفَّضَ أريدور الرسوم الجمركية على الأجهزة الإلكترونية والأجهزة المنزلية والسيارات تخفيضًا حادًّا قبيل انتخابات عام 1981. وبفضل أجهزة التلفاز من إنتاج شركة سوني والسيارات الرخيصة من إنتاج شركة سوبارو، شكر الناخبون الإسرائيليون حزب الليكود بمنحه فوزًا ضئيلًا في صناديق الاقتراع. أراد أريدور بعد الانتخابات العودة إلى التقشف وربط الشيكل الإسرائيلي بالدولار. وعندما تسربت تفاصيل خطة أريدور للدولرة إلى الصحافة، قوبلت بإدانة عامة. ونتيجة لذلك، استقال أريدور في تشرين الأول/ أكتوبر 1983. وكان وزير المالية التالي، ييغال كوهين أورغاد، يشرف على فترة تضخم خارج عن السيطرة وصل فيها إلى 445% عام 1984. ولم يكن لديه الوقت لوضع خطة شاملة للتعامل مع الأزمة، إذ لم يمكث في منصبه سوى إحدى عشر شهرًا.

ورغم هذا التاريخ الفوضوي، حقق بيغن ووزراءه نجاحات عديدة ساعدت في دفع التحول النيوليبرالي إلى الأمام. وكان إنجازهم الأول هو إضعاف العمل المنظم. لقد كان هذا تحديًا هائلًا. كانت الهستدروت، أكبر اتحاد عمالي في إسرائيل، منظمة لا مثيل لها. أُنشئت قبل الاستقلال، عندما حكم البريطانيون فلسطين، وبُنيت لتكون بمثابة البنية التحتية البيروقراطية للدولة. ولم يقتصر دورها على تشكيل نقابات للعمال فحسب، بل امتلكت وأدارت أيضًا خدمات اجتماعية مثل بورصات العمل والعيادات الصحية والمستشفيات والمدارس وصناديق التقاعد. وقد احتفظت بمعظم هذه الوظائف بعد الاستقلال. عندما وصل حزب الليكود إلى السلطة، كانت الهستدروت قد نجحت في تنظيم 1.5 مليون عامل، أو 80% من القوة العاملة. وكانت الهستدروت أيضًا ثاني أكبر جهة توظيف في إسرائيل. كانت تمتلك عدة مصانع وتسيطر على 25 في المئة من اقتصاد الدولة. وكانت القيادة المنتخبة للهستدروت خاضعة لسيطرة حزب العمل، الذي أصبح الآن حزب المعارضة الرئيسي.

وإذا لم يكن ذلك كافيًا، فإن حزب الليكود لم يكن متفقًا على رأي واحد في ما يتصل بمصير العمل المنظم. كان حزب الليكود عبارة عن مزيج من حزبين رئيسيين: حزب حيروت (الحرية بالعبرية) والحزب الليبرالي. كان الليبراليون يمثلون أصحاب الأعمال المتوسطة والكبيرة في القطاع الخاص، وبالتالي كانت لديهم مصلحة كبيرة في كسر قوة الهستدروت. لكن حزب حيروت كان حزبًا قوميًا استخدم دائمًا الخطاب الشعبوي وتحدث بلغة شعرية عن ضرورة ضمان رفاهية الشعب. كما كان لحزب الليكود تمثيل كبير في الهستدروت، وانتخِب بعض قادته مسؤولين في الهستدروت. وهكذا انقسم الليكود بين جناحيه، المائل إلى البرجوازية والمائل إلى عامّة الشعب.

تمكن ييغال هورفيتز، رغم خدمته لمدة عام واحد فقط في منصب وزير المالية، من تحقيق اختراق مهم. كان هورفيتز رجل أعمال ثريًا يمتلك مزرعة ألبان خاصة كبيرة. وبذلك، فقد دخل في منافسة مع شركة تنوفا، وهي شركة ألبان أكبر بكثير مملوكة للهستدروت. علمته هذه التجربة سر شركات الهستدروت. لقد كانوا كبارًا وأقوياء لأنه كان لديهم القدرة على الحصول على قروض رخيصة، والتي كانوا يأخذونها من صناديق التقاعد المملوكة للهستدروت. وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1980، أقر هورفيتز تشريعًا وضع حدًا لهذه الممارسة. واضطرت شركات الهستدروت إلى اللجوء إلى البنوك الخاصة والحصول على قروض بفوائد عالية. وكانت تلك بداية النهاية لشركات العمال – الهستدروت. وقد استخدم وزراء المالية الذين خدموا في حكومة الليكود أساليب أخرى لإضعاف الهستدروت. ولقد تجنبت هذه النقابات استشارة قياداتها قبل اتخاذ القرارات الكبرى (وهي ممارسة شائعة قبل عام 1977)، وحاولت تجنب تعويض العمال عن تآكل الأجور الناجم عن التضخم، وشجعت التوظيف من خلال عقود العمل الفردية وليس الجماعية[9].

فوائد للموالين: كيف نجح الليكود في جذب ناخبيه؟

وفي حين عمل حزب الليكود على تفكيك البرامج الاجتماعية الشاملة، فقد عمل على خلق آليات تعويض عملت على تخفيف الآثار القاسية الناجمة عن إصلاحاته السوقية، لكن هذه المؤسسات لم تكن متاحة إلا للمجموعات التي كانت مستعدة لدعم الرؤية القومية والدينية لحزب الليكود. وكان المثال البارز على ذلك هو سياسة الليكود في ما يتصل بالإسكان العام. انخفض بناء المساكن العامة داخل إسرائيل انخفاضًا حادًا في ظل حكم الليكود، من 27,730 شقة في عام 1975 إلى 7,320 شقة في عام 1983. وركّزت وزارة الإسكان بقيادة دافيد ليفي، عامل البناء السابق، كل مواردها على تطوير تجمعات حضرية شديدة التركيز في الضفة الغربية (حتى يومنا هذا، يعيش 85% من المستوطنين الإسرائيليين على أقل من 6% من أراضي الضفة الغربية). وكانت جميعها على مسافة ساعة بالسيارة أو أقل من تل أبيب والقدس. وقد خططت وزارة الإسكان لهذه البلدات الصغيرة، وبنت بنيتها التحتية، وعبَّدت الطرق التي من شأنها ربطها بالمناطق الحضرية في إسرائيل، وقدمت منحًا وقروضًا سخية لأولئك الذين اختاروا العيش هناك. وفي حين انخفض البناء خارج الضفة الغربية وارتفعت أسعار المساكن، ازدهر الإسكان المدعوم داخل الضفة الغربية. وكان نجاح هذه السياسات هائلًا. كان يعيش في الضفة الغربية في عام 1977 حوالي عشرة آلاف إسرائيلي. وبحلول عام 1986، ارتفع هذا العدد إلى خمسين ألفًا. وبذلك أُسِّس للرابط بين الليكود والضفة الغربية والإسكان الرخيص[10]. وكان هذا إنجازًا محوريًا وضعَ الطبقة العاملة والطبقة المتوسطة الدنيا على أعتاب الليكود، وخلق حافزًا قويًا لدائرة انتخابية واسعة للتصويت للحزب.

أدت سياسات الليكود في الوقت نفسه إلى تحويل السُّكان اليهود المتشددين (الحريديم) إلى قطاع تابع آخر. اعتمد الحريديون حتى عام 1977 على دولة الرفاهية. كان بإمكانهم شراء مساكن رخيصة. عملت النساء في نظام التعليم الحريدي، وقد وجد الرجال فرص عمل من خلال تقديم الخدمات الدينية التي يحتاجها غير الحريديين، حيث عملوا حاخاماتٍ ومرشدينَ دينيين ومشرفين على الكشروت[11]. وقد غيرت سياسات الليكود كل هذا مع جفاف الإسكان العام. شرع بيغن في اتخاذ إجراءات أعادت تشكيل المجتمع الحريدي، وجعلته يعتمد على المساعدات. قام بإزالة القيود المفروضة على عدد طلاب المدرسة الدينية المعفيين من الخدمة العسكرية. كما تعهد، في اتفاقه مع الحزب الذي يمثل اليهود الحريديم، بإعطاء أفراد الخدمة الحريديين مخصصات مالية، على الرغم من أن العديد من أفراد المجتمع لم يخدموا في الجيش. كما زِيدت مخصصات الأطفال لليهود الحريديم، في حين خُفِّضت مخصصات الأطفال لغير الحريديم. ونتيجة لذلك، ارتفع عدد طلاب المدارس الدينية بين عامي 1977 و1999 من 8240 إلى 31,174، وبحلول عام 2015 وصل هذا العدد إلى 64,605. في عام 1977، كان 5% فقط من العائلات في مدينة بني براك ذات الأغلبية الحريدية لديها ستة أطفال أو أكثر. وبعد مرور عقد من الزمن، وصلت نسبة الأسر التي لديها ستة أطفال إلى 15%. كان الاتجاه خلال تلك السنوات عند عموم السكان هو العكس[12] .

وكانت السياسة الخارجية لبيغن بمثابة استمرار لسياسته الداخلية ولكن بوسائل أخرى. في أعقاب صدمة النفط عام 1973، كانت إدارة كارتر حريصة على التوصل إلى اتفاق سلام من شأنه تسوية مسألة قناة السويس، القناة الرئيسة لتجارة الطاقة بين الخليج الفارسي وأوروبا. فُتحت القناة أمام الملاحة الدولية عام 1975 بفضل اتفاق وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه واشنطن مع إسرائيل. ولكن أي مواجهة مصرية إسرائيلية أخرى قد تؤدي إلى إغلاق قناة السويس، وبالتالي إلى ارتفاع آخر في أسعار البنزين، وهو الأمر الذي قد يثير غضب الناخبين الأميركيين. ورد بيغن على تلك الضغوط ببدء محادثات سرية مع الرئيس المصري أنور السادات. كان بيغن، الذي كان عادة من المؤيدين المتحمسين لفكرة «أرض إسرائيل الكبرى»، على استعداد لإعادة شبه جزيرة سيناء بالكامل بشرط أن يتخلى السادات عن مطالبه بإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. وبذلك قدّم بيغن تنازلًا إقليميًا كبيرًا لحماية الأراضي المرغوبة إستراتيجيًا في الضفة الغربية. وقد أُبرِمت اتفاقية السلام بين إسرائيل ومصر عام 1979 على هذا الأساس.

عندما دخل رونالد ريغان البيت الأبيض في كانون الثاني/ يناير 1981، تنفّس بيغن الصعداء. فقد كان الرئيس المسن يتبنى آراء مؤيدة لإسرائيل بقوّة ويعتبر الدولة اليهودية حليفًا أساسيًا في المعركة العالمية ضد «الإمبراطورية الشريرة». وأصبح بيغن، بعيد إعادة انتخابه في عام 1981، أكثر جرأة واتخذ خطًا أكثر صرامة في سياسته الخارجية. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية في مرمى بصره. كان لمنظمة التحرير الفلسطينية قوات عسكرية في لبنان، وبالتالي كان بإمكانها معارضة حملة الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية من خلال إطلاق صواريخ الكاتيوشا على المستوطنات في الجليل. بدأت إسرائيل في حزيران/ يونيو 1982 عملية “سلامة الجليل” العسكرية. استمرت العملية عدة أشهر وأحدثت قدرًا كبيرًا من الدمار للسكان المدنيين اللبنانيين، وكانت ناجحة في إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان. بالنسبة لبيغن، كان سحق منظمة التحرير الفلسطينية أمرًا أساسيًا لمواصلة حملة الاستيطان في الضفة الغربية التي أطلقتها حكومته. إن نفي منظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس، بعيدًا عن مناطق الصراع في غزة والضفة الغربية، منعها من الانخراط في كفاح مسلح فعال ضد توسع المستوطنات الإسرائيلية.

الوحدة والاستقرار: حزب العمل والليكود يتوصلان إلى اتفاق (1984-1991)

خططت إسرائيل بعد إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان لإقامة حكومة صديقة ثم الانسحاب. ولكن الأمور لم تسر حسب الخطة. وغرق الجيش الإسرائيلي في مستنقع من الحرب منخفضة الكثافة. وقد أدت التكاليف المرتفعة لتمويل الحرب إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في إسرائيل. وأصبح بيغن يشعر باليأس على نحوٍ متزايد، واستقال في تشرين الأول/ أكتوبر 1983، وتمكنت الحكومة المؤقتة من البقاء لعدة أشهر إضافية. وأخيرًا، تمت الدعوة إلى إجراء انتخابات، وأجريت في صيف عام 1984.

وقد أدت هذه الانتخابات إلى برلمان معلق. وكان الحل الذي توصل إليه شمعون بيرس، زعيم حزب العمل، وإسحاق شامير، زعيم حزب الليكود، هو تشكيل ائتلاف كبير، المعروف باسم «حكومة الوحدة»، يشارك فيه كلا الحزبين. وقد حظيت بأغلبية ساحقة في البرلمان. وكان ذلك إنجازًا آخر على طريق إسرائيل نحو النيوليبرالية. وكان الإنجاز التاريخي الذي حققه حزب العمل الإسرائيلي هو إنشاء دولة الرفاهية والمؤسسات الملحقة بها. والآن بعد أن عاد حزب العمل إلى أروقة الحكومة للمرة الأولى منذ عام 1977، أصبح بوسعه أن يعمل على إنعاش دولة الرفاهية بعد أن حاول حزب الليكود تدميرها. إلا أن حزب العمل فعل العكس، وتبنّى النيوليبرالية ودفعها إلى أبعد مما كانت قد وصلته.

بدأ شمعون بيرس، الذي شغل منصب رئيس الحكومة بين عامي 1984 و1986، فترة ولايته بالتوجه إلى وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز (George Shultz). وطلب بيريس حزمة مساعدات عاجلة بقيمة إجمالية قدرها 4 مليارات دولار لمساعدة إسرائيل في التعامل مع أزمتها الاقتصادية. ورد شولتز، الخبير الاقتصادي الشهير ووزير الخزانة الأسبق، بأن الولايات المتحدة لا تستطيع الاستجابة لهذا الطلب إلا بعد أن تتبنى إسرائيل الإصلاحات الاقتصادية التي تحتاج إليها احتياجًا كبيرًا. ونتيجة لذلك، اتفق شولتز وبيرس على تشكيل فريق أميركي إسرائيلي من الخبراء الاقتصاديين للعمل على وضع خطة لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد الإسرائيلي المضطرب.

وباعتبارهما ممثلين له في الفريق المشترك، عيّن شولتز اثنين من المؤيدين القويين للنظريات الاقتصادية لميلتون فريدمان: هربرت شتاين (Herbert Stein) وستانلي فيشر (Stanley Fischer). وطلب شولتز من فيشر وشتاين أن يوضحا للإسرائيليين أن مصير حزمة المساعدات الإضافية مشروط بقبول توصياتهما. ويتذكر فيشر أنه كلما واجهت المفاوضات مشكلة، كان يقول لمحاوره الإسرائيلي ببساطة: «إن الوزير يعتقد أن…»، وقال فيشر بأن هذه الجملة كانت فعّالة أكثر بكثير من التفسيرات المتعلقة بالنماذج الاقتصادية[13].

ومن جانبه، عيَّن بيرس أساتذة اقتصاد إسرائيليين، مثل مايكل برونو، الذين كانوا من أتباع جون ماينارد كينز في السابق، ولكنهم تحولوا إلى أنصار متحمسين للمذهب النقدي خلال أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. وأصبحوا على نحو متزايد مقتنعين بأن الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها إسرائيل ناجمة عن دولة الرفاهية التي كانت سخية للغاية والنقابات العمالية التي كانت قوية للغاية. لقد كتبوا أن هذه الأمور كانت ترفًا لم يعد بإمكان إسرائيل تحمله[14].

وقد ناقشت حكومة الوحدة في 30 حزيران/ يونيو 1985 الخطة الاقتصادية التي ساعد الفريق المشترك من خبراء الاقتصاد الإسرائيليين والأميركيين في صياغتها. وكان هذا الاجتماع واحدًا من الاجتماعات الأكثر دراماتيكية في تاريخ إسرائيل. واستمرت حتى الليل ولم تنته إلا في ساعات الصباح من اليوم التالي. وقد قدم بيرس، الذي ترأس الاجتماع بصفته رئيسًا للحكومة، الخطة باعتبارها دواءً مرًا يتعين على إسرائيل أن تبتلعه لعلاج مرضها الاقتصادي. لقد عارضته أقلية صاخبة، ولكن نجح بيرس في النهاية في إجبارهم على التراجع. وتصدر قرار مجلس الوزراء بتبني الخطة في الأول من تموز/ يوليو عناوين الصحافة الإسرائيلية. فوجئ الجميع في البداية بمدى قسوة الإجراءات التي أقرتها حكومة الوحدة.

وتضمن القرار خفض قيمة الشيكل بنسبة 19%، وخفض الميزانية بمقدار 1.5 مليار دولار، وتسريح 3% من موظفي الحكومة (حوالي 10 آلاف موظف)، وتجميد الأسعار والأجور لمدة ثلاثة أشهر. ورغم صعوبتها، إلا أن هذه لم تكن المكونات الأكثر أهمية في الخطة. في واقع الأمر، كانت عمليات تسريح العمال وخفض الميزانية قابلة للعكس إلى حد كبير. إن ما جعل خطة الاستقرار لعام 1985، كما أصبحت معروفة، نقطة تحول هو القوانين المصاحبة لها. وقد أدى ذلك إلى تحويل عملية اتخاذ القرار في الشؤون الاقتصادية من السياسيين إلى التكنوقراطيين، الذين كانوا في الغالب من خبراء الاقتصاد. ويجب أن نضيف أن هذا كان اتجاهًا عالميًا. من الصعب تصديق ذلك في أيامنا هذه، ولكن حتى أواخر سبعينيات القرن العشرين، كان تأثير خبراء الاقتصاد على سياسة الحكومة محدودًا للغاية. كان بإمكانهم تقديم النصح، لكن القرارات كانت تتخذ بيد السياسيين. وكان هذا على وشك أن يتغير بشكل كبير. لقد تعاون الاقتصاديون الإسرائيليون والأميركيون الذين كانوا جزءًا من فريق شولتز – بيرس لتقديم القوانين الجديدة باعتبارها ضرورة مطلقة، على الرغم من أنهم اعترفوا بعد سنوات عديدة بأنهم كانوا يتظاهرون بذلك.

وتحت ضغط شتاين وفيشر، اللذين اعتقدا مثل ميلتون فريدمان، أن المعروض النقدي هو الأمر الوحيد الذي يهم في الاقتصاد، أُدرِج قانونٌ يكرس استقلال بنك إسرائيل المركزي في الخطة. وحتى تلك النقطة، كان محافظ البنك خاضعًا تمامًا لأهواء السياسيين. ومن المقرر أن يقرض البنك الحكومة ما يصل إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو الإجراء المعروف في اللغة الإسرائيلية باسم «طباعة النقود». ومن هنا جاء اسم «قانون عدم الطباعة» الذي أطلق على قانون بنك إسرائيل. ومن تلك النقطة فصاعدًا، يصبح المحافظ هو الذي يتخذ القرار السياسي الأسمى بشأن أسعار الفائدة وحده. كان بإمكان الحكومة في ذلك الوقت أن تطلب ولكنها لم تكن قادرة على إصدار الأوامر. وبذلك وضع القانون حدًّا صارما لقدرة الحكومة على زيادة ديونها وإنفاق الأموال.

وقد أُقِرّ قانونان آخران كتشريعات طوارئ، لكنهما اكتسبا صفة دائمة في السنوات التالية. وكما هو الحال بالنسبة لقانون بنك إسرائيل، فقد كرَّس قانون «أساس الميزانية» (Foundation of the Budget) وقانون التسوية فاعلية التكنوقراط. لقد حولت هذه القوانين الاقتصاديين في وزارة المالية إلى ديكتاتوريين اقتصاديين. وقد سمح لهم قانون أساس الميزانية بالسيطرة على ميزانيات الوزارات وكذلك كل هيئة موازية، مثل المجالس البلدية. لا يمكن إنفاق سنت واحد دون موافقة وزارة الخزانة. ومكّن قانون الترتيبات (the Arrangement Law) خبراء الاقتصاد في وزارة المالية من إرفاق كل ميزانية بمشروع قانون شامل مطول يتضمن الإصلاحات الاقتصادية التي يرون أنها ضرورية. وكانوا يكتبونها عادة بلغة غامضة كثيفة لا يستطيع الوزراء ولا أعضاء البرلمان فهمها. في كثير من الأحيان تٌقدّم في اللحظة الأخيرة، مما يترك للسياسيين وقتًا قصيرًا جدًا لقراءة أو استيعاب ما يصوتون عليه[15]. ووصف أحد الصحافيين هذا القانون بأنه «مناهض للديمقراطية».

وتوضح هذه القوانين مدى تماسك المشروع النيوليبرالي الإسرائيلي. لقد جاءت الحكومات وذهبت بسرعة مدهشة منذ عام 1985، ولكن التكنوقراط، الذين خدموا لفترة أطول من الوزراء، وتمتعوا بسلطة هائلة، تمكنوا من تعزيز أجنداتهم الاقتصادية، على الرغم من ذلك. بلغ الإنفاق الحكومي في عام 1985 في إسرائيل 65% من الناتج المحلي الإجمالي. وبعد مرور ثلاثة عقود من الزمن، أصبح الإنفاق الحكومي واحدًا من أدنى المعدلات في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إذ بلغ أقل من 40%. كان هذا بمثابة شهادة على قدرة الخبراء الاقتصاديين على إجراء سلسلة من التغييرات التدريجية على الميزانيات والقوانين التي بدت غامضة بالنسبة لعامة الناس، ولكنها كانت لها عواقب حقيقية[16].

وكانت هناك عقبة محتملة أخرى أمام خطة الاستقرار وهي العمل المنظم. كان من المفترض أن تثير القرارات الأحادية الجانب التي اتخذتها الحكومة بشأن تسريح العمال وتجميد الأجور غضب الهستدروت. ولكن في تلك المرحلة، كانت الهستدروت تعاني من الديون المرتفعة لمؤسساتها الاقتصادية، وخاصة شركات العمال وصندوق المرضى، فضلًا عن أسعار الفائدة المرتفعة التي كان عليها أن تدفعها. كانت الهستدروت على استعداد للمشاركة في خطة الاستقرار مقابل وعد بأن وزراء حزب العمل سوف يرتبون عمليات إنقاذ لشركاتها المتعثرة[17].

لماذا تبنى حزب العمل الإسرائيلي النيوليبرالية؟

تمثل خطة الاستقرار اللحظة التي أصبحت فيها الأيديولوجية النيوليبرالية مهيمنة. لم تعد الخطة مشروعًا يمينيًا. وبفضل المشاركة الحماسية لحزب العمل، أصبحت النيوليبرالية سياسة مشتركة بين الحزبين. والسؤال هنا عن السبب. ما مصالح حزب العمل في الترويج لهذا المخطط؟ لا شك أن للضغوط الأميركية دوراً في هذا، ولكن ما يبرز بوضوح هو مدى ضآلة مقاومة بيرس للمطالب الأميركية، فمن المؤكد أنه كان بوسعه أن يدافع قليلًا، بالاعتماد على المقاومة داخل حكومته.

ولعل بيرس أدرك أنه لا توجد وسيلة أخرى للتعامل مع التضخم. ولكن الخبيرة الاقتصادية الكينزية المؤيدة للصناعة، إيستر ألكسندر، التي كانت تقدم المشورة لوزارتي الطاقة والشؤون الاقتصادية، اعتقدت أن هذا الادعاء زائف. وبحسب قراءتها، انخفض التضخم انخفاضًا كبيرًا بفضل اتفاقيتين شاملتين وقّعتا بين وزارة المالية والهستدروت والقطاع الخاص في تشرين الثاني/ نوفمبر 1984 كانون الثاني/ يناير 1985. ولم يرتفع معدل التضخم مرة أخرى إلا في شباط/ فبراير 1985 عندما خالف المسؤولون في وزارة المالية وعودهم من خلال خفض دعم الغذاء من جانب واحد وإنهاء ضوابط الأسعار[18].

والتفسير الأكثر ترجيحًا هو أن تبني حزب العمل الحريص على هذا البرنامج كان بمثابة استجابة لجوانبه المؤسسية. وبحلول عام 1985، أدركت الطبقة المتوسطة المتعلمة أن الاضطرابات التي شهدتها إسرائيل في عام 1977 لم تكن استثناءً، بل كانت في واقع الأمر علامة على تحول ديموغرافي واجتماعي في المجتمع الإسرائيلي. وقد أدى تزايد أعداد المستوطنين والمتدينين المتشددين، فضلًا عن تحالف الطبقة العاملة مع الليكود، إلى منح حزب الليكود أغلبية دائمة. وقد اعتبرت انتخابات عام 1984 دليلا قاطعًا على ذلك. لقد دخل حزب الليكود الانتخابات في أسوأ الظروف الممكنة. لقد رحل الخطيب الناري بيغن. وكان على رأس الحزب إسحاق شامير الذي كان رجلًا باهت اللون. وكان الاقتصاد في حالة ركود. ظلت الحرب في لبنان مستمرة. وكان بيرس، الذي خسر أمام الليكود في الدورتين الانتخابيتين السابقتين، واثقًا من أنه سيخرج منتصرًا هذه المرة. ولكن من المثير للدهشة أن التحالفات الاجتماعية التي شكلها بيغن في السنوات السابقة صمدت في وجه الاختبار الانتخابي. خسر حزب الليكود سبعة مقاعد في البرلمان لكنه لم يُهزم. ووجد بيرس أن حزب العمل والأحزاب الراغبة في الانضمام للائتلاف بقيادة الحزب، لا تستطيع الفوز بالأغلبية في البرلمان.

وبدلًا من تغيير برنامج حزبه بطريقة تساعد حزب العمل على كسب أصوات ناخبين جدد، فضّل بيرس إعطاء السلطة إلى البيروقراطيين غير المنتخبين الذين ينحدرون من صفوف البرجوازية المتعلمة. وكان لدى بيرس ميل طبيعي إلى هذه الفكرة، حيث ارتقى هو نفسه إلى القمة كخبير تكنوقراطي خدم في وزارة الأمن في أدوار مختلفة بين عامي 1953 و1965. وعلاوة على ذلك، ووفقًا لاستطلاعات الرأي المعاصرة، فإن هذه الطبقة تدعم حزب العمل. وعلى حد تعبير أحد علماء تلك الفترة، فإن «نخبة المعرفة» كانت «حليف بيرس الوحيد في ذلك الوقت». كان بيرس في الواقع يستدعي الخبراء والعلماء والمحللين من أروقة الحكومة والأوساط الأكاديمية في كثير من الأحيان لتقديم المشورة، وفحص السياسات، وكتابة المذكرات. وقد أدى هذا إلى انفصال بيرس عن أجهزة الحزب، لدرجة أن أحد نشطاء الحزب اشتكى من أن الفريق المحيط به كان «محترفًا للغاية»، وأن رئيس الحكومة كان يستمع في كثير من الأحيان إلى «ما يقوله الأساتذة». وهكذا نجح بيرس في تشكيل «تحالف المعرفة والقوة»[19].

ويبدو أن بيرس وقيادة حزب العمل أدركوا أن المشروع النيوليبرالي يلعب لصالح الطبقات التي تدعم الحزب. ونتيجة للإصلاحات التي دعمها بيرس، تغيرت صلاحيات اتخاذ القرارات السياسية. وأصبحت الآن في أيدي قوى السوق غير الشخصية والبيروقراطيين الذين لا وجه لهم. قد يستمر الليكود في الفوز في صناديق الاقتراع، لكن اتخاذ القرار الحقيقي سيكون الآن في أيدي التكنوقراط في بنك إسرائيل، ووزارة المالية، والشركات الخاصة[20].

وجدت حملة الاستيطان في الضفة الغربية في الوقت نفسه خزانًا جديدًا من القوى العاملة. بحلول أواخر ثمانينيات القرن العشرين، كان اليهود الحريديون يواجهون أزمة سكنية حادة. لقد أدت خصخصة الإسكان إلى ارتفاع أسعار المساكن، وإلى مستويات تتجاوز بكثير قدرات اليهود الحريديين. ولم يكن كثير من الرجال يعملون واعتمدوا على المخصصات التي أقرتها حكومة الليكود الأولى. إن ما أرادوه قبل كل شيء هو العيش بالقرب من القدس وأماكنها المقدسة. وكان ديفيد ليفي، الذي كان ما يزال يشغل منصب وزير الإسكان، يرغب في توسيع مشروعه لبناء المستوطنات التي كانت في الأساس عبارة عن ضواحي. وهكذا نشأت المستوطنتان الحريديتان بيتار عيليت (التي أنشئت في عام 1988) وموديعين عيليت (1991). كما اهتمت وزارة الإسكان ببناء طرق واسعة تتجاوز البلدات الفلسطينية وتضمن لسكان المستوطنات اليهودية المتطرفة سهولة الوصول إلى القدس.

حتى تلك النقطة، كان الحريديون يدعمون حزب الليكود بسبب الضرورة الاقتصادية البحتة، وليس من باب حب أرض إسرائيل الكبرى. وقد غيرت المستوطنات الجديدة كل ذلك. وبدأت مصالح المستوطنين والحريديون تتوافق مع حل المستوطنات الجديدة لأزمة السكن التي كانوا يعانون منها. وعلى نحو متزايد، تبنت القيادة اليهودية المتشددة الطموح الإقليمي لحزب الليكود، حيث قامت نسبة متزايدة من ناخبي الحزب ببناء منازلهم في الضفة الغربية. وبحلول عام 2013، كان 13% من اليهود المتشددين يعيشون هناك. وكان انضمام المتطرفين اليهود إلى صفوف الليكود أمرًا مهمًا بالنسبة للمستوطنين أيضًا. وعندما أنشئت المستوطنات اليهودية المتشددة الأولى، كانت حملة الاستيطان في الضفة الغربية تفقد زخمها الديموغرافي. وقد عكست المستوطنات اليهودية المتشددة هذا الأمر. وتلد الأسرة المتوسطة من اليهود المتشددين سبعة أطفال أو أكثر، ونتيجة لهذا، نما عدد سكان كل من هذه المستوطنات التي أنشئت في أواخر الثمانينيات بنسبة تتراوح بين 10% و12% سنويًا. اعتبارًا من عام 2022، كان يعيش 146 ألف شخص في أكبر ثلاث مستوطنات يهودية متشددة، والتي شكلت ثلث سكان المستوطنين في الضفة الغربية[21].

السلام النيوليبرالي: رابين والتسعينيات الصاخبة

كانت إسرائيل بحلول أواخر ثمانينيات القرن العشرين قد أدخلت التغييرات على اقتصادها التي سمحت لها بأن تصبح جزءًا من المشروع الذي تقوده الولايات المتحدة للعولمة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. تمكنت إسرائيل من تحقيق التوازن في ميزانيتها واستقرار عملتها. وقد أدت خصخصة صناعات الهستدروت وبعض شركات القطاع العام إلى خلق فرص مربحة للمستثمرين من القطاع الخاص. إلا إنه ثبتَ أن اندلاع الموجة الأولى من الانتفاضة الفلسطينية، التي بدأت في عام 1987، كان بمثابة عبئًا على الاقتصاد وعائقًا أمام الاستثمار الأجنبي المباشر. لقد اختفت إحدى الفوائد الرئيسية التي جلبها الاحتلال للاقتصاد الإسرائيلي، أي توفير العمالة الفلسطينية الرخيصة، حيث لم يُسمح للعمال الفلسطينيين بدخول إسرائيل خلال سنوات الانتفاضة.

وأدركت البرجوازية الإسرائيلية أن الوقت قد حان للتحرك، فسارعت إلى دعم إسحاق رابين، الذي أصبح الآن زعيمًا لحزب العمل. وكانت دورة الانتخابات عام 1992، التي فاز بها حزب العمل، هي الأولى منذ سنوات عديدة التي تمت فيها مناقشة مستقبل الأراضي المحتلة مناقشة صريحة. أعلن دوف لاوتمان، قطب صناعة المنسوجات والرئيس السابق لجمعية المصنعين، قبل أسبوع واحد من الانتخابات أن التقدم في محادثات السلام مع الفلسطينيين فقط هو الذي يمكن أن يجعل إسرائيل جذَّابة للمستثمرين الأجانب. وكان مُحقًّا. كانت عملية السلام في أوسلو التي روجت لها حكومة حزب العمل بمثابة اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (نافتا) بالنسبة لإسرائيل. وبحلول عام 1993، ساعدت عملية السلام في إنهاء الانتفاضة وتمكين إسرائيل من الاندماج في الاقتصاد العالمي. كما أدّت اتفاقيات أوسلو إلى تحسين علاقات إسرائيل مع الأردن ومصر، وكما هو الحال مع اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية بالنسبة للشركات الأميركية، فقد سمحت لرجال الأعمال الإسرائيليين بالاستفادة من العمالة الرخيصة في الدول المجاورة من خلال نقل خطوط الإنتاج التي تتطلب عمالة كثيفة إلى هناك. ووصل الاستثمار الأجنبي المباشر في الاقتصاد الإسرائيلي، والذي كان يكاد يكون لا يكاد يذكر حتى عام 1993، إلى ما بين 1.5 و2 مليار دولار سنويا بحلول منتصف العقد. افتتحت ماكدونالدز أول فرع لها في إسرائيل في العام الذي بدأت فيه عملية أوسلو. كما حرّرت حكومة حزب العمل التدفقات المالية الداخلة والخارجة في عامي 1992 و1996 على التوالي.

كانت حقبة أوسلو بمثابة نعمة كبيرة للبرجوازية الإسرائيلية ورأس المال الخاص. واستمرت الخصخصة بوتيرة سريعة في قطاعات متنوعة مثل الإسكان والنقل والموارد الطبيعية والاتصالات والتعليم وبناء السفن. أُلغيت الرسوم الجمركية، وزاد دخول إسرائيل للأسواق العالمية. كما ركزت حكومة رابين أيضًا على تطوير الصناعات التكنولوجية عالية التقنية في إسرائيل. وضُوعِفت ميزانية مكتب كبير العلماء، الذي يستثمر في البحث واتطوير غير العسكري. كما أنشأت الحكومة صندوقًا لرأس المال الاستثماري مملوكًا للدولة يسمى يوزما (والذي يعني برنامج «المبادرة») والذي استثمر في الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا. وكانت النتائج مثيرة للإعجاب: ففي حين لم تشكل المنتجات ذات التقنية العالية سوى 14% من صادرات إسرائيل من السلع المصنعة في السبعينيات و28% في أواخر الثمانينيات، فقد وصلت حصتها خلال التسعينيات إلى 54%.

وقد شرَّعت حكومة رابين قوانين إضافية أدت إلى زيادة الاستقلال المؤسسي لوزارة المالية وبنك إسرائيل، مثل قانون العجز (Deficit Law)، الذي عمل على الحد من قدرة الحكومة على إنفاق الأموال، وكل هذا أدى إلى تقليص قدرة البرلمان والحكومة على الإشراف على قرارات التكنوقراط. ولم تكتفِ الحكومة بتمكين خبراء الاقتصاد فحسب، بل عززت سلطة التكنوقراط القضائيين أيضًا. ومن هنا جاءت «الثورة الدستورية» في عام 1992، التي منحت المحكمة العليا لأول مرة سلطة استبعاد القوانين التي تعتبرها غير دستورية.

أمّا بالنسبة للطبقة العاملة الإسرائيلية، كانت سنوات أوسلو بمثابة صفقة قاسية. وكان ناخبو الليكود متشككين بشأن «عوائد السلام» الموعودة. ومن وجهة نظرهم فإن قرار حكومة رابين بتجميد أعمال البناء في الضفة الغربية أدى إلى منعهم من الحصول على السكن الرخيص. كما هددت عملية السلام سبل عيشهم بطرق أخرى. وقد سمح ذلك لإسرائيل بتعزيز علاقاتها مع الدول العربية المجاورة. وانتهزت الشركات الإسرائيلية الفرصة لإغلاق المصانع التي تتطلب عمالة كثيفة، والتي كانت تقع في كثير من الأحيان على أطراف إسرائيل حيث يعيش ناخبو الليكود، وإعادة فتحها في مصر أو الأردن، حيث العمالة أرخص. وكان دوف لاوتمان نفسه الذي دعم رابين في عام 1992 قد نقل، بحلول عام 1998، نصف خطوط إنتاج المنسوجات الخاصة به إلى الخارج. كما غيَّرت حكومة رابين طريقة تخصيص الدعم للصادرات. وفي حين كانت هذه الموارد تُمنح في السابق للمصانع في أطراف إسرائيل، فإنها الآن تُخصص لشركات التكنولوجيا الفائقة (هايتك) في المناطق الحضرية الأكثر ربحية.

وعملت حكومة رابين على إضعاف الهستدروت بالقدر نفسه من الجدية والاجتهاد الذي فعلته حكومات الليكود. وكان السبب في ذلك هو أنه بحلول أوائل تسعينيات القرن العشرين، بدأ يُنظر إلى الهستدروت باعتبارها عبئًا وليس أصلًا. أجبرت الحالة المزرية التي كانت عليها مؤسساتها الاقتصادية في عامي 1986 و1988 حزب العمل على البقاء ضمن حكومة الوحدة لترتيب القروض وعمليات الإنقاذ لشركات العمال وصندوق المرضى. وهكذا فإن احتياجات الهستدروت منعت حزب العمل من التمايز عن الليكود. كما سعى جيل جديد من القادة الشباب الذين خرجوا من اتحادات الطلاب إلى تدمير هيمنة الهستدروت داخل الهيئات الداخلية للحزب التي تختار المرشحين على المستويين المحلي والوطني. وبفضل مباركة قيادة الحزب، تمكن هؤلاء السياسيون الشباب من إصلاح إجراءات الاختيار الداخلية من خلال استبدال اللجان بالانتخابات التمهيدية (برايميرز).

خلقت هذه التغييرات مساحة سياسية لحكومة رابين لفصل العضوية في الهستدروت عن الوصول إلى الخدمات الصحية. لقد كانت تلك ضربة قاسية للعمالة المنظمة. ما جعل الهستدروت أكبر نقابة عمالية في إسرائيل هي صندوق المرضى الذي كان يؤمّن على غالبية العمال. بعد صراع داخلي متوتر داخل الحزب، شرّعت حكومة حزب العمل قانون الصحة الوطني في عام 1994، والذي أدى في الأساس إلى تأميم صندوق المرضى التابع للهستدروت. ونتيجة لذلك، انخفض عدد حاملي بطاقات الهستدروت إلى النصف بين عامي 1992 و1996[22].

وفي حين عملت حكومة حزب العمل على تقويض العمل المنظم، فإنها عملت على تشجيع أشكال العمالة الضعيفة من خلال إقرار تشريع عام 1996 ينظم توظيف العمال من خلال «شركات القوى العاملة». وكان العمال الذين يعملون من خلالها يحصلون على أدنى الأجور، وكان من الممكن فصلهم تعسفيًا. ورغم أن المحاكم حصلت على الصلاحيات اللازمة بفضل ما يسمى بالثورة الدستورية، فإنها غالبًا ما رفضت حماية العمال الضعفاء، ومنحت الحق في الملكية الخاصة مكانة عليا. كل هذا يشير إلى التأثيرات غير المتكافئة للسياسات الاقتصادية التي انتهجتها حكومة رابين. أدى اندماج إسرائيل في الاقتصاد العالمي إلى تحقيق السلام للطبقات المتوسطة المتعلمة، فيما ترك وراءه الطبقة العاملة. وفي الفترة ما بين عامي 1990 و2002، ارتفعت حصة الدخل التي تتمتع بها الشريحة الأعلى من أصحاب الدخول من 25% إلى 30%، في حين ظلت راكدة أو في انخفضت بالنسبة لجميع الشرائح الأخرى من أصحاب الدخول. ارتفع مؤشر جيني لقياس التفاوت في توزيع الدخل (Gini coefficient)[23] من 0.498 في عام 1993 إلى 0.528 عام 2002 في إسرائيل[24]. كانت هذه هي التجارب التي شكلت وجهة نظر الطبقة العاملة تجاه عملية أوسلو للسلام، وعندما أتيحت لها الفرصة، صوتت لإخراج حكومة حزب العمل من السلطة.

الحظَّ ليس مواتيًا في أول مرة: الاقتصاد السياسي لفشل نتنياهو (1996-1999)

أصبحت الساحة الإسرائيلية الآن جاهزة لنوعٍ جديدٍ من السياسيين المُطالِب بمنصب رئيس الحكومة، وهو ليس من المُنظِمين العماليين السابقين ولا من الجنرالات السابقين، كما كان العديد من زعماء إسرائيل. وبدلًا من ذلك، فإن الموهبة الرئيسية لأي منافس مستقبلي ستكون القدرة على جذب المانحين ذوي الجيوب العميقة. باختصار، كان الوقت قد حان لتألق بنيامين نتنياهو. ومن بين أهم أصوله: علاقاته القوية مع المانحين اليهود المحافظين الأثرياء، ومعرفته الطويلة بالحزب الجمهوري.

لقد وصل نتنياهو، الذي كان يعرف ريتشارد بيرل (Richard Perle)[25] شخصيًا، إلى السلطة وهو مشبع بالأفكار المحافظة الجديدة التي سيدافع عنها جورج دبليو بوش في وقت لاحق. لكن الوقت لم يكن مناسبًا لتنفيذ مثل هذه السياسات. وكان شريكاه الرئيسان في الائتلاف من الأحزاب القطاعية. وكان أحد هذه الأحزاب، حزب شاس، الذي يمثل الحريديم الشرقيين. أما الحزب الآخر، يسرائيل بيتينو، فقد مثَّل المهاجرين الناطقين بالروسية من الاتحاد السوفييتي السابق. وأبدى كلا الحزبان اهتمامهما بزيادة المخصصات المالية لقطاعاتهما. ولم يكن أي منهما مؤيدًا لخفض الضرائب على الأثرياء. ولم يكن لديهما مجالًا كبيرًا لسياسة خارجية متشددة. وبضغط من إدارة بيل كلينتون، واصل نتنياهو عملية أوسلو، بل ووقَّع على بروتوكول الخليل في عام 1997، الذي وضع أراضي إضافية في الضفة الغربية تحت سيطرة السلطة الفلسطينية. وردّت أحزاب اليمين المتطرف على تنازلات نتنياهو بخيبة أمل، وسحبت دعمها لائتلافه. وكانت هذه هي الخلفية التي أدت إلى انتخابات 1999 التي خسرها نتنياهو. ولو كانت تلك السنوات الثلاث التي قضاها رئيسًا للحكومة هي مساهمته الوحيدة في السياسة الإسرائيلية، لكان قد ذُكِر باعتباره مجرد حاشية تاريخية. لم تكن فترة التسعينيات الوقت المناسب له لترك بصمته[26].

التجربة المحافظة الجديدة: شارون ونتنياهو وإصلاحات 2003

عاد نتنياهو إلى الواجهة بعد ثلاث سنوات أمضاها في الصحراء السياسية. وعُيِّن عام 2002 وزيرًا للخارجية في حكومة رئيس الحكومة أرئيل شارون. وعُيّن بعد عام واحد، أي عام 2003، وزيرًا للمالية في تعديل وزاري. وهكذا بدأ أحد أهم فصول حياته المهنية وأقلّها مفهوميةً. لقد سعى كل من شارون ونتنياهو إلى الانفصال عن التحالف القطاعي الذي ضم المستوطنين والطبقة العاملة والأرثوذكس المتشددين الذي بناه بيغن. وأرادا إقامة تحالف مع البرجوازية والطبقة المتوسطة.

ويبدو أن تفكير نتنياهو يعترف بالواقع الجديد. بعد عقدين من الإصلاحات النيوليبرالية، ازداد القطاع الخاص قوة وأهمية. قد يكون التحالف مع رأس المال الخاص أفضل وسيلة لترسيخ الهيمنة. وكان التعبير السياسي الخارجي عن هذه الأجندة هو خطة شارون للانسحاب في عام 2005، والتي أدت إلى الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة وأجزاء من الضفة الغربية. وقد تُرِكَ الجانب الاقتصادي من هذه الأجندة لسيلفان شالوم، سلف نتنياهو في وزارة المالية، ولنتنياهو نفسه. لقد أجرى كل من شالوم ونتنياهو تخفيضات وحشية في الإعانات الاجتماعية، في حين خفَّضا الضرائب المفروضة على الأثرياء للغاية. وباختصار، كانت هذه هي الصورة المعاكسة للسياسة الاقتصادية التي انتهجها الرئيس بوش. وبحسب أحد التقديرات، خسرت الخزانة 23 مليار شيكل من الإيرادات بسبب تخفيضات الضرائب التي فرضها نتنياهو على الأثرياء. وكانت الحجة هي أنه من الضروري ضمان عدم هجرة العمال الموهوبين في مجال التكنولوجيا الفائقة إلى الخارج. لكن شالوم ونتنياهو وجدا طريقة لاستعادة الإيرادات المفقودة. خُفضِّت ميزانية الدولة بين عامي 2001 و2003 بنسبة 20 في المئة. وفي تلك السنوات نفسها، خُفضت مخصصات الشيخوخة بنسبة 10%، ومخصصات ضمان الدخل بنسبة 20%، والإعانات للأسر ذات الوالد الوحيد بنسبة 28%، وإعانات البطالة بنسبة 23%.

وقد تلاءمت الظروف لتجعل ائتلاف شارون جاهزًا للقبول بمثل هذه السياسات. وكان حزب شينوي (والذي يعنه اسمه «التغيير»)، وهو حزب برجوازي، جزءًا من الائتلاف، ويدعم أجندة نتنياهو الاقتصادية بحماسة. ولم تكن الأحزاب المتشددة جزءًا من ائتلاف شارون بين عامي 2003 و2006، واستغل نتنياهو هذه الفرصة لخفض مُخصَّصات الأطفال التي كانت تعتمد هذه الدائرة عليها إلى حد كبير. وكان هذا تحوّلًا جذريًا. كانت إسرائيل، قبل تولي نتنياهو لوزارة المالية، تتمتع بأحد أكثر مخصصات الأطفال سخاءً في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD). وبعد التخفيضات، أصبحت من بين الأدنى. فقدت بعض العائلات الأرثوذكسية المتشددة، تلك التي لديها ستة أطفال أو أكثر، ما يصل إلى ثلثي دخلها من مخصصات الأطفال[27].

واستغل نتنياهو أيضًا الفرصة لتوجيه ضربة قاضية لقوة الهستدروت. وقد انخرط هو والتكنوقراط في وزارة المالية في حملة لتخويف الجمهور بشأن قدرة صناديق التقاعد المملوكة للهستدروت على سداد ديونها. ورسم نتنياهو صورة مفادها أن هذه الأموال أُديرت إدارة سيئة وتراكمت عليها ديون كبيرة. وبناء على هذه المزاعم، أمّمت وزارة المالية الأموال، وبالتالي فصلت عضوية الهستدروت عن معاشات التقاعد. وكان هذا الإصلاح، الذي استكمل عملية تأميم صندوق المرضى، بمثابة ضربة أخرى لقدرة الهستدروت على تنظيم العمال. وبعد أن وضعت وزارة المالية هذه الصناديق التقاعدية تحت سيطرتها، عينت مديرين استثمروا معظمها في سوق الأوراق المالية، الأمر الذي جعلها مشابهة للغاية لخطط 401 (K) الأميركية[28]. وكان المسؤولون في وزارة المالية صريحين تمامًا بشأن حقيقة اتخاذهم هذه الخطوة لسحق قوة العمل المنظم[29].

وقد أدت هذه الإصلاحات إلى زيادة هشاشة أوضاع العُمّال ذوي الأجور المنخفضة، وعززت بشكل كبير من سلطة أصحاب العمل، الذين أصبحوا يتمتعون الآن بقوة عاملة أكثر خضوعًا. ويبدو من المذهل أن تحظى مثل هذه السياسة بموافقة عامة الناس، ولكن على الرغم من بعض الاحتجاجات الصاخبة، ظل الإسرائيليون غير مبالين إلى حد كبير. وكان السبب هو أنه، كما حدث في الولايات المتحدة في عهد بوش، استُخدمت صدمة الحرب ذريعةً لإقرار إصلاحات اقتصادية مؤلمة. في الولايات المتحدة كانت حرب العراق، وفي إسرائيل كانت الانتفاضة الثانية. وفي ذلك الوقت، أطلق الجيش الإسرائيلي عملية الدرع الواقي ضد الجماعات المسلحة الفلسطينية في الضفة الغربية. ووصفت وسائل الإعلام الإصلاحات التي أقرها شالوم ونتنياهو بأنها «الدرع الاقتصادي الواقي». كان الالتزام بهذه الإصلاحات بمثابة واجب وطني[30].

وعلى النقيض من فترة عمله رئيسًا للحكومة، تلقّى نتنياهو بصفتهِ وزيرًا للمالية دعمًا من صحيفة هآرتس البرجوازية، وهي لسانٌ موثوق للطبقة المتوسطة ومجتمع الأعمال، التي أشادت بسياسات نتنياهو. ووصف اتحاد المصنعين، الذي دعم حزب العمل خلال تسعينيات القرن العشرين، أجندة نتنياهو الاقتصادية بأنها «شجاعة وفي الاتجاه الصحيح»[31].

وكما هو الحال دائمًا، كان الأميركيون جزءًا من القصة[32]. وناشدت حكومة شارون عام 2002 الولايات المتحدة لتقديم حزمة مساعدات. لقد عانى الاقتصاد الإسرائيلي من نمو سلبي في الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات الثلاث السابقة نتيجة لانفجار فقاعة الدوت كوم[33] وبداية الانتفاضة الثانية. كما تأثرت أيضًا بالركود الاقتصادي الناجم عن أحداث 11 سبتمبر. صوّت الكونغرس الأميركي في نيسان/ أبريل 2003 على تقديم ضمانات قروض لإسرائيل بقيمة 9 مليارات دولار تُسلّم على ثلاث دفعات على مدى ثلاث سنوات. وبعد شهرين، تحدث جون تايلور (John Taylor)، وكيل وزارة الخزانة الأميركية للشؤون الدولية، في مناسبة عامة في القدس، وأوضح أن حصول إسرائيل على هذا الدعم مشروط بموافقة حكومتها على تنفيذ خطة اقتصادية من شأنها تقليص الميزانية والحدّ من التحويلات الاجتماعية. باختصار، كانت إدارة بوش تدعم أجندة نتنياهو الاقتصادية.

وكانت نتيجة سياسات نتنياهو واضحة. ظلَّ الإنفاق المدني كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في إسرائيل ثابتًا عند مستوى 35 في المئة حتى إصلاحات نتنياهو عام 2003. وعند هذه النقطة، بدأت التخفيضات الحادة في الإنفاق المدني حتى وصلت إلى 30 في المئة عام 2007. وفي وقت إقرار هذه السياسات، اعتُبِرت ناجحة. عندما استقال نتنياهو عام 2005، كانت إسرائيل تتمتع بأدنى معدل تضخم في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وأعلى معدل نمو. رفعت وكالات التصنيف الائتماني تصنيف الائتمان السيادي لإسرائيل من A- إلى A+. وفي الوقت نفسه، ارتفع مُعدّل الفقر بنسبة 10 في المئة. وهو ما بدا تافهًا وصغيرًا بالنسبة للخبراء في وسائل الإعلام الخاصة[34].

كانت التجربة المحافظة الجديدة، على الورق، نجاحًا اقتصاديًا. إلا أنها بوصفها مشروعًا سياسيًا، فقد كانت فاشلة. وعندما قاد نتنياهو حزب الليكود في انتخابات عام 2006، خسر الحزب ما يصل إلى خمسة عشر مقعدًا في البرلمان. وفي خطاب اعترافه بالهزيمة، اعترف نتنياهو بأن سياساته الاقتصادية هي التي أضرّت بالليكود سياسيًا. وسوف يقضي نتنياهو السنوات الثلاث التالية على مقاعد المعارضة. لقد تعلّم درسه. ولن يتخلى نتنياهو مرة أخرى عن تحالف بيغن القطاعي مع المستوطنين والحريديم.

من النيوليبرالية التكنوقراطية إلى الشعبوية اليمينية: نتنياهو والائتلاف القطاعي (2009-2024)

كما كتبت إسرائيل في عهد بيغن الفصول الأولى من تاريخ نظام حكم جديد أصبح يعرف باسم النيوليبرالية، كتبت إسرائيل في عهد نتنياهو الفصول الأولى من نوع جديد من السياسة التي ستعرف لاحقًا باسم الشعبوية في القرن الحادي والعشرين. نشأ هذا التيار الشعبوي في إسرائيل قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو صعود دونالد ترامب بكثير. وبدأ في إسرائيل كردّ فعل على تآكل آلية التعويض التي طورها الليكود. على سبيل المثال، تقاربت أسعار المساكن في الضفة الغربية مع الأسعار في سوق العقارات الإسرائيلية. وأصبحت المساكن الرخيصة في الضفة الغربية نادرة على نحوٍ متزايد.

وكان رد نتنياهو هو إنشاء نظام جديد يسميه المؤرخ الاجتماعي دانييل غوتوين «قاعدة الولاء»[35]. وقد استُورِد منطق هذا المفهوم من الضفة الغربية، حيث تتمتع المجموعات المختلفة التي تعيش في المساحة الجغرافية نفسها بحقوق مدنية مختلفة. وبالطريقةِ نفسها، حاول حزب الليكود بزعامة نتنياهو ربط الحقوق المدنية بالولاء للحزب. كما سعى إلى تخصيص الميزانية وفقًا لتقييمها لمدى ولاء القطاعات المختلفة. على سبيل المثال، سعى وزراء الليكود باستمرار إلى زيادة ميزانية البلدات التي كانت حصة الأصوات التي ذهبت إلى الليكود فيها مرتفعة بصورة خاصة. كان القانون الأساس لعام 2018 (قانون القومية الذي ينص على أن أسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي حصريا) محاولة لإنشاء بنية تحتية قانونية تسمح لحكومة الليكود بالتمييز بين العرب، الذين يصوتون باستمرار للأحزاب اليسارية، واليهود.

وظهر مثالٌ آخر على ذلك خلال جائحة كوفيد-19 عام 2020. وأصر نتنياهو على فرض عمليات إغلاق وطنية وليس إقليمية. إلا إن عمليات الإغلاق الوطنية قد طُبِّقت على نحوٍ غير متساوٍ. في المدن الحريدية، حيث طالب الحاخامات باستمرار الصلاة والمناسبات الدينية الجماعية كالمعتاد، لم يُفرض حظر التجول. وعلى نحو مماثل، عند صياغة برنامج المساعدات الذي من شأنه أن يساعد أولئك الذين تضرروا اقتصاديًا من الجائحة، اختار نتنياهو خيارًا أقل سخاء إلى حد كبير من البرامج المماثلة في بلدان أخرى في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ولكنه حرص على أن يكون أنصاره، الذين ينتمون إلى الشرائح الدنيا من الدخل، أقل تضررًا من هذه السياسة. وبهذه الطريقة كان نتنياهو يكافئهم على ولائهم. وعلى عكس ما هو الحال في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لم تكن فوائد الجائحة خاضعة للتنظيم، وبالتالي كانت معرضة لأهواء نتنياهو. وقد اعتاد أن يقدم إحاطات صحافية يعلن فيها أنه قرَّر شخصيًا زيادة الإعانات وفقَا لعدد الأطفال في كل أسرة «لدعم الأسر قبل العطلات»[36].

تساعد هذه المناقشة على توضيح كيفية عمل الشعبوية كإستراتيجية سياسية. لا تنحرف الشعبوية عن المبادئ الاقتصادية الكلية للنيوليبرالية، ولا تسعى إلى التعامل مع التوترات الاجتماعية التي تخلقها من خلال زيادة الإنفاق الحكومي أو رفع الضرائب على الأثرياء[37]. وبهذا المعنى، ليست الشعبوية بأيديولوجية تتعارض مع مبادئ النيوليبرالية، بل تمثل مرحلة في تطورها من النيوليبرالية التكنوقراطية إلى النيوليبرالية الزبائنية.

إذا كان من الضروري في المرحلة الأولى من النيوليبرالية وجود التكنوقراط لإضفاء صبغة شرعية على تدمير دولة الرفاهية، فإنهم في المرحلة الزبائنية من الليبرالية الجديدة أصبحوا موضع حسد واستياء الطبقة العاملة، فضلًا عن كونهم هدفًا للتحريض من جانب السياسيين الشعبويين. إذا كانت الممارسات والخطابات التكنوقراطية تُستخدم في السابق لتبرير التخفيضات الوحشية في الإعانات والإنفاق الاجتماعي باسم الكفاءة، فقد أصبح التكنوقراط الآن كبش فداء لمشاكل النظام. قد تنجح هذه التقنية السياسية؛ لأن الاتهامات تحتوي على قدر من الحقيقة: لقد شارك التكنوقراط في إنتاج عدم المساواة، ولكن بدلًا من محاولة تحقيق إعادة توزيع الدخل، يسعى الزعماء الشعبويون إلى تعكير صفو الأمور من خلال تحويل اللوم عن التفاوت المتفاقم إلى التكنوقراطيين «النخبويين».

كلما تبنت الشعبوية ممارسات تمييزية تهدف إلى منح الامتيازات لـ «الشعب الحقيقي»، اصطدمت بالتكنوقراطيين الاقتصاديين والقضائيين في الحكومة الذين يتمثل سبب وجودهم في فرض معايير عالمية. وعندما يعمل هؤلاء المحترفون على منع محاولات ربط الحقوق المدنية بالولاء للحكومة أو منع التخصيص التعسفي لأموال الدولة، تنشأ الصدامات. وفي العام الماضي، تجلى هذا الصراع في إسرائيل من خلال «الانقلاب القضائي»، أي محاولة نتنياهو السيطرة على المحكمة العليا وإلغاء الثورة الدستورية لعام 1992.

وفي حين أدت مثل هذه الممارسات إلى تفاقم التوترات بين الائتلاف القطاعي الذي يقوده نتنياهو والطبقة المتوسطة المتعلمة، فقد كافحت أحزاب المعارضة من أجل الحصول على الأغلبية في الانتخابات التي جرت بين عامي 2009 و2021. وأظهرت النتائج في صناديق الاقتراع نمط تصويت صارم: حيث ذهبت شرائح الدخل المرتفع إلى أحزاب المعارضة، ومع ذلك فإن الطبقة المتوسطة الدنيا والطبقة العاملة صوتت باستمرار للأحزاب المشاركة في الائتلاف القطاعي الذي شكله نتنياهو. وليس من الصعب أن نفهم السبب: فقد علَّمت التجربة الماضية الطبقة العاملة أنه في حين كان الليكود يعرض عليها آليات تعويض غير كاملة لمساعدتها على البقاء، كان اليسار الإسرائيلي يحاول إلغاء تلك الآليات تمامًا.

وكانت التجربة مع «حكومة التغيير» قصيرة العمر التي تولت السلطة بين عامي 2021 و2022 مفيدة. بمجرد أن صوِّتَ على تشكيلتها في البرلمان، أنهت حكومة نفتالي بينيت – يائير لابيد برامج الإعانة التي نُفّذت خلال الجائحة، على الرغم من أن كوفيد-19 والركود المصاحب له لم ينته بعد. وقدمت مشروع الميزانية مصحوبًا بأطول قانون تسوية قُدِّمَ إلى الكنيست على الإطلاق. وقد نجحت الحكومة في تنفيذ إصلاحات لم يكن من الممكن للتكنوقراط في وزارة المالية أن يحلموا بها في السابق. خلال عامها الوحيد في السلطة، رفعت حكومة الائتلاف سن التقاعد بالنسبة للنساء، وألغت الحماية التجارية للمزارعين، وزادت من تعرض صناديق التقاعد لسوق الأوراق المالية. وليس من المستغرب أن يمنح الناخبون في نهاية عام 2022 نتنياهو أغلبية ضئيلة.

السياسة الخارجية للاحتلال

ركَّزت السياسة الخارجية التي انتهجها نتنياهو في تلك الحقبة على المصلحة الأساسية لائتلافه القطاعي: الحفاظ على السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية. وحاول تطبيع الاحتلال من خلال إنشاء تحالف دولي يعمل على تنويع أسواق التصدير الإسرائيلية. وفي إطار الاستعداد للضغوط الأوروبية والأميركية لتفكيك المستوطنات، سعى نتنياهو إلى تعزيز العلاقات مع الهند والصين من خلال منحهما إمكانية الوصول إلى التكنولوجيات الزراعية والعسكرية الإسرائيلية. كما حاول تجاوز القضية الفلسطينية من خلال تعزيز علاقات إسرائيل مع المَلَكيات المحافظة في الخليج. ولتخفيف مشاعرهم المؤيدة للفلسطينيين، عرض نتنياهو على ملوكهم وأمرائهم تحالفًا مناهضًا لإيران. وفي خطابه أمام الزعماء الأوروبيين، أشاد بحقل الغاز الإسرائيلي الكبير في البحر الأبيض المتوسط، ليفياثان، وقدمه بوصفهِ وسيلة لضمان أمن الطاقة في أوروبا. كما ذكّرهم بأنبوب النفط الإسرائيلي من البحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسط، والذي يمكن استخدامه لتوصيل النفط من الخليج إلى أسواق الطاقة الأوروبية. كما شجع نتنياهو الجيش الإسرائيلي على استخدام أكبر قدر ممكن من المعدات التكنولوجية العالية لخفض تكاليف الاحتلال.

ولكي يتأكد نتنياهو من أن إسرائيل لن تضطر أبدًا إلى التفاوض مع حكومة وحدة فلسطينية، والتي من شأنها أن توحد الضفة الغربية وقطاع غزة، عمل على خلق الظروف التي من شأنها أن تسمح لحماس بترسيخ حكمها في قطاع غزّة. واستمر في فرض الحصار الاقتصادي على القطاع الذي ورثه من حكومة إيهود أولمرت. وقد أدت هذه السياسة إلى إضعاف القطاعات المؤيدة للسلام في الاقتصاد الغزّي التي كانت تعتمد على التجارة مع إسرائيل. كما أدى الحصار إلى تعزيز قوة حماس، التي سيطرت على الأنفاق التي يتم من خلالها تهريب البضائع من مصر[1].

وفي اللحظات التي يتدهور فيها الوضع الاقتصادي في قطاع غزّة، كانت حماس تهاجم كما كان متوقعًا المستوطنات الإسرائيلية الأقرب إلى الحدود. وكان من المتوقع أن يرد نتنياهو بسلسلة من العمليات التي من المفترض أن تستهدف إيذاء حماس وردعها. وأصبح هذا معروفًا في إسرائيل باسم «سياسة الجولات»، في إشارة إلى دورات العنف المتكررة. لكن نتنياهو رفض اقتراحات من الجيش الإسرائيلي بغزو غزة في عام 2014 والقضاء على حماس، التي كانت آنذاك أضعف عسكريًا بكثير مما هي عليه اليوم. كما رفض مقترحات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية باغتيال قيادات حماس في قطاع غزّة. وهكذا نجح نتنياهو في إبقاء حماس في السلطة، وفي الوقت نفسه عمل على إضعاف السلطة الفلسطينية من خلال تجنب لقاء رئيسها محمود عباس أو الدخول في مفاوضات معه.

يبدو أن الخطة كانت ناجحة. وظل الفلسطينيون ضعفاء ومنقسمين. وبدت تكاليف الاحتلال منخفضة، وتوقفت أغلبية الإسرائيليين عن الاهتمام بمحنة الفلسطينيين. إلا إن هذه الإنجازات أصبحت عام 2018 على وشك الانهيار. أغلقت مصر الأنفاق التي تربط قطاع غزّة بالاقتصاد المصري. كانت السلطة الفلسطينية قد أوقفت أيضًا تحويل الأموال إلى حماس، سعيًا إلى ترهيب المنظمة المتمردة. وكانت مصر والسلطة الفلسطينية تأملان أن توافق حماس، تحت الضغط الشديد، على تشكيل حكومة وحدة مع السلطة الفلسطينية. والنتيجة، كما اعتقد المصريون، ستكون حماس أكثر براغماتية. أمّا نتنياهو، الذي كان من المفترض أن يكون جزءا من هذه المبادرة، تراجع عن ذلك. ومع شعورها بالضيق، حاولت حماس الآن تطبيق إستراتيجية جديدة لكسر الحصار الاقتصادي، إذ شجعت سكان غزة على التوجه إلى السياج الحدودي للاحتجاج على الحصار الإسرائيلي. وأطلق جنود الاحتلال الرصاص الحي ضد المتظاهرين. وأسفرت هذه الأحداث عن مقتل المئات من سكان قطاع غزة[2].

وردَّت حماس بربط زجاجات حارقة ببالونات الهيليوم. وقد تجاوزت البالونات، التي أصبحت تُعرف في إسرائيل باسم «الطائرات الورقية الحارقة»، السياج وأشعلت النيران في الحقول. تُحصدُ ثلاثة أرباع البندورة الإسرائيلية في المستوطنات اليهودية المحيطة بقطاع غزّة، وكذلك ثلث التفاح والأفوكادو[3]. وكان الضرر شديدًا. احترقت مئات الأفدنة في صيف عام 2018. وبعد ذلك اتخذ نتنياهو خطوة غير مسبوقة. وناشد قطر، الدولة التي كانت على مسار تصادم مع المملكة العربية السعودية ومصر بسبب علاقاتها المزعومة مع المنظمات الإسلامية. فرضت هذه الدول، إلى جانب جامعة الدول العربية، حصارًا اقتصاديًا على قطر في عام 2017. وكانت قطر تسعى إلى الخروج من الخناق المضيق من خلال شراء النفوذ والأصدقاء في العالم العربي. وباعتبارها داعمًا كبيرًا لحكم حماس في قطاع غزّة، فقد قدمت قطر بحلول عام 2018 بالفعل 1.1 مليار دولار للمنظمة (ولكنها لم تقدم شيئًا تقريبًا للسلطة الفلسطينية). وفي السنوات التالية، ستنقل نحو 30 مليون دولار شهريًا إلى حماس. وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية سعيدًا، وقال لزملائه في البرلمان في آذار/ مارس 2019 إن «أولئك الذين يريدون إحباط قيام الدولة الفلسطينية يجب أن يدعموا تقوية حماس ونقل الأموال إلى حماس. وهذا جزء من إستراتيجيتنا المتمثلة في التمييز بين الفلسطينيين في غزة والفلسطينيين في الضفة الغربية»[4].

لقد استخدم نتنياهو الاتفاقيات الإبراهيمية لعام 2020، والتي أدت إلى إقامة علاقات دبلوماسية رسمية بين إسرائيل والبحرين والإمارات العربية المتحدة، كدليل على فعالية سياساته. لقد كان من الممكن تحقيق السلام مع العالم العربي دون تقديم أية تنازلات إقليمية للفلسطينيين. كما إن العلاقة مع الأنظمة الملكية المحافظة في الخليج نشأت بسبب العداء المشترك تجاه إيران، وهي سياسة مميزة لنتنياهو. وحتى في أثناء المفاوضات بشأن الاتفاق النووي مع إيران بين عامي 2014 و2015، كان نتنياهو يتواصل مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. لقد عملت الدول الثلاث خلف الكواليس لعرقلة محاولات باراك أوباما للمصالحة مع إيران (وهو أمر كانت وكالات الاستخبارات الأميركية على دراية به جيدًا). في أعقاب الاتفاقيات الإبراهيمية، أصبحت إسرائيل جزءًا من منتدى النقب، الذي سعى إلى زيادة التعاون الأمني بين إسرائيل ودول الخليج لمواجهة نفوذ إيران في المنطقة[5].

مستقبل الائتلاف القطاعي الذي يقوده نتنياهو

لقد كان حريق السابع من أكتوبر بمثابة صدمة دراماتيكية لنظام نتنياهو. لقد كشفت هذه الهزيمة عن زيف كل مبادئ عقيدة نتنياهو: فحماس لم تكن في الواقع متواطئة طوعًا مع الاستعمار الإسرائيلي في الضفة الغربية، والسلام مع دول الخليج الغنية غير ممكن دون حل الصراع مع الفلسطينيين، والعلاقات القوية مع الصين والهند لا يمكن أن تحل محل التحالف مع الولايات المتحدة، والتكنولوجيا لا يمكن أن تحل محل القوى العاملة عندما يتعلق الأمر بتأمين الحدود. كيف يمكن لنتنياهو أن ينجو من الكارثة؟

وكان الجواب المباشر هو العملية البرية الكارثية في قطاع غزّة. نُظِّمت هذه العملية بهدف الانتقام والثأر أكثر من تحقيق هدف سياسي أو عسكري، وقد قُدّمت العملية لجمهور محلي في حالة من الصدمة والذعر باعتبارها الدواء الشافي. وقد أدى هذا إلى توفير الوقت لقيادة سياسية وعسكرية غير كفؤة وفاسدة. وبدلًا من السعي إلى استقالة الحكومة، كان بإمكان مشاهدي التلفزيون الإسرائيلي أن ينشغلوا بمشاهدة الدمار الهائل، ومقتل الآلاف من المدنيين الأبرياء، وحتى المجاعة الواسعة النطاق. لقد استخدمت وسائل الإعلام السائدة خطابًا يحط من قدر سكان غزة («حماس نازيون، وكل سكان غزة يدعمون حماس») وجعل الإسرائيليين يشعرون وكأن المناورة البرية العشوائية هي الأمر الصحيح الذي ينبغي القيام به. وبينما أكتب هذه السطور، بدأ الرأي العام الإسرائيلي للتو في مناقشة ما فُعل ويُفعل باسمه وعواقبه. ولكن معظم الناس يشعرون بقلق أكبر إزاء المواجهة الوشيكة مع إيران ومستقبل إسرائيل على المدى الطويل. وبهذا يستطيع نتنياهو أن ينجو من جديد باستخدام مبدأ الصدمة. كما أن القطاعات التي تدعم حكومة نتنياهو ليس لديها البديل. فسوف تختفي الفوائد التي تلقوها باستمرار من حكومات الليكود في ظل إدارة برجوازية جديدة.

إلا إنه ومنذ عودته إلى السلطة في نهاية عام 2022، لم يعد نتنياهو لويس نابليون البرجوازية. إن أجزاء من الطبقة المتوسطة التي كانت على استعداد لدعمه في الماضي لم تعد على استعداد للقيام بذلك الآن. في كل الأحوال، فإن العام والنصف الماضيين كانا بمثابة مِرجَلٍ عزَّزَ من تماسك الطبقة المتوسطة المتعلمة وتضامنها. ولأول مرة منذ سنوات عديدة، خرج الناس إلى الشوارع بأعداد كبيرة لدعم التكنوقراطيين داخل أروقة الحكومة وقاعات القضاء. رأت الطبقة المتوسطة المتعلمة نفسها عند النظر إلى التكنوقراطيين. وكما كان الحال من قبل، فإن هذه الطبقة لا تبدي أي اهتمام بالتحالف مع الطبقة العاملة. وبدلًا من تبني دعوة لإقامة دولة رعاية اجتماعية قوية لتوسيع جاذبية حركة الاحتجاج، فإنها تواصل تمجيد النيوليبرالية التكنوقراطية. وتتمحور حججها الرئيسة حول ضرورة الحفاظ على استقلال القضاء وسلطة مسؤولي وزارة المالية في الحفاظ على انضباط الميزانية.

ورغم ما سبق، فهذه مشكلة حقيقية بالنسبة لنتنياهو. يعتبر قطاع الخدمات في الاقتصاد أكبر بكثير من القطاع في الدول الأخرى التي ظهر فيها زعماء شعبويون. باختصار، البنية الطبقية في إسرائيل مختلفة جدًا عن البنية الطبقية في الهند أو بولندا أو روسيا أو تركيا. ونتيجة لهذا، تظهر استطلاعات الرأي باستمرار أن الائتلاف القطاعي الذي يقوده نتنياهو سوف يخسر بشدة إذا أجريت انتخابات حرة ونزيهة. وهذا ما يجعل الحرب في قطاع غزّة، وفي لبنان، ومؤخّرًا مع إيران، حاسمة للغاية. وفي ظل التوتر والخوف اللذين تخلقهما الحرب، قد يتمكن تحالف نتنياهو القطاعي من السيطرة على المزيد والمزيد من مؤسسات الدولة. وكان أعظم نجاحها هو تشديد سيطرتها على الشرطة. وتحت قيادة إيتمار بن غفير، الوزير الذي أدين بارتكاب جرائم جنائية ويؤمن إيمانًا قويًا بالتفوق اليهودي، أصبحت الشرطة غير متسامحة مع حركة الاحتجاج. تتزايد الاعتقالات التعسفية للمتظاهرين وقادة الحراك. كما تُستنزف الميزانيات أكثر وأكثر لتوسيع نظام التعليم الحريدي المتطرف ودعم المستوطنين. ويبدو أن هذا هو السبب الذي دفع نتنياهو إلى إفشال أي محاولة لإنهاء الحرب في قطاع غزّة من خلال اتفاق وقف إطلاق النار وصفقات الرهائن. ويبدو أن الحرب التي لا تنتهي هي أفضل وسيلة لنتنياهو للنجاح في أن يصبح لويس نابليون إسرائيل.


– غاي لارون هو محاضر أول في قسم العلاقات الدولية في الجامعة العبرية في القدس، ونشر هذه المقالة في موقع catalyst.

[1] Yoav Peled, “Profits or Glory?,” New Left Review 29(2004).

[2] اليسار البراهيمي هو مصطلح صاغه الاقتصادي توماس بيكيتي لوصف التحول الذي شهدته الأحزاب اليسارية في العديد من الدول المتقدمة، حيث انتقلت من تمثيل الطبقة العاملة إلى تمثيل النخبة المثقفة والمتعلمة بشكل عالٍ. يشير بيكيتي إلى أن هذه الأحزاب أصبحت تركز على القضايا الثقافية والاجتماعية بدلاً من التركيز على إعادة توزيع الثروة أو الاهتمام بمشكلات الطبقة العاملة. استعان بيكيتي بمفهوم «البراهمة» من النظام الطبقي الهندي، حيث يُعد البراهمة أعلى طبقة، ويعملون علماء ومعلمين وكهنة. يرمز المصطلح إلى النخب التعليمية والثقافية التي تتبنى قيمًا تقدمية ولكنها غالبًا ما تكون بعيدة عن التحديات الاقتصادية التي تواجه الطبقات العاملة (المُترجم).

[3] ميلتون فريدمان (1912-2006) هو اقتصادي أميركي بارز وأحد أهم الشخصيات في مدرسة شيكاغو للاقتصاد. عُرف بدفاعه عن اقتصاد السوق الحر ورفضه للتدخل الحكومي في الاقتصاد. حصل على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عام 1976 تقديرًا لأبحاثه حول تحليل الاستهلاك، والسياسة النقدية، وتعقيد سياسة الاستقرار. أدّى فريدمان دورًا محوريًا في نشر أفكار الليبرالية الاقتصادية، وكان له تأثير كبير على سياسات العديد من الحكومات، بما في ذلك إدارة ريغان في الولايات المتحدة وتاتشر في المملكة المتحدة. من أشهر أعماله كتاب الرأسمالية والحرية Capitalism and Freedom (1962)، حيث جادل بأن الحرية الاقتصادية ضرورية للحرية السياسية (المُترجم).

[4] Daniel Gutwein, “Shifts in Right-Wing Economic Policy: From National Privatization to Oligarchic Privatization, 1977–2003,” Labour, Society and Law 10 (2004) [translated from Hebrew].

[5] World Bank, “Gini index – OECD members,” accessed April 16, 2024, worldbank.org.

[6] الليرة الإسرائيلية كانت العملة الرسمية لدولة إسرائيل من عام 1952 حتى عام 1980. استُبدلت بالجنيه الفلسطيني بعد تأسيس إسرائيل في عام 1948، وأصبحت العملة الرسمية بعد إصدار قانون العملة عام 1952. قُسمت الليرة إلى 1000 مليم. عانت العملة خلال السبعينيات من تضخم كبير أدى إلى استبدالها بالشيكل عام 1980، ثم لاحقًا بالشيكل الجديد عام 1985 (المُترجم).

[7] Daniel Schiffman, Warren Young, and Yaron Zelekha, The Role of Economic Advisers in Israel’s Economic Policy (Cham, Switzerland: Springer, 2017), 81–123.

[8] Schiffman et al., Role of Economic Advisers.

[9] Shmuel Tzabag, “Co-operation in the shadow of a power struggle: the Likud governments and the Histadrut, 1977–84,” Middle Eastern Studies 31, no. 4 (1995).

[10] Erez Maggor, “State, Market and the Israeli Settlements: the Ministry of Housing and the Shift from Messianic Outposts to Urban Settlements in the Early 1980s,” Israeli Sociology 16, no. 2 (2015) [translated from Hebrew].

[11] كشروت أو الطعام الكوثر هو مصطلح في الشريعة اليهودية يشير إلى القوانين الدينية المتعلقة بإعداد واستهلاك الطعام وفقًا للتعاليم اليهودية. يُطلق على الطعام الذي يستوفي هذه الشروط اسم «كوشر» (حلال وفق الديانة اليهودية). تشمل قوانين الكشروت قواعد حول أنواع اللحوم المسموح بها، وطرق ذبح الحيوانات (شحيطة)، والفصل بين منتجات الألبان واللحوم. تهدف هذه القوانين إلى تحقيق الطهارة والالتزام الروحي في الحياة اليومية (المُترجم).

[12] Daniel Gutwein, “The Ultra-Orthodox and the Political Economy of the Sectors,” Telem, August 4, 2021 [translated from Hebrew].

[13] Daniel Maman and Zeev Rosenhek, “The Politics of Institutional Reform: The ‘Declaration of Independence’ of the Israeli Central Bank,” Review of International Political Economy 14, no. 2 (2007).

[14] Ricki Shiv, “The 1985 stabilization plan — ‘correct economics’ or ideology,” Iyunim 23 (2013) [translated from Hebrew].

[15]Ronen Mandelkern, “What made economists so politically influential? Governance-related Ideas and institutional entrepreneurship in the economic liberalization of Israel and beyond,” New Political Economy 20, no. 6 (2015).

[16] Shaul Amsterdamski, “The 24 hours that changed our lives,” Calcalist, June 30, 2015 [translated from Hebrew].

[17] Lev Grinberg, “Paving the Way to Neoliberalism: The Self-Destruction of the Zionist Labor Movement,” in Neoliberalism as a State Project: Changing the Political Economy of Israel, eds. Asa Maron and Michael Shalev (Oxford: Oxford University Press, 2017).

[18] Esther Alexander, The Power of Equality in the Economy: The Israeli Economy in the 1980s, the Real Picture (Tel Aviv: Am Oved, 1990) [translated from Hebrew].

[19] Michael Keren, Professionals Against Populism: The Peres Government and Democracy (Albany, NY: SUNY Press, 1995).

[20] Gutwein, “Shifts in Right-Wing Economic Policy.”

[21] Lee Cahaner and Yossef Shilhav, “Ultra-Orthodox Settlements in Judea and Samaria,” Social Issues in Israel 16 (2013) [translated from Hebrew].

[22] Benny Nurieli, “Yitzhak Rabin: The captain of neoliberalism in Israel,” Zman Yisrael, November 13, 2020 [translated from Hebrew].

[23] معامل جيني هو مقياس إحصائي يُستخدم لقياس توزيع الدخل أو الثروة في مجتمع ما، بهدف تحديد مستوى عدم المساواة الاقتصادية. يتراوح معامل جيني بين 0 و1، حيث يشير 0 إلى توزيع متساوٍ تمامًا، بينما يشير 1 إلى تركّز الثروة أو الدخل لدى فرد واحد أو فئة صغيرة (المُترجم).

[24] Peled, “Profits or Glory?”; Grinberg, “Paving the Way to Neoliberalism”; Ran Hirschl, “Israel’s ‘Constitutional Revolution’: The Legal Interpretation of Entrenched Civil Liberties in an Emerging Neo-Liberal Economic Order,” American Journal of Comparative Law 46, no. 3 (1998); Arie Krampf, Uri Ansenberg, and Barak Zur, “Bringing Politics Back In: Embedded Neoliberalism in Israel during Rabin’s Second Government,” Israel Studies Review 37, no. 2 (2022).

[25] سياسي أميركي ومستشار سابق في وزارة الدفاع الأميركية، وُلد عام 1941. يُعرف بلقب «أمير الظلام» لدوره البارز في صياغة السياسات الدفاعية الأميركية، خاصة خلال فترة إدارة الرئيس جورج دبليو بوش. كان بيرل من أبرز المدافعين عن غزو العراق عام 2003، ومن الأصوات المؤثرة في المحافظين الجدد الذين دعوا إلى استخدام القوة العسكرية لتعزيز المصالح الأميركية (المُترجم).

[26] Guy Ben-Porat, “Netanyahu’s Second Coming: A Neoconservative Policy Paradigm?,” Israel Studies 10, no. 3 (2005).

[27] Shachar Ilan, “Lieberman’s cut? The allowances blow that Netanyahu inflicted hurt the ultra-Orthodox more,” Calcalist, July 17, 2021 [translated from Hebrew].

[28] خطة التقاعد 401 (K): حساب تقاعد فردي في الولايات المتحدة يُتيح للموظفين ادّخار جزء من دخلهم قبل اقتطاع الضرائب، ما يقلل الدخل الخاضع للضريبة. يمكن لأصحاب العمل المساهمة بمبالغ إضافية. تخضع الأموال للضريبة عند السحب بعد سن 59.5 عامًا. تُفرض غرامة بنسبة 10% على السحب المبكر. تعد الخطة من أبرز أدوات الادخار التقاعدي طويلة الأجل وتدار وفق لوائح دائرة الإيرادات الداخلية (IRS). ويأتي سبب التسمية نسبةً للمادة 401 (K) من قانون الإيرادات الداخلية الأميركية (المُترجم).

[29] Michal Ratson, “Policy Entrepreneurs, Political Constructions, and Windows of Opportunity: The Politics of the Second Pension Reform in Israel,” Israeli Sociology 11 (2010) [translated from Hebrew].

[30] Gutwein, “Shifts in Right-Wing Economic Policy”; Shlomo Svirski, “The Israeli Shock Doctrine,” Telem,March 15, 2021 [translated from Hebrew].

[31] Ben-Porat, “Netanyahu’s Second Coming.”

[32] For the broader background of US-Israeli relations at the time, see Jason Brownlee, Democracy Prevention: The Politics of the U.S.-Egyptian Alliance (Cambridge, UK: Cambridge University Press, 2012), 84–85.

[33] فقاعة الدوت كوم أو فقاعة الإنترنت: فقاعة اقتصادية شهدت ارتفاعًا كبيرًا في أسهم شركات الإنترنت بين عامي 1995 و2000، تلاه انهيار حاد في الأسواق بحلول 2001. نتجت عن المضاربة المفرطة والاستثمار في شركات ناشئة دون أرباح فعلية. بلغت الخسائر تريليونات الدولارات، وأدى الانهيار إلى إفلاس العديد من الشركات. رغم ذلك، نجت شركات مثل أمازون وإي باي، وأصبحت من أبرز عمالقة التكنولوجيا (المُترجم).

[34] Schiffman et al., Economic Advisers in Israel’s Economic Policy,145–61.

[35] Daniel Gutwein, “The Loyalty Rule: The Settlements and the Institutionalization of the Antidemocratic Logic of the Israeli Privatization Regime,” Theory and Criticism 47 (2016) [translated from Hebrew].

[36] Daniel Gutwein, Meir Yaish, and Tali Kristal, “‘Repression-Compensation’: The politics of the Netanyahu government’s handling of the corona crisis,” Pigumim, July 5, 2020 [translated from Hebrew].

[37] Asaf Yakir, Doron Navot, and Dani Filc, “The political economy of populists in power, between policy and polity: Evidence from the Israeli case,” Capital and Class (February 17, 2024).

[38] Nicholas Kristof, “Burrowing Through a Blockade,” New York Times, July 3, 2010; Nicholas Kristof, “Winds of War in Gaza,” New York Times, March 7, 2015.

[39] Bar Hefetz, “The shells on my children were for years the solution to the Hamas problem,” The Hottest Place in Hell, November 23, 2023, ha-makom.co.il/post-bar-nirim-2023 [translated from Hebrew].

[40] Diana Bhur Nir, “Shall the chrysanthemums grow again?,” Calcalist, October 19, 2023 [translated from Hebrew].

[41] Yaniv Kubovich, “With Israel’s Consent, Qatar Gave Gaza $1 Billion Since 2012,” Haaretz, February 10, 2019; Jonathan Lis, “Likud claimed that Netanyahu did not strengthen Hamas, but the facts show otherwise,” Haaretz, October 11, 2023[translated from Hebrew].

[42] Adam Entous, “Donald Trump’s New World Order,” New Yorker, June 11, 2018; Itamar Eichner, “The Negev Forum Convened in Bahrain,” Ynet, June 27, 2022, ynet.co.il/news/article/rkthfdvqc [translated from Hebrew].


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *