رسالتان من الإمام يحيى من اليمن إلى الجنرال البريطاني جلبرت كلايتون…

عن طريق الصدفة عثرت بين مخلفات جورج أنطونيوس على رسالتين بخط اليد والختم كان قد أرسلهما ملك اليمن الإمام يحيى بن حميد الدين إلى الجنرال البريطاني السير جلبرت كلايتون. ولأهمية هاتين الرسالتين في كتابة تاريخ اليمن الحديث سنقدم قراءة لهما ولكن قبل ذلك نودّ التعريف بالأشخاص المذكورين أعلاه:
الإمام يحيى بن حميد الدين:
هو الإمام الزيدي الملقب بالمتوكل على الله يحيى بن محمد المنصور بالله بن يحيى بن محمد حميد الدين، مؤسس الدولة اليمنية الحديثة. لقب بالإمام لأن نسبه ينتهي بالإمام زيد بن علي بن أبي طالب، ولقب نفسه بالمتوكل على الله، فعرفت دولته بالمتوكلية. ولد سنة 1869م، وقتل في 17 شباط 1948 في محاولة فاشلة لقلب نظام الحكم.

بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى أصبح إمام الزيدية يحيى حاكمًا لشمال اليمن، وقامت الدولة المتوكلية سنة 1918. في تلك الفترة كانت بريطانيا مسيطرة على عدن، وتسعى لاحتلال الحديدة. عبثًا حاول الإمام يحيى إقناع بريطانيا بالتنازل عن عدن، ولكن باءت جهوده بالفشل. في سنة 1928 هاجمت بريطانيا بالطائرات اليمن ما جعل الإمام يحيى يتراجع.
يعود تاريخ الرسالتين اللتين نحن بصدد دراستهما إلى سنة 1926، حين جرت اتصالات بين الطرفين لتفادي الصدام.!
الجنرال البريطاني السير جلبرت كلايتون:
هو ضابط استخبارات بريطاني ومسؤول استعماري. عمل مدّة طويلة في بلدان الشرق الأوسط منذ أوائل القرن العشرين. كان في القاهرة، ثم انتقل إلى الجزيرة العربية، فكان من المشرفين على الأفراد الذين قاموا بالثورة العربية الكبرى. زار ابن سعود في الحجاز، ووقع معه معاهدة جدة عام 1927. كُلّف بالقيام ببعثة إلى اليمن للتفاوض مع حاكمها الإمام يحيى. وهو الذي رسم الحدود بين السعودية واليمن والعراق والأردن. في سنة 1928 أصبح المندوب السامي على العراق. توفي بالسكتة القلبية في عام 1929.
جورج أنطونيوس:
لبناني الأصل من أهل دير القمر. ولد في الإسكندرية عام 1893. تعلم في جامعة كمبردج في بريطانيا. بعد الحرب العالمية الأولى انتقل إلى فلسطين موظفًا في دائرة المعارف. في عام 1927 انضم إلى الوفد البريطاني المفاوض لابن سعود مترجمًا. كان يعمل مع الجنرال جلبرت كلايتون في المخابرات. بقدرة قادر أصبح جورج أنطونيوس أبًا للقومية العربية، وكتب كتابًا اسمه "يقظة العرب". ليس بالصدفة أن وجدت الرسالتان اللتان نبحث بهما في أرشيفه، ومنه تعرفنا عليهما.
وفيما يلي نص الرسالة الأولى:
بسم الله الرحمن الرحيم
ختم
أمير المؤمنين المتوكل على الله تعالى
حضرة الجنرال المكرم السر جلبرت كلايتون المحترم… وفقنا الله وإياه… نعلم جنابكم أنّا كنا استفسرنا من عامل لواء الحديدة عن معالجته بشأن إجراء العملية التي يراد بها اختبار قعر البحر في بعض سواحل بلادنا التابعة للواء الحديدة ومعرفة القياس البحري فيها فورد منه بهذه الآونة جواب سرد فيه المحاذير التي ستحصل من الخلق من تطبيق هذه العملية وإجرائها في السواحل اليمانية… وكان الإيضاح منه فيه عدم تحمل المسؤولية بهذا الخصوص وخروج ذلك عن طاقته لما تقرر عنده من المحاذير المحققة في مباشرة ذلك… ولأجله كان إبلاغ حضرتكم مفاد إشعار العامل الحاوي البيانات والمعلومات التي ينبغي النظر إليها بمزيد الهمة والدقة، فإنها مؤيدة لما يلزم الاحتراز منه من المحاذير التي نخشى وقوعها من القيام بمثل هذه السيئات. وكنا قد أوضحنا سابقًا لمعالي، وإلى عدن في جوابنا المؤرخ 27 جمادى الآخرة سنة 1344 (ھ) بأنه قبل كل شيء يلزم تقرير وتأسيس المناسبات الرسمية بين المملكتين وتعيينها في دائرة الأصول والتعامل الدولي والملي وبعد ذلك يمكن النظر في مثل هذه المعاملات والتأمل في كونها قابلة للإجراء وإعطاء القرار في ذلك بلا شبهة. ولبيان كيفية الحال حررنا هذا مع اتخاذ وسيلة البيان لحضرتكم من الاحترام تحريرا في 27 شعبان سنة 1344 ( 11 آذار 1926).

يؤخذ من الرسالة الأولى أن عامل (حاكم) لواء الحديدة قدّم للإمام يحيى تقريرًا حول قيام الإنجليز بإجراء اختبارات لقعر البحر في السواحل اليمنية، وأن في ذلك خطورة كبيرة على أمن البلاد. وكان الإمام يحيى قد أرسل إلى حاكم عدن البريطاني رسالة يحتج فيها على هذه العملية. من الواضح أن مقاصد بريطانيا كانت استعمارية في الدرجة الأولى. كانت المحاذير واضحة، واللهجة قاسية وجافة رغم بعض الكلمات المعسولة. وهي جواب لرسالة كان قد بعثها الجنرال كلايتون في 25 شعبان 1344 ھ/9 آذار 1926.
وفيما يلي الرسالة الثانية:
بسم الله الرحمن الرحيم
ختم
أمير المؤمنين المتوكل على الله تعالى
إلى حضرة الجنرال المحترم السر جلبرت كلايتون المكرم وفقنا الله وإياه إلى أقوم طريق، وبعد بيان الامتنان نُفيد جنابكم أن تناولنا كتابكم البهي المؤرخ 25 شعبان 1344 الموافق 9 مارت 1926، وكان الإمعان فيما حواه ونثر بما تضمن من وصولكم إلى عدن بالسلامة، ولما دلّ عليه من إحساساتكم الإنسانية نحونا، ومن المسلم أن العبارات التي صدرت عنكم هي برهان قوي على كونها صادرة عن لسان موّدة وصداقة… ولذلك سارعنا بإبلاغ حضرتكم ما نجده من الإحساسات الودية الجميلة على أثر تلك النظرات الوفائية التي أظهرتموها في سبيل تقدير حقوق مملكتنا، وفيها دلالة واضحة على نزاهة جنابكم وعلو إنسانيتكم، فنحن نوالي تشكراتنا المخصوصة لجنابكم…. ونكرر البيان بما لدينا من الآمال الكثيرة فيما نتمنى حصوله من الآثار الفعلية لجنابكم في إنماء مزية الصداقة والوفاق بيننا وبين حكومتكم الفخيمة… ليكون ذلك جاريًا على نمط ما بقي لكم من الذكر الجميل فيما سبق لكم القيام به من المهمات المخصوصة، وإنّا واثقون بتحقيق هذه الآمال بما أبقت إنسانيتكم من حصافة شخصيتكم المسلمة ومنتظرين لورود الأخبار السارة في هذا الشأن ومع ذلك نتمنى من حضرتكم إبلاغ ما يليق من التعظيمات والاحترامات عند وصولكم إلى إنجلترة لحضرة جلالة الملك والإيضاح للحكومة الإنجليزية الفخيمة بما عندنا من الوداد والرغبة في إنماء الصداقة معها على أساس رعاية حقوق الطرفين. ونأمل توالي كتاباتكم إلينا وبالمقابلة اشخصوا معاونكم المحترم عنا بالاحترام وأفضلوا بقبول فائق الإكرام. تحريرًا في 12 رمضان 1344 (26 آذار 1926).

الرسالة الثانية تبين أن كلايتون أرسل رسالة ثانية يطمئن فيها الإمام يحيى ويزيل مخاوفه. وأن الإمام يحيى انتهج أسلوب المجاملة، ولكنه لم يتنازل عن مطلبه في إنشاء علاقة صداقة بين البلدين. ولغة الرسالة مفعمة بالكلمات المعسولة والدبلوماسية.
يبدو أن بريطانيا أرادت السيطرة على كامل التراب اليماني. في سنة 1928 هاجمت بالطائرات اليمن، ونثرت منشورات معادية.
وأخيرًا لا بد من الإشارة بأن الرسالتين كتبتا بخط رائع، ومفرداتها منتقاة، وكلماتها عذبة. فهل كتبها الإمام يحيى بنفسه وهو متعلم وعالم… أم كتبها قاضيه؟!
رغم البساطة وشظف العيش لا يزال يهود اليمن يلهجون بمدح الإمام يحيى، ويثنون على عدله وإنصافه.
المصدر: عرب 48