هي حرب لا تنتهي باتفاق وقف إطلاق النار
ككل الحروب التي وقعت عبر التاريخ، من الطبيعي أن تضع الحرب على قطاع غزة أوزارها، رغم أنها قد طالت أكثر مما توقع الجميع، وأكثر مما ينبغي، خاصة أنها تواصلت ضد إرادة المجتمع الدولي، ومعظم دول العالم، بل ورغم معارضة قوى إسرائيلية وقطاعات شعبية مؤثرة وواسعة، ومن الطبيعي أيضاً، أن يبدأ جدل التقييم وقراءة ما نجم عن الحرب على كلا الطرفين وكذلك بين صفوف المتابعين والمهتمين من كل الاتجاهات، وحتى أن يبدأ طرفا الحرب بالذات بما يسمى استخلاص العبر والدروس، وادعاء الانتصار، خاصة أن هذه الحرب التي سميت عن وجه حق حرب الإبادة الجماعية، لم تنتهِ بنتيحة واضحة وحاسمة، كما انتهى الكثير من الحروب التقليدية، بمنتصر ومهزوم، وبما يؤكده ذلك من توقيع وثيقة الاستسلام من قبل الطرف المهزوم.
والحرب الإسرائيلية على غزة، لم تكن على أي حال حرباً تقليدية أو كلاسيكية، كما هو حال الحروب بين الدول والجيوش، والتي ينتهي بعضها بهزيمة ماحقة وانتصار ساحق لأحد طرفيها، كما حدث في الحروب العالمية، بل حتى في حروب إسرائيل السابقة مع جيوش الدول العربية، إن كانت تلك الحرب التي وقعت العام 1948، وانتهت بإعلان «دولة إسرائيل» على كل الأرض التي خصصها لها قرار التقسيم الأممي العام 1947، مضافاً إليها نصف الأرض التي خصصها القرار الأممي نفسه لدولة فلسطين، أو حرب العام 1967، والتي انتهت أيضاً باحتلال إسرائيل خلال ستة أيام فقط لنحو ثلاثة أضعاف مساحتها قبل تلك الحرب، من الأرض العربية، المصرية والسورية على نحو التحديد، بل كانت الحرب على قطاع غزة، حرباً بين جيش دولة كلاسيكي ومقاومة شعبية، لا يعني خلالها احتلال الأرض، تحقيق النصر، وإسرائيل منذ العام 1967 تحتل كل أرض دولة فلسطين العضو في الأمم المتحدة، ورغم ذلك لم تتوقف المقاومة الشعبية يوماً، ورغم انسحاب إسرائيل من قطاع غزة العام 2005، إلا أن غزة لم تتحول بعد ذلك إلى دولة أو كيان حر تماماً، فهي ظلت وفق القانون الدولي أرضاً محتلة، وفعلياً محاصرة جواً وبحراً وبراً بالاحتلال الإسرائيلي.
أي أن دخول الجيش الإسرائيلي وحتى إعادة انتشاره داخل مدن وأحياء قطاع غزة، لا يعني أن إسرائيل قد حققت النصر الساحق أو الكامل كما أعلن قادتها لحظة إعلان الحرب، ولا حتى تدمير قطاع غزة بالكامل، وقتل وجرح نحو 10% من سكانه يعني أن إسرائيل قد انتصرت في الحرب، وأنها قد وضعت حداً للمقاومة، ذلك أن المقاومة مرتبطة باحتلالها نفسه، ولن تتوقف طالما بقي الاحتلال، أما ما أحدثته من دمار وقتل، فهو يؤجج مزيداً من الحقد عليها، ولم يكن ذلك الحقد من قبل الشعب الفلسطيني وحسب، بل انتشر في كل أنحاء العالم، مع كل ذلك فإن قراءة عابرة أو أولية بما نتج عن تلك الحرب بعد خمسة عشر شهراً على اندلاعها، تشير إلى ما يمكن وصفه بأنه كان هزيمة لكلا الطرفين، وليس مبعث ذلك إلى أن ما نجم عن الحرب من اتفاق لوقف إطلاق النار، لا يعدو كونه استراحة للمتحاربين، لأنه لم يضع حداً للاحتلال، الذي هو سبب التصادم بين الجيش الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية وحسب، ولكن لأن اتفاق وقف النار نفسه لا يضمن وقف الحرب بشكل قاطع.
وصحيح أن اتفاق وقف النار في غزة، لن يكون على شاكلة وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، الذي بدأ في آخر تشرين الثاني الماضي، أي أنه هش ومعلق بالستين يوماً، المهلة التي يجب على الجيش الإسرائيلي بانتهائها أن يكون قد انسحب من كل المناطق التي احتلها خلال الحرب بين الجانبين، وليس لأن إسرائيل خلال أقل من خمسين يوماً من تلك المهلة قامت بخرق الاتفاق أكثر من 500 مرة، رغم التزام الطرف اللبناني، أي حزب الله به بالرغم من تلك الخروقات الإسرائيلية، ولكن لأن الاتفاق مع غزة مختلف من حيث إن التنفيذ على عكس ما كان عليه الاتفاق مع لبنان، أي اقتضى وقف حزب الله فور التوقيع، لعمليات إطلاق الصواريخ والمسيرات، بينما ظل بإمكان إسرائيل أن تواصل وإن بدرجة أقل بكثير، قصف بعض المواقع، وتدمير بعض المنازل، وحتى قتل بعض الناس، وكل ذلك ضمن مهلة الستين يوماً، أي أن يدي حزب الله كبلتا باتفاق وقف النار، بينما لم تكبل يدا إسرائيل تماماً، وهكذا أيضاً تحققت إنجازات سياسية، تمثلت بانتخاب جوزيف عون ونواف سلام رئيسين للدولة وللحكومة اللبنانية، في ظل الوجود العسكري الإسرائيلي بلبنان.
بينما تنفيذ اتفاق وقف النار في غزة، سيكون متزامناً بين الطرفين، وربما يعود ذلك لوجود المحتجزين لدى حماس ، وهي الورقة القوية التي راهنت عليها حماس منذ البداية ولم تكن لدى حزب الله، كما أن غزة تقاوم الاحتلال، وفي ذلك إجماع داخلي وإقليمي ودولي، فيما حزب الله انخرط في جبهة إسناد غير متفق عليها داخليا في لبنان، والمهم أن وقف النار الإسرائيلية يبدأ مع التوقيع، كذلك يبدأ انسحابها من التجمعات السكانية، مع بدء إطلاق المحتجزين الذي سيترافق مع إطلاق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، أي أن الاتفاق في غزة، لا يعني أن تخرج حماس ما بين أيديها أولاً، ومن ثم تنتظر أن تفي إسرائيل، التي لا تفي عادة، بما توقع عليه، فضلاً عما تتعهد به، وهذا يعني أن وقف النار، يمكنه أن ينهار، ولو نظرياً بعد يوم أو عدة أيام، ويمكنه وفق نفس المنطق أن يستمر حسب ما جاء بالاتفاق، بل وأن يتحول الاتفاق الجزئي إلى اتفاق دائم، مع الاتفاق على المرحلة التالية.
على ذلك، فإنه ليس اعتماداً على ردود الفعل، خاصة على الجانب الإسرائيلي الداخلي، سواء داخل الحكومة، حيث يعارض اليمين المتطرف متمثلا بحزبي العظمة اليهودية والصهيونية الدينية الاتفاق، بإطاره العام ونصوصه المعلنة، كذلك عائلات المحتجزين، الرافضين لطبيعة الاتفاق الجزئية أو المرحلية، خشية ألا يجري إطلاق باقي المحتجزين، غير الـ33 المدرجة أسماؤهم في المرحلة الأولى، بعدم الاتفاق على المرحلة التالية، كما عودهم رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو ، ولكن استناداً إلى أن كلا الطرفين لم يحققا حسماً واضحاً، متمثلاً بتحقيق الأهداف المعلنة عند بدء الحرب، فلا إسرائيل حققت هزيمة ماحقة بحماس، بدليل أنها فاوضتها، وبقيت قوتها العسكرية تقاوم في كل مكان في قطاع غزة، وفي شمال القطاع بالتحديد، حيث اكتفت خطة الجنرالات بالخروج من الحرب بها كمنطقة آمنة، وبقي حتى نفوذ حماس السياسي، أو حكمها هو أقوى الخيارات بعد انسحاب إسرائيل، رغم كل ما يقال في العواصم غير ذلك.
أما حماس فهي لم تحقق أيضاً لا هدف كسر الحصار عن غزة، ولا وضع حد للتغول الإسرائيلي في الضفة والتطاول المتواصل على القدس ، وإن كان محور المقاومة قد حقق خلال الحرب تقدماً تمثل في قلب طاولة التطبيع، وفي كف يد الضغط الأميركية والإسرائيلية عن إيران، وإظهار محور المقاومة كند إقليمي، إلا أن خسارة النظام السوري، وتقليم أظافر حزب الله، وتحقيق المنجز السياسي، متمثلاً بتقوية الدولة اللبنانية على حساب الحزب بانتخاب الرئيس ورئيس الحكومة، كذلك تحطيم معظم القوة العسكرية لحماس، وإن بقيت قوة المقاومة داخل غزة ولبنان مقتدرة، كل ذلك يعني أن محور المقاومة قد مني بالهزيمة في تلك الحرب، كذلك منيت إسرائيل بالهزيمة أيضاً، فالحرب أظهرتها أولاً كدولة ضعيفة غير قادرة على مواجهة محور المقاومة وحدها، وهي احتاجت للبوارج والمخابرات والأقمار الصناعية الأميركية، ولإمداد متواصل من الذخائر والأسلحة.
ومنيت إسرائيل بالهزيمة كونها لم تعد قادرة على تحقيق النصر الخاطف، ولا حتى فرض تكتيكها لخوض الحرب، حيث فرضت عليها حرب الاستنزاف، ولأول مرة جعل محور المقاومة من الداخل الإسرائيلي ميداناً للحرب، وخسرت إسرائيل اقتصادياً وبشرياً، والأهم من كل ذلك، تحولت لدولة منبوذة عالمياً، ومدانة قضائياً بارتكاب جرائم الحرب، وفي مقدمتها حرب الإبادة الجماعية.
ولم تحقق إسرائيل أهدافها التي أعلنت عنها، لا السياسية ولا العسكرية، بل دخلت في حالة حرب إقليمية، تجاوزت مدياتها فلسطين بأرضها وشعبها، وحرب تنتهي دون انتصار صريح لأحد الطرفين، بل بهزيمة ناجمة عما ألحقته حرب استخدم فيها الذكاء الصناعي وترسانة متقدمة من القنابل والصواريخ والذخائر بما يعادل عدة قنابل نووية، وبكل تلك الخسائر البشرية والاقتصادية والسياسية وبكل ذلك الدمار البشع، وعلى الجانبين، بصرف النظر عن نسبته على هذا الجانب مقابل نسبته على ذاك، إنما هي حرب لا تنتهي باتفاق وقف النار، بل بحل سياسي جذري، يضع حداً للاحتلال، ويدشن دولة فلسطين على الأرض.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر