خطّة المستوطنين لإعادة استعمار قطاع غزّة

خرجت دانييلا فايس، زعيمة حركة نحالا(1) الاستيطانية اليمينية المتطرفة، والبالغة من العمر 79 عامًا، من سيارتها الرياضية من طراز ميتسوبيشي بيضاء اللون إلى موقف سيارات محطة قطار سديروت، على بعد ثلاثة كيلومترات فقط من قطاع غزّة. كان ذلك في السادس والعشرين من ديسمبر/كانون الأول، الليلة الثانية من عيد الحانوكا، وعلى مدى أسابيع كانت نحالا تروج بقوة لتنظيم فعالية «موكبٌ سياراتٍ إلى قطاع غزّة» الاحتفالية وحفل إضاءة الشموع في منطقة عسكرية مغلقة على الحدود. وكان من المقرر أن يكون هذا الحدث بمثابة الخطوة التالية في حملة تصعيدية تشنها نحالا لإعادة بناء المستوطنات اليهودية في القطاع. وإن لم يتمكَّنوا من دخول القطاع بعد، فإنهم على الأقل سيحاولون الاقتراب منه قدر الإمكان.
وهرعت مجموعة من الفتيات المراهقات مرتديات تنانير طويلة إلى التقاط صور سيلفي مع فايس، التي فرضت عليها الحكومة الكندية عقوبات في يونيو/حزيران الماضي بسبب ارتكابها أعمال عنف متطرفة ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة. وفي مكان قريب، تجمعت مجموعة من طلاب المدرسة الدينية اليهودية من سديروت وهتفوا، وهو شعار قديم يعني «شعب إسرائيل حي»، والذي أصبح شعارا وطنيًا. وفي الزاوية الخلفية لموقف السيارات، كانت حاويتا شحن (أو ما يسميه المستوطنون بالقوافل) مكتوب عليهما «قطاع غزّة لنا إلى الأبد!»، موضوعتان فوق شاحنتين ثقيلتين، في انتظار الأمر بالتوجه إلى الأراضي المدمرة، على ما يبدو. ومن بعيد، أضاءت الانفجارات العرضية في قطاع غزّة الأفق بضوء جهنمي، وهز صوتها نوافذ مركز التسوق المجاور.
«سنأخذ موكبنا إلى منطقة السهم الأسود، إلى تلة تطل على قطاع غزّة»، هكذا أخبرتني فايس عندما سألتها عن خطة نحالا لهذه الليلة. (السهم الأسود هو نصب تذكاري للجنود المظليين الإسرائيليين، يديره الصندوق القومي اليهودي، على بعد أقل من كيلومتر واحد من الحاجز الأسمنتي والأسلاك الشائكة التي تفصل قطاع غزّة عن إسرائيل). وأضافت وهي تبتسم: «نأمل أن تسمح لنا الشرطة بالوصول إلى هناك. دائمًا نجد طريقة لفعل ما نريد».
تتناقض حماسة فايس المتطرفة مع عمرها الحقيقي، فهي واحدة من آخر القادة المستوطنين من جيل المؤسسين الذين ما زالوا على قيد الحياة، وهي الأمين العام السابق لغوش إيمونيم أو "كتلة المؤمنين"(2)، الحركة الدينية القومية اليهودية التي تأسست في أوائل السبعينيات وأطلقت المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية المحتلة. وعندما بلغ العديد من نظراء فايس منتصف العمر، استبدلوا الحياة النضالية بالراحة البرجوازية تحت أسقف القرميد الأحمر "تراكوتا(3) في ضواحي المستوطنات، أو تركوا تاريخهم من الإرهاب والتخريب خلفهم من أجل العمل في وسائل الإعلام أو السياسة. ولكن فايس لم تحذُ حذوهم.
وباستثناء الفترة التي قضتها رئيسةً لبلدية كيدوميم، وهي مستوطنة متطرفة تقع بالقرب من مدينة نابلس الفلسطينية، ظلّت فايس على قمم تِلال الضفة الغربية المحتلة تحثُّ الشباب الإسرائيليين على الاستيلاء على الأرض. وأسّست عام 2005 حركة نحالا مع زعيم آخر من الجناح المتطرف في حركة غوش إيمونيم، موشيه ليفينغر(4) من مستوطنة كريات أربع سيئة السمعة بالقرب من الخليل، بهدف إبقاء شعلة الحركة الاستيطانية مشتعلة. ومنذ ذلك الحين، أصبحت بمثابة معلمة للمستوطنين الشباب المتطرفين من قمم التلال، حيث أرشدتهم في بناء البؤر الاستيطانية غير القانونية وفي فن مكافحة، مدنية وغير مدنية، أي محاولات من جانب السلطات الإسرائيلية للسيطرة عليهم.
وبعد الهجوم الذي شنته حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 مباشرة تقريبًا، وجّهت فايس وبقية حركة الاستيطان اليمينية أنظارهم إلى قطاع غزّة. وعلى خلفية القصف الإسرائيلي المكثف والتطهير العرقي في شمال القطاع، كثف المستوطنون جهودهم لإعادة إنشاء المستوطنات اليهودية هناك، وأعلنوا عن نواياهم بصوت عالٍ وبشكل مباشر —مع علمهم أنهم يعتمدون على دعم كبير داخل الائتلاف الحاكم. أعلن وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، والذي يتزعم حزب الصهيونية الدينية، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، (وليس للمرة الأولى) على الإذاعة العامة الإسرائيلية: «يجب علينا احتلال قطاع غزّة، والحفاظ على الوجود العسكري هناك، وإقامة المستوطنات». كثيرون في معسكر سموتريتش أردوا إطالة أمد الحرب، معتبرين أنّه كلما استمرت إسرائيل في ارتكاب أعمال وحشية ضد قطاع غزّة، كلما زاد احتمال نجاح المستوطنين في إنشاء بؤرة استيطانية، أي بذرة مستوطنة، في القطاع.
وقد أدّى الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار إلى إبطاء زخم حركة إعادة التوطين في قطاع غزّة لفترة وجيزة، لكنه لم يوقفها. إن وقف إطلاق النار هش وخطير للغاية: فليس هناك ما يضمن أنه سوف يدوم إلى ما بعد المرحلة الأولية التي تستمر ستة أسابيع، والتي لا تتضمن سوى انسحاب إسرائيلي جزئي من أراضي القطاع. بل وبعد أيام قليلة من إعلانها، بدأت التقارير تتسرب بأن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، من أجل الحفاظ على حكومته اليمينية المتشددة، وافق على طلب سموتريتش بأن تستأنف إسرائيل الحرب بعد انتهاء المرحلة الأولى وتفرض تدريجيًا السيطرة الإسرائيلية الكاملة على قطاع غزّة.
وفي ظل هذه الشكوك الأولية، واصلت حركة الاستيطان الضغط لتحقيق رؤيتها الإقصائية لإعادة استعمار قطاع غزّة. ثم في الأسبوع الماضي، أعلن دونالد ترامب عن خطته المفاجئة للتطهير العرقي للقطاع كاملًا من الفلسطينيين والاستيلاء على أرضهم. ولقد استقبل اليمين المتطرف في إسرائيل، وفي واقع الأمر جزء كبير من الوسط الإسرائيلي، الاقتراح بحماس مكشوف. وكانت فايس في غاية السعادة. وقالت في بيان لها في الخامس من فبراير/شباط: «على افتراض أن إعلان ترامب بشأن نقل سكان قطاع غزّة إلى دول العالم سيترجم إلى فِعل، فعلينا الإسراع بإنشاء المستوطنات في كل جزء من القطاع».
ظهرت حركة الاستيطان الصهيونية الدينية في إسرائيل على الساحة بعد انتصار البلاد في حرب عام 1967. احتلت إسرائيل خلال هذه الحرب الضفة الغربية وقطاع غزّة ومرتفعات الجولان وشبه جزيرة سيناء، وبعد بضع سنوات قليلة، في أوائل سبعينيات القرن العشرين، بدأت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في تمكين بناء المستوطنات في جميع أنحاء الأراضي المحتلة حديثًا. وبحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أصبح قطاع غزّة موطنا لنحو 9 آلاف مستوطن إسرائيلي يعيشون في 21 مستوطنة. وقد وقعت 17 منها في منطقة يطلق عليها الإسرائيليون اسم غوش قطيف، على الساحل الجنوبي لقطاع غزّة، والتي منعت فعليًا الفلسطينيين في مدينتي خان يونس ورفح من الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط.
وكان العديد من المستوطنين الذين توجهوا إلى قطاع غزّة ينتمون إلى الفصائل الأكثر تطرفًا من الناحية الأيديولوجية في الحركة الدينية الصهيونية. إن الإسرائيليين، الذين يؤمنون بالرؤية المتطرفة للوجود اليهودي المادي في كل شبر من أرض إسرائيل التوراتية، قد فرضوا تكاليف باهظة —في المقام الأول على نحو مليوني فلسطيني أجبروا على العيش تحت الاحتلال العسكري، ولكن أيضًا على آلاف الجنود الإسرائيليين المطلوبين لتأمين المستوطنات في عمق قطاع غزّة.
نفذت إسرائيل في عهد رئيس الوزراء أرييل شارون في عام 2005 ما يسميه الإسرائيليون «فك الارتباط»، أو الانسحاب الأحادي الجانب لجميع المستوطنين اليهود من قطاع غزّة بأكمله. وكان هذا القرار بمثابة تحول كبير في موقف شارون، الذي كان طيلة معظم حياته من صقور الحرب المتطرفين، وبذل الكثير من الجهد لتعزيز مشروع الاستيطان بنفسه. وفي تصريحاته أمام الرأي العام الدولي، أكّد شارون أنه يأمل أن يُظهِر الانسحاب أن إسرائيل جادَّة في تقديم التنازلات الإقليمية الضرورية للتوصل إلى اتفاق سلام في نهاية المطاف مع الفلسطينيين. بالنسبة للرأي العام الإسرائيلي، زعم شارون أن هذه المستوطنات على وجه الخصوص لا معنى لها من الناحية الإستراتيجية: فقطاع غزّة لا يضم أي مواقع قديمة ذات أهمية دينية حقيقية، وأن الدِّفاع عن المستوطنات يتطلب قدرًا كبيرًا من التضحيات البشرية. ولكن في السّر، كان لدى شارون ومستشاريه هدف مختلف: تأجيل إمكانية إنشاء دولة فلسطينية من خلال فصل مصير الضفة الغربية عن مصير قطاع غزّة. وقال مستشار شارون دوف فايسغلاس في تصريح شهير: «إن أهمية خطة الانسحاب هي تجميد عملية السلام. فك الارتباط في الواقع هو الفورمالديهايد»(5).
أما أعضاء اليمين القومي الديني في إسرائيل، فإن الانسحاب من أي أراضٍ أمر غير مقبول. ونظر الإسرائيليون منذ عام 2005 إلى الانسحاب باعتباره جرحًا لا يندملُ وبوصفهِ «ظلمٌ تاريخيٌ» يجب تصحيحه، كما يصفونه في كثير من الأحيان. ومع بدء الغزو البري في أكتوبر/تشرين الأول 2023، رأى الصهاينة المتدينون المتطرفون في إسرائيل الفرصة تلوح أمامهم. وبدأ جنود من اليمين الإسرائيلي بتحميل مقاطع فيديو لأنفسهم وهم يتعهدون بالعودة إلى غوش قطيف وإعادة الاستيطان في قطاع غزّة. ووسط الأنقاض، زرعوا العلم البرتقالي الذي أصبح شعارًا لحركة مناهضة الانسحاب، ونشروا لافتات تعلن المواقع المستقبلية للمستوطنات الجديدة، وثبتوا المزوزات(6) على إطارات أبواب المنازل الفلسطينية المدمرة. في حين أمضى جزء كبير من إسرائيل الأشهر التي أعقبت السابع من أكتوبر/تشرين الأول في الحداد، دخلت قيادة الحركة الاستيطانية في حالة من الترقب وشبه النشوة، والتي تعمقت مع مرور الوقت. قالت أوريت ستروك، الوزيرة الحكومية من حزب الصهيونية الدينية في الصيف الماضي: «من وجهة نظري، كانت هذه فترة من المعجزات».
بدأت حركة نحالا من جهتها بعقد فعاليات تهدف إلى حشد الدعم لإعادة احتلال قطاع غزّة وإعادة توطين سكانها. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بعد أسابيع قليلة من السابع من أكتوبر/تشرين الأول، عقدت مؤتمرًا مُخصّصًا لهذا الهدف في مدينة أسدود الجنوبية. وبعد أشهر قليلة، في يناير/كانون الثاني 2024، نظمت فايس وشركاؤها المتطرفون مؤتمر نصر إسرائيل في القدس، الذي حضره عدة آلاف من الأشخاص، بما في ذلك 11 وزيرًا في الحكومة و15 عضوًا في الائتلاف الحاكم، حيث أشاد المتحدثون بالجهود المبذولة لإعادة بناء المستوطنات في قطاع غزّة ودعوا إلى طرد الفلسطينيين الذين يعيشون هناك. وفي يوم استقلال إسرائيل في شهر مايو/أيار، نظمت نحالا مظاهرة في سديروت، حيث كرر وزير الأمن القومي إيتمار بن غڤير مطالب الحركة بـ «الرحيل الطوعي» لسكان قطاع غزّة —وهو تعبير مخفف وصارخ عن التطهير العرقي— أمام حشد من آلاف الحاضرين. ونظّمت نحالا في أكتوبر/تشرين الأول نظمت تجمعا «احتفاليًا» بمناسبة عيد العرش في منطقة عسكرية مغلقة بالقرب من الحدود، حيث أقام نشطاء من اليمين المتطرف أكشاكًا وعقدوا ورش عمل حول كيفية الاستعداد لإعادة الاستيطان في قطاع غزّة.
وعندما اجتمعت المجموعة في ديسمبر/كانون الأول للاحتفال بعيد الحانوكا في موقف السيارات في سديروت، كان عدد الحضور أصغر بكثير، لكن الجو لم يكن أقل بهجة. «هل ترغبين في الانضمام إلى بؤرِ مستوطناتنا؟» سألت امرأة ترتدي غطاء رأس برتقالي اللون، وكانت تتدلى حول رقبتها سلسلة ذهبية تحمل صورة الهيكل الثالث الذي أعيد بناؤه. كانت تبيع القمصان والمناشف وأعلام السيارات والملابس الداخلية للأطفال مطبوعة عليها عبارة «قطاع غزّة جزء من أرض إسرائيل!» لجمع الأموال لجهود «بؤرتها» أو مجموعتها الاستيطانية. ومن بين البؤرِ الست التي نظمتها نحالا لاستيطان أجزاء مختلفة من القطاع، والتي تضم كل منها نحو مئة عائلة، كانت بؤرة شمال قطاع غزّة هي «الأفضل»، كما قالت، «لأنها الأكثر واقعية».
وأوضحت أن السبب في ذلك هو أن الجيش الإسرائيلي كان قد «أفرغ» بالفعل معظم شمال قطاع غزّة. وأضافت أن الفلسطينيين الذين بقوا «ليسوا أبرياء على ما يبدو»، وبالتالي سيُتعامل معهم على هذا الأساس، أي طردهم أو قتلهم. وكانت المرأة المقيمة في عسقلان، وهي مدينة تقع على بعد 19 كيلومترًا شمال غزّة، متأكدة جدًا من نجاح جهود إعادة الاستيطان لدرجة أنها رفضت تجديد عقد إيجارها للعام المقبل. وأضافت «بحلول الصيف المقبل، سنكون في منزلنا الجديد [في قطاع غزّة]. إنها خطة الله لنا أن نعود».

ورغم أن المستوطنين يحبون أن ينسبوا الفضل إلى الربّ في تعجيل عودتهم المحتملة إلى قطاع غزّة، فإنهم حصلوا على مساعدة كبيرة من مصادر دنيوية. أقامت القوات الإسرائيلية، قبل اتفاق وقف إطلاق النار، بُنْيَة احتلالية واسعة في قطاع غزّة. وعلى طول ما يسميه الجيش الإسرائيلي ممر نتساريم —وهو طريق ممهد طوله أربعة أميال [6.4 كم] ويقطع الثلث الشمالي من القطاع— أقاموا أكثر من اثني عشر موقعًا عسكريًا وقاعدة عسكرية، مجهزة بوحدات سكنية مكيفة، وحمّامات، ومطابخ، وكنس يهودية. (وقال أحد الحاخامات الأرثوذكس إن العديد من مخطوطات التوراة قد أُرسلت إلى قِطاع غزّة). كما بُنيت مجموعات إضافية من نقاط ومنشآت التفتيش العسكرية في مختلف أنحاء القطاع.
نشر موقع Ynet الإخباري الإسرائيلي في منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول مقالًا ترويجًا عن «قرية منتجعية صغيرة» بناها الجيش الإسرائيلي في شمال قطاع غزّة، وزودها بنظام لتحلية المياه، واستوديوهات للعلاج الطبيعي، ومكتب طبيب أسنان متنقل، وغرفة ألعاب. «كان المكان عبارة عن جزيرة من الهدوء مخفية بين أنقاض القطاع»، كما جاء في المقال. «يوجد أيضًا مقهى به آلة كبيرة لصنع الإسبريسو، وآلات صنع الفشار والحلوى القطنية مثل تلك الموجودة في الأفلام، وصالة لتقديم الأطعمة الخفيفة مثل الوافلز البلجيكية والبريتزل الساخن». وجاء في عنوان المقال: «هذه هي الطريقة التي يستعد بها الجيش للبقاء لفترة طويلة في قطاع غزّة».
أما بالنسبة للفلسطينيين الذين بقوا في شمال قطاعِ غزّة فإن هذا «الأمر» لا يعني سوى المزيد من المعاناة. مع القصف المستمر من الأعلى، أصبحت الحياة عبارة عن كابوس من البرد القارس والجوع. وكجزء من استراتيجية معلنة للتطهير العرقي تهدف إلى القضاء على الوجود الفلسطيني في الشمال، قامت القوات الإسرائيلية منهجيًا بهدم أحياء بأكملها، ودمرت البنية التحتية الأساسية اللازمة للحياة، بما في ذلك المستشفيات، واستخدمت التجويع سلاحًا للحرب. لم تتمكن المساعدات الإنسانية القليلة التي سُمح بدخولها إلى القطاع من الوصول إلى السكان المتبقين في الشمال. وتُظهر اللقطات الجوية للمدن المكتظة بالسكان في بيت لاهيا وبيت حانون وجباليا مشهدًا من الدمار الشامل، مع جبال من الأنقاض الرمادية تمتد إلى الأفق تقريبًا.

كان هذا الدمار بالنسبة لفايس بمثابة مرحلة مرحب بها في الخطة الإلهية. وفي مقابلة مع قناة كان، وهي هيئة البث الإسرائيلية العامة، في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، كشفت أنها خلال رحلة استكشافية على طول الجدار الفاصل لاستكشاف مواقع استيطانية مستقبلية، اتصلت بضباط في الخدمة الفعلية في جيش الدفاع الإسرائيلي يتعاطفون مع اليمين المتطرف، والذين قدموا لهم سيارة جيب عسكرية لنقلهم إلى القطاع، حيث قاموا بمسح الموقع الذي كان مستوطنة نتساريم في قطاع غزّة. وقالت فايس لـ كان: «لدينا نحن المستوطنون كل أنواع الأساليب لتحقيق مرادنا».
وأضافت أن المرحلة التالية ستكون بسيطة. وفي وقت ما خلال الأشهر المقبلة، سيحاولون جلب المزيد من نشطاء نحالا إلى قواعد الجيش الإسرائيلي في قطاع غزّة، ثم سيرفضون المغادرة. وأضافت فايس «إن ما يحدث الآن هو معجزة، نحن نخوض حربا مقدسة. بعد عام من اليوم، سيعود شعب إسرائيل إلى قطاع غزّة».
من جانبه، وصف نتنياهو مرارًا وتكرارًا احتمال إعادة بناء المستوطنات اليهودية في قطاع غزّة بأنه «غير واقعي». ولكن داخل حزب الليكود، حزب نتنياهو، ناهيك عن ائتلافه الحاكم، ثمة دعم كبير لهذه الفكرة. وبحسب تقرير شبكة كان حول حركة الاستيطان في قطاع غزّة، فإن ما يقدر بنحو 15 ألف ناخب من أصل نحو 60 ألف ناخب في الانتخابات التمهيدية لحزب الليكود ينتمون إلى جماعات متشددة مؤيدة للاستيطان. وعندما سأل إذاعة كان عما إذا كانت هناك أغلبية داخل الحزب تؤيد إعادة التوطين في قطاع غزّة، أجاب عضو الكنيست عن حزب الليكود أفيحاي بوعرون: «نعم، بالتأكيد».
لقد أعطى انتخاب دونالد ترامب لولاية ثانية طاقة جديدة لطموحات الحركة الاستيطانية المتطرفة بالفعل. في فعالية نحالا في سديروت، كان هناك شعور واسع النطاق بأنه مع وجود ترامب في منصبه، فإن المستوطنين، واليمين المتطرف عمومًا، سوف يتمتعون بحرية أكبر في التصرف. أمام لافتة تَعِد ببناء «غزّة الجديدة» —مدينة يهودية جديدة على أنقاض ما أصبح الآن مدينة غزّة— وقف رجل يدعى يعقوب يشرح بحماس كيف أصبح المستقبل الذي كان لا يمكن تصوره في السابق ممكنًا في نظره. وأضاف «سنسويّ قطاع غزّة بأكملهِ بالأرض وسنبني مدينة فوقه. لو سألتني عن هذا الأمر قبل ستة أشهر، كنت سأقول إنك مجنون».
على الرغم من كل القوة التي اكتسبتها حركة الاستيطان داخل السياسة الإسرائيلية —وعلى مصير الفلسطينيين— فإن غالبية إسرائيل لم تدعم قط إعادة بناء المستوطنات في قطاع غزّة (أكثر من النصف، وفقًا لاستطلاعات الرأي الأخيرة، يعارضون ذلك). ولكن نجاح اليمين الاستيطاني في إسرائيل لم ينبع قط من دعم جماهيري فعلي. على العكس من ذلك، فهو حالة نموذجية لحركة طليعية. لقد بنى المستوطنون مجموعة ضغط تعلمت كيفية ممارسة نفوذها داخل حزب الليكود، وفي الوقت نفسه تعلمت آلية تحويل ممثليهم السياسيين إلى صناع ملوك برلمانيين. وفي الضفة الغربية —النموذج لما يأمل المستوطنون تحقيقه في قطاع غزّة— ترسخ الاحتلال من خلال العمل الاستيطاني الأحادي الجانب على ما يبدو (خلق الحقائق على الأرض وإجبار الدولة على اللحاق بالركب) بقدر ما ترسخ من خلال التخطيط المتعمد من جانب الدولة.
في فبراير/شباط الماضي، تمكنت مجموعة من فتية التلال، المعروفين بمهاجمة الرعاة الفلسطينيين والبلدات الفلسطينية في الضفة الغربية، من عبور نقطة تفتيش تابعة للجيش الإسرائيلي والدخول إلى قطاع غزّة قبل أن يتعقبهم الجيش، في حين حاول آخرون بناء موقع استيطاني في المنطقة العازلة التي حددها الجيش الإسرائيلي. فشلت تلك الجهود، ولكن حتى مع سريان وقف إطلاق النار، ما يزال هناك خطر يتمثل في أن مجموعة من المستوطنين، سواء من صفوف نحالا أو إلى اليمين منهم، سوف تحاول مرة أخرى. ورغم أن انسحاب معظم القوات الإسرائيلية من قلب قطاع غزّة أدى إلى تقليص فرص نجاح المستوطنين في المستقبل القريب، فإن فايس وزملاءها من النشطاء ليسوا مخطئين في الاعتقاد بأن الوقت في صالحهم. وكما أوضح المستوطنون في كثير من الأحيان —وكما أكدت فايس نفسها عندما تحدثت إلى الحشد في تجمع سديروت— فإنهم يلعبون لعبة طويلة الأمد.
وأضافت «لدينا اليوم 330 مستوطنة في يهودا والسامرة»، مستخدمة المصطلح التوراتي المفضل لدى المستوطنين للإشارة إلى الضفة الغربية، «وحوالي مليون يهودي خارج الخط الأخضر. لم يولد هذا في يوم واحد، ولم يتحقق دون نضال. نريد أن نعود إلى قطاع غزّة، إلى ميراث سبط يهوذا». وأضافت وسط التصفيق «نريد أن يمتد النقب الغربي حتى البحر الأبيض المتوسط. وسوف نحقق هذا الهدف بفضل كل من هنا وكل من يصلي من أجل عودة الشعب اليهودي إلى كامل أرضه».
وبعد أن أنهت فايس خطابها وألقى العديد من الناشطين اليمينيين المتطرفين خطاباتهم القصيرة، صعد المسلحون المستوطنون إلى شاحناتهم البيضاء الكبيرة، وربطوا أطفالهم الكُثُر في مقاعد سياراتهم، وانطلقوا نحو النصب التذكاري لـ «السهم الأسود». كان هناك ناشط مخضرم في حركة نحالا يدعى حاييم، يقف في موقف السيارات، يجمع العديد من اللافتات التي رُبطت بسياج شبكي وملفوف حول الأشجار. وأشار إلى القوافل التي بقيت متوقفة في مكانها أثناء انطلاق الموكب. وأوضح أن القوافل لم تكن مخصصة للتوجه إلى قطاع غزّة في تلك الليلة، بل كانت هناك لتوضيح التزام الحركة بإعادة الاستيطان في قطاع غزّة خطوة بخطوة. وأضاف حاييم «في نهاية المطاف، الحكومة تتبع الشعب. الهدف هنا هو إحداث موجة من الغضب لا يمكن للحكومة أن تتجاهلها».
* المقال لا يعبّر بالضرورة عن رأي عرب 48.
إحالات:
(1) منظمة أو حركة نحالا: حركة استيطانية إسرائيلية متطرفة تهدف إلى تعزيز الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتسعى إلى ضمّ هذه المناطق إلى إسرائيل. تأسست المنظمة في عام 2005، وتركز على شراء وتطوير العقارات في مناطق الاستيطان، خاصة في القدس والضفة الغربية. اقتحم نشطاء من المنظمة في فبراير/شباط 2024 قطاع غزة بهدف إعادة بناء المستوطنات الإسرائيلية التي أُخليت عام 2005، لكن الجيش الإسرائيلي أوقفهم وأعادهم إلى داخل إسرائيل. نَحَالا (تعني ميراث أو إرث، وتشتق من الجذر נ-ח-ל الذي يعني تدفق أو جريان. يشير المصطلح إلى ما يُورث من جيل إلى جيل، مثل الممتلكات أو الأرض. يُستخدم المصطلح في الكتابات اليهودية لوصف الأرض الموروثة بين الأسباط (المُترجم).
(2) غوش إيمونيم: حركة اجتماعية دينية-قومية إسرائيلية متطرفة تأسست بعد حرب 6 أكتوبر عام 1974. هدفت الحركة إلى تعزيز الاستيطان اليهودي في المناطق التي احتلتها إسرائيل عام 1967، بما في ذلك الضفة الغربية ومرتفعات الجولان وقطاع غزة. من بين مؤسسيها البارزين: الحاخام حنان بورات وبني كاتسوبر والحاخام مناحيم فيليكس. استندت غوش إيمونيم إلى رؤية دينية تعتبر الاستيطان في «أرض إسرائيل الكاملة» جزءًا من عملية الخلاص اليهودي.
(3) تُعتبر الأسطح المصنوعة من القرميد الأحمر (التراكوتا) سمة معمارية بارزة في العديد من المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. تميز هذه الأسطح المائلة، المغطاة بالقرميد، المستوطنات اليهودية عن القرى الفلسطينية المجاورة، التي غالبًا ما تحتوي على أسطح مسطحة. يُستخدم القرميد الأحمر في الأسقف المائلة كرمز للرخاء وللقدرة المالية (المُترجم).
(4) كان موشيه ليفينغر حاخامًا إسرائيليًا وزعيمًا دينيًا بارزًا في حركة الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية. اشتهر بدوره القيادي في تأسيس حركة غوش إيمونيم عام 1974، التي سعت إلى تعزيز الاستيطان اليهودي في المناطق المحتلة بعد حرب 1967. وقاد في عام 1968 مجموعة من المستوطنين للإقامة في فندق بارك بمدينة الخليل، مما أدى إلى تأسيس مستوطنة كريات أربع في محيط المدينة. كان ليفينغر شخصية مثيرة للجدل، حيث اعتُقِل عدة مرات بسبب نشاطاته الاستيطانية ومواجهاته مع الفلسطينيين. مات في مايو 2015، تاركًا وراءه إرثًا في حركة الاستيطان الإسرائيلية والإرهاب ضد الفلسطينيين (المُترجم).
(5) غاز عديم اللون وقابل للاشتعال. يُستخدم كمبيد بيولوجي، كما يُستخدم أيضًا في التحنيط، ولعل دلالته هنا مزدوجة، أي أن فك الارتباط سيعمل على تحنيط عملية السّلام، كما أنه أداة اشتعال بين الأطراف المتنفذة في الضفة الغربية وقطاع غزّة (المُترجم).
(6) المزوزة: قطعة من الرق تحتوي على آيات من التوراة، تُوضع داخل علبة صغيرة وتُثبت على قوائم أبواب المنازل اليهودية. تحتوي على فقرتين من سفر التثنية (6:4-9 و11:13-21)، التي تتضمن وصية محبة الله وتعاليم الشريعة اليهودية. يعتبر تعليق المزوزة على الباب تقليدًا دينيًا يهوديًا يُعتقد أنه يجلب البركة والحماية للمنزل وساكنيه. توضع المزوزة مائلةً في الجزء العلوي من القائم الأيمن للباب، ويتم لمسها عند الدخول والخروج كعلامة على الاحترام والإيمان. تستخدم المزوزة في المنازل والمعابد والمباني اليهودية الأخرى، باستثناء الحمامات والمخازن (المُترجم).
المصدر: عرب 48