حرب الكرفانات بين مصر وإسرائيل
بإصراره على تهجير سكان قطاع غزة ، لا يتورط الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تهمة ارتكاب جريمة الحرب وحسب، ولا يكون بذلك قد خرج عن طريق السلام، بحيث يصبح حلمه بجائزة نوبل للسلام حلم ابليس في الجنة، فقط، بل يكون على الضد من ذلك تماماً، قد فتح الباب على مصراعيه لاندلاع حرب إقليمية طاحنة، تلك الحرب التي حرصت حكومة سلفه التي أطلقت الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وشاركت حكومة المطلوب للعدالة الدولية بنيامين نتنياهو في ارتكاب جريمة حرب الإبادة الجماعية في فلسطين، على تجنبها، والباب الذي فتحه ترامب أمام الحرب الإقليمية، ما هو الا ذلك الباب الذي يفتح على الجبهة الصامتة منذ عقود طويلة، أي منذ عام 67 بين كل من مصر والأردن من جهة واسرائيل من الجهة الاخرى.
ولا يعدو ترامب كونه أحمق سياسياً، أو أنه مسلوب الإرادة لصالح اللوبي الصهيوني، الذي هو بدوره لم يجرؤ منذ ثمانين عاما، رغم كل ما طرح من قبل الإدارات الأميركية السابقة من مشاريع توطين، خاصة في سيناء، منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، على تجاوز مصر والأردن، وإعلان المقترح من طرف واحد، بشكل إملائي، وكأن مصر والأردن هما أقل من ولايتين أميركيتين، ما عليهما سوى تنفيذ ما يأمرهما به السيد ترامب، وأن لا يقولا سوى: سمعاً وطاعة، وفي عرف ومنطق السياسة الدولية، على من يقترح اقتراحاً سياسياً، أن يقدمه للمعنيين عند اللقاء بهم، وأن لا يعلنه على الملأ دون أن يأخذ منهما موافقة عليه، أما ترامب فقد أظهر وقاحة فجة تجاه دولتي الأردن ومصر، حين قال بأنهما ستستقبلان المهجرين، لأن أميركا تقدم لهما الكثير، وبالطبع الدنيا كلها تعرف بأن أميركا لا تقدم شيئا للآخرين، ولا حتى من تسميهم بحلفائها، فهي الدولة التي تعيش منذ مئة عام على نهب ثروات الدول والشعوب الأخرى، باعتبارها أكبر دولة استعمارية في العالم.
ما زاد الطين بلة، أن ترامب لم يكتف بما قال عن مجرد اقتراح، فيما اصراره عليه، ينقله الى حيز الخطة والموقف السياسي، بل إنه فاجأ الجميع بإكمال ما يدور في رأسه، وبما يحدد ما انشغل فيه جميع المعنيين طوال عام ونصف مضى، مما وصفوه باليوم التالي للحرب على غزة، والمفاجأة المدوية كانت أنه يسعى لوضع يده هو شخصياً، أو وضع يد أميركا البلد التي يرأسها، كدولة انتداب تذكر بالانتداب البريطاني وما فعله من تسهيل السيطرة الصهيونية على ثلثي أرض فلسطين، ومن ثم ارساء قواعد «دولة اسرائيل» التي أعلنها ديفيد بن غورويون العام 1948، وقد كانت هناك اشارات لما يبدو أنه «لعاب» ترامب الذي سال على غزة، بما تمتلكه من شاطئ ساحر ومن ثروة غازية، حين قال بهذا قبل وقت، فيما كشف لقاؤه مع بنيامين نتنياهو رئيس حكومة الإبادة الجماعية، عن أن المقترح الترامبي، لم يكن لا زلة لسان، ولا عفو الخاطر، ولا مجرد فكرة عابرة، أو بالون اختبار أطلقه ليدفع الدول العربية لتقديم التنازلات له في صفقته الكبرى الخاصة بالتطبيع.
فقد ذكر المتابعون بأن فكرة التهجير راودت الرجل منذ أكثر من شهرين، حتى أنها وصلت الى اكتمالها، بشكل لم يتوقعه حتى الاسرائيليون الذين هللوا لمواصلة ترامب خلال لقائه مع نتنياهو الإصرار على تهجير سكان غزة، ومن ثم الحديث عن أن أميركا هي التي ستتولى إدارتها، أي احتلالها، والغريب أن ترامب يظل مع ذلك يتحدث بلسان سياسي متقطع، فهو أولا تحدث عن غزة فقط، ونسي الوحدة السياسية بين غزة والضفة، أو على اقل تقدير وحدة الحال بينهما، فكلاهما أرض فلسطينية محتلة من قبل اسرائيل، وربما كان وهو من المؤكد قد تلقى تلك الفكرة من اللوبي الصهيوني، أو من اليمين المحافظ الحاكم من وراء الكواليس، بكل تفصيلاتها، والتي تتطابق مع خطة وطموح الفاشيين الإسرائيليين من اليمين المتطرف الحاكم، قد أرفق فكرة التهجير بالسيطرة الأميركية حتى أولا لا يترك فراغا يمكنه أن يعرقل الفكرة ويقطع طريق التنفيذ عليها، بسبب عدم وجود توافق اقليمي على اليوم التالي، ومن جهة أخرى حتى يكون وقع الفكرة أخف وطأة كون أميركا هي من ستدير القطاع وليس اسرائيل.
واسرائيل كانت تواجه معضلة داخلية حول الإجابة على سؤال اليوم التالي، وكانت فكرة ادارة اسرائيل عسكرياً لغزة تواجه معارضة أمنية بالدرجة الأولى، والمهم عند مجرمي الحرب ممن يقولون بالترانسفير، وآخرهم ترامب نفسه، أن يجري تهجير سكان قطاع غزة أولاً، ثم سكان الضفة الغربية ثانياً، وبهذا الموقف يغلق دونالد ترامب الشقوق أو الفجوات، أو الادعاء بالخلاف الذي كان بين ادارة جو بايدن وحكومة مجرمي الحرب الإسرائيلية، لكن كل ما يفكرون فيه وما يخططون له، يظل كلاما عالقا في الهواء، مهما تبادر لأذهان الناس من قوة أميركا، ومآل كل هذه الخطة الفشل اعتمادا على ما يقوله الميدان بشكل حاسم، والميدان هنا قال كلمته حين سعت اسرائيل بالقوة العسكرية طول عام ونصف لتهجير سكان القطاع، ووضعتهم بين خياري القتل أو التهجير، وقتلت وجرحت فعلا منهم ما يوازي 10% من مجموع السكان، والميدان تاليا ليس وحده، فمشكلة المخطط الإسرائيلي/الأميركي هي استهدافه لما يحيط بجوار فلسطين.
وكان افصاح نتنياهو قبل ترامب عن الأهداف البعيدة لحرب الإبادة والتهجير للشعب الفلسطيني في غزة والضفة، وسع دائرة المواجهة، بحيث شملت مجددا كل دول الجوار، فالحرب بين اسرائيل ولبنان اندلعت وما زالت حالة الحرب قائمة، وكذلك هي مع سورية، وستظل كذلك مهما تغير نظام الحكم فيها، والأخطر أن مخطط التهجير يلغي عملياً اتفاقيتي السلام مع مصر والأردن، وترامب المتبجح الذي لا يقيم وزناً للآخرين، لم يكتف بالقول بأن مصر والأردن ستسقبلان سكان غزة، الذين لن يُبقي منهم إلا أقل من نصف مليون فيما سيهجّر مليونين، وبشكل دائم، كما قال هو، أي أنه لم يراوغ أو يكذب، لأنه مشبع بعنجهية القوة، قال الأمر نفسه تجاه السعودية، حين أجاب عن سؤال إن كان يقبل فكرة الدولة الفلسطينية، فأجاب بأن المواقف تتغير، بما يعني بأنه ما زال يفكر بمنطق الصفقات، ونسي بأن الدولة الفلسطينية حق، وليست مجرد فكرة حل، والمهم أنه ادعى بأن السعودية لم تطالب بدولة فلسطينية لتوافق على التطبيع.
هذا أجبر وزارة الخارجية السعودية على اصدار بيان فورا، يؤكد على موقف المملكة في اشتراطها قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، لموافقتها على التطبيع مع اسرائيل، فيما بدأت منذ وقت «الاحتكاكات» بين مصر واسرائيل، وكان منها هجوم داني دانون مندوب اسرائيل في الأمم المتحدة على مصر، بسبب ما قال لقيامها بالتسلح دون مبرر، بل إنه طالب بمحاسبة أميركا نفسها على ما وصفه بمساعدتها العسكرية لمصر، وميدانياً لا بد من ملاحظة أن مصر بقيت طوال الوقت داخل صندوق العلاقة بين اسرائيل وغزة، وترامب وحتى نتنياهو ينسيان بأن في جعبة مصر وحتى الأردن الكثير، فهما في حال تم اخراج السلطة الفلسطينية من مربع التسوية، يمكنهما المطالبة بانهاء الاحتلال الإسرائيلي لكل من غزة والضفة، كونهما احتلتا حين كانتا تتبعان لهما سياسياً، والتداخل يصل بنود اتفاقية كامب ديفيد، والجميع ما زال يذكر كيف أن احتلال اسرائيل لممر فيلادلفيا فتح الاتفاقية مجدداً، حيث من الواضح بأن احتلال إسرائيل للممر جزء من خطة التهجير، لأنه يمنحها القدرة على منع عودة من غادروا أو من يغادر للعلاج أو غيره لاحقاً، وليس لمنع التهريب من تحت الأرض، الذي يمكن له أن يحدث وقواتها فوق الأرض.
ولأن التهجير يزج بمصر والأردن عنوة الى ميدان المواجهة، فإن اهتمام مصر بوقف الحرب أولاً، ثم بادخال المساعدات التي تغطي هي منها ما نسبته 70% ثانيا، يؤكد اصرار مصر على افشال خطة التهجير، ولعل المعركة الدائرة منذ بدء سريان وقف اطلاق النار على ادخال الكرفانات وهي تبلغ نحو 60 ألفا يحتاجها أهل غزة للإقامة بعد هدم منازلهم وكذلك المعدات الثقيلة الخاصة بازلة الركام، خير دليل على أن حرباً باردة تجري بين مصر التي تريد ادخال البيوت المتنقلة والمعدات الثقيلة، واسرائيل التي تمنعها، رغم أنها جزء من صفقة التبادل، وفي ظل تصاعد حدة الموقف ميدانياً، واتساع نطاق التوتر الى حدود التهديد باندلاع حرب إقليمية فعلاً، لن يقتصر على محور المقاومة وإسرائيل، فإنه مع انضمام ترامب لخطة التهجير، سيكون مصير الخطة معلقاً بما يقول به ويفعله المصريون والأردنيون، وترامب أظهر مع دول أميركا الوسطى، أي المكسيك وبنما وحتى كندا، بأنه نمر من ورق.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر