حمد باشا الباسل.. شيخ العرب والوطنيين المصريين

أثناء قراءاتي في تاريخ الحركة الوطنية المصرية، وقع نظري على اسم أحد زعمائها الكبار المنسيين. ولعل ما أثار فضولي ودفعني للبحث عن سيرته أن اسمه الأول هو حمد. وحمد اسم علم كثير الاستعمال في الخليج والجزيرة العربية والعراق، لكنه غير شائع عند المصريين المسلمين الذين يفضلون عليه اسمَي أحمد ومحمد.
ومثلما توقعت، تبين أن أصول هذا الزعيم المصري الوطني تعود إلى شمال الجزيرة العربية، وأن عائلته تنتمي إلى آل زيدان من الفوايد من قبيلة الرماح، التي هي بطن من بطون بني سليم من العرب العدنانية القيسية في جهات الحجاز، التي وصلت قديماً إلى مصر ومن ثم تفرعت وذهب قسم منها إلى ولاية طرابلس الليبية، قبل أن يعودوا إلى مصر أوائل القرن 18 الميلادي ويستقروا في محافظة البحيرة. وفي منتصف القرن 19 نزحوا منها إلى قرية «أبوحامد» (مركز إطسا بالفيوم) التي عُرفت لاحقاً بـ«قصر الباسل»، بعد أن بنى حمد باشا الباسل قصره بها سنة 1907، وهو قصر جدّده عام 1939 بمناسبة زيارة الملك فاروق لافتتاح مشروع للمياه بالفيوم.
وبالمزيد من البحث والتنقيب، وجدت أن «حمد باشا الباسل» (المترجَم له) ربطته وشائج قوية بأبناء جلدته العرب، فكانت له رحلات إلى سوريا والحجاز والعراق، واتصالات مع مشايخ قبائلها، وجهود طيبة في حل الخلافات بينهم درءاً للفتن، ولاسيما في العراق الذي سافر إليه سنة 1939 للقاء شيخ مشايخ شمّر عجيل باشا الياور بقصد حل الخلافات بين الأخير ونظرائه من مشايخ عراقيين. كما طاف بدول أوروبا، وتكررت زياراته إلى باريس ولندن لأغراض السياحة أو العمل السياسي، خصوصاً أنه كان يجيد اللغتين الإنجليزية والفرنسية بطلاقة كأبنائها لأن والده وفّر له معلمتين خصوصيتين لتعليمه هاتين اللغتين اللتين كانتا قديماً من شروط الارتقاء إلى المناصب العليا في مصر. ولعل سر اهتمامه بالعراق تحديداً وجود أعداد كبيرة من قبيلة الرماح وأفخاذها فيه ممن ينتسبون إلى الرماح بن فرج بن علي الشيباني البكري، وينتشرون في محافظات العراق الوسطى والجنوبية.
كان حمد باشا يفتخر دوماً بأن أجداده من عواتك بني سليم الذين دخل منهم نحو ألف فارس مع النبي صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة لفتحها. لكنه كان يفتخر أيضاً بدوره الشخصي في الحركة الوطنية المصرية وثورة 1919 وتأسيس حزب الوفد إلى جانب سعد باشا زغلول.
ومن محاسن الصدف، أن هذا الرجل الذي طاله النسيان طويلاً قياساً بزملائه صدر عنه في سبتمبر 2020 كتاب بعنوان «المناضل العربي الكبير شيخ العرب حمد باشا الباسل زعيم ثورة 1919» لمؤلفه الدكتور أيمن عبدالعظيم رحيم، وهو كتاب سنعتمد عليه هنا بصورة رئيسية لسرد سيرته العطرة ومآثره الكثيره وجهوده الخيّرة وجهود أسرته الكريمة في سبيل مصر، مع تطعيمها (كلما لزم الأمر) بمعلومات وإيضاحات إضافية من مصادر صحفية مختلفة، لاسيما حوار أجرته صحيفة «الوطن» المصرية (8/3/2019) مع حفيده النائب الوفدي عبدالعظيم الباسل.
وُلد «حمد باشا الباسل» بمحافظة الفيوم سنة 1871، ابناً لوالده شيخ العرب محمود الباسل ابن شيخ العرب محمد الباسل. ولما تُوفي والده عام 1880 أمر الخديوي توفيق بتعيينه استثناء عمدة لقبيلة الرماح وهو في العاشرة من عمره، وذلك مكافأة لما قام به والده من خدمات للحكومة المصرية. غير أنه تخلى عن العمودية في عام 1909 لأخيه عبدالستار بك الباسل، وهذا الأخير كان قد تلقى دراسته بمدرسة الفيوم الأميرية، وألمّ باللغتين الفرنسية والإنجليزية، وعمل في إدارة الشؤون الزراعية لأسرته وتزوج من كريمة العالم الكبير حفني بك ناصف، الأديبة والشاعرة المعروفة ملك حفني ناصف الملقبة بـ«باحثة البادية».
انتُخب حمد باشا في عام 1909 عضواً في لجنة النفي الإداري بمديرية الفيوم، وفي العام التالي عُين في لجنة تعداد العربان، وفي عام 1911 تم تعيينه في مجلس المديرية باعتباره شخصية معروفة ومن كبار ملّاك الأراضي الزراعية، ناهيك عن أن الرجل كان قد أقدم مع عدد من الأعيان في عام 1909 على تجربة فريدة من نوعها آنذاك. ولم تكن هذه التجربة، التي تم الإعلان عنها بجريدة الأهرام، سوى تشكيل مجلس نيابي مستقل عن الحكومة، حيث لم تكن الحياة النيابية آنذاك قد بدأت في مصر. وضمّ المجلس 20 عضواً برئاسة طلبة باشا سعودي، واختير حمد باشا وكيلاً له.
وقبل الحرب العالمية الأولى، وتحديداً في عام 1913 بدأت الحياة النيابية في مصر بتأسيس «الجمعية التشريعية»، فتم انتخاب حمد باسل مع طنطاوي بك طنطاوي والشيخ محمد علي صالح لتمثيل الفيوم في الجمعية التي كان من وظائفها إبداء الآراء غير الملزمة في القوانين الصادرة، لكنها توقفت عن العمل بعد دور انعقاد وحيد بسبب ظروف الحرب. وفي عام 1914 منحه الخديوي عباس حلمي الثاني رتبة البشوية.
في عام 1908 التقى بزعيم الأمة سعد باشا زغلول لأول مرة، أثناء زيارة الأخير للفيوم بوصفه وزيراً للمعارف آنذاك، حيث أُعجب زغلول بحماس ووطنية الشاب حمد الباسل وشكره على قيامه بتأسيس عدد من المدارس والمعاهد في الفيوم. وفي عام 1918 انضم حمد الباسل إلى سعد زغلول لتشكيل حزب الوفد بزعامة الأول، حيث انفق على تأسيسه من ماله الخاص. وبعد تفويض الشعب للحزب بتحرير البلاد من الاستعمار، بدأت السلطات الإنجليزية بتضييق الخناق على زعماء الحزب وحظرت عقد الندوات والمؤتمرات. ولأن منزل حمد باشا بمنطقة قصر النيل في القاهرة كان يستضيف بعض هذه اللقاءات الحزبية، فقد تم القبض عليه مع رفاقه من الوطنيين المصريين ومحاكمتهم ونفيهم إلى جزيرة مالطة أولاً ثم جزيرة سيشل لاحقاً. وهو العمل الذي أطلق شرارة ثورة 1919 في كل أرجاء مصر، بدءاً من الفيوم التي ما إنْ سمع أهلها نبأ اعتقال ونفي الباسل إلا وتوجهوا إلى مركز شرطة إطسا وأسروا مأمورها الإنجليزي، لتشتعل الاحتجاجات وتمتد لباقي المحافظات المصرية.
وبعد عودته من منفاه في سيشل، تم القبض عليه مع سبعة من رفاقه (أطلق الشعب عليهم اسم الأسود السبعة)، بتهمة التحريض على تخريب اقتصاد البلاد، حيث كان الباسل أحد مشجعي بنك مصر،الذي أسسه طلعت حرب، كما اتُهموا بالحض على كراهية السلطات، فما كان من حمد باشا إلا أن قال وقتها عبارته الشهيرة «أنتم تحاكمونا وليس لكم الحق في أن تحكمونا.. نموت نموت وتحيا مصر»، لتجري محاكمتهم ويصدر عليهم حكم بالإعدام، قبل أن يُخفف الحكم إلى السجن لمدة سبع سنوات مع غرامات مالية، وقبل أن يُطلق سراحهم تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية. وبسبب دور حمد باشا الوطني الناصع قام ضباط انقلاب 23 يوليو 1952 باستثنائه من مصادرة ممتلكاته.
خلافه مع «الوفد»
أخبار ذات صلة
والمعروف أنه بعد عودته مع زغلول ورفاقهما من منفاهم في مالطا في أبريل 1919، دبت الخلافات بينه وبين زغلول حول التفاوض مع الإنجليز من عدمه (كان من رأيه ورأي عدد آخر من رموز حزب الوفد ضرورة السفر إلى لندن للتفاوض مع الإنجليز والقبول بما يمكن أخذه منهم، بينما كان زغلول متشدداً ويتبنى رأياً معاكساً)، ولهذا قدّم حمد باشا استقالته الأولى من «الوفد»، لكن دون أن يقطع صلاته بزغلول. وسافر مع وفد مصر المشارك في محادثات باريس حول جلاء الإنجليز، حيث أظهر قدراته كمفاوض شرس وزعيم مصري لا يُستهان به.
ترشح حمد باشا في أول انتخابات برلمانية حقيقية في مصر سنة 1923/ 1924، وكرر ذلك في انتخابات 1925 و1926، عن دائرة «أبوجندير» بالفيوم، وفاز بها، وكان طوال هذه الفترة وكيلاً للمجلس ووكيلاً لحزب الوفد (فترة غياب سعد زغلول)، لذا أُطلق عليه لقب «صاحب الوكالتين».
انشقّ الباسل عن «الوفد» مرة أخرى عام 1932، بسبب خلافات وتباينات بين قادته، وعلى إثر ذلك شكل حزب «7.5» الذي أُطلق عليه لاحقاً اسم «الحزب السعدي»، تكريماً لسعد زغلول. وقد شاركه في ذلك فخري عبدالنور، وعطا عفيفي، وعلي الشمسي، وفتح الله بركات، ومراد الشريعي، وعلوي الجزار، ليشتد عليه المرض بعدها بفترة، ويعتزل العمل السياسي، والحياة العامة، ويرحل عن دنيانا في التاسع من فبراير عام 1940.
وبهذا انطوت صفحة زعيم وطني مصري كانت له مواقف قومية وإنسانية كثيرة ومنها أنه ساند نضال الشعب الليبي ضد المستعمر الإيطالي بقيادة عمر المختار الذي تربطه به صلة قرابة، واستضاف بعض القبائل الليبية التي نزحت من بلدها إلى الفيوم، وأغدق عليها المال لتعيش معززة مكرمة، بل منحها حوالى 500 فدان من أرضه لتقيم عليها وترعى مواشيها (كان من ضمن أفراد هذه القبائل الملك المجاهد إدريس السنوسي الذي كانت زيجته الثانية سنة 1955 من سيدة من قبيلة الفوايد الرماح)، وتبرع للدولة العلية العثمانية ولجمعية الهلال الأحمر المصرية، وشجع التعليم فأسس مدرسة إعدادية باسمه في زمن كان التعليم بمصر مكوناً من المرحلتين الابتدائية والثانوية فقط.
لقاءات سياسية
ونظراً لخبرته في المجال الزراعي، فقد استدعاه حاكم السودان الإنجليزي وسردار الجيش المصري «ونغت باشا» إلى السودان، فسافر إلى هناك وقدم آراءه وخبرته لصالح السودانيين. كما طالت مساهماته المجال الرياضي والاجتماعي من خلال مشاركته مع آخرين في تأسيس «النادي الأهلي» المصري سنة 1907.
علاوة على ما سبق يقول الكاتب المصري «عزت أندراوس» في مقال له منشور على صفحته بـ«الفيسبوك»، إن أول اجتماع لحزب الوفد عُقد بمنزل حمد باشا بالقاهرة. أما منزله في الفيوم المعروف بقصر الباسل فقد شهد لقاءات عقدها صاحبنا مع العديد من الشخصيات العربية السياسية في مساعيه لخدمة العرب وقضاياهم ومنهم مثقال باشا الفايز رئيس وزراء الأردن، ونوي باشا السعيد رئيس وزراء العراق، وهو ما جعل عبدالرحمن عزام (أول أمين عام لجامعة الدول العربية في ما بعد) يصفه بـ«شيخ العرب»، خصوصاً أن عزام عرفه عن كثب، بل سافر معه إلى العراق عام 1939 في مهمته لرأب الصدع بين القبائل العراقية.
ويخبرنا أندراوس أيضاً أنه أثناء مرور الوفد المصري بالنمسا وهو في طريقه لحضور مؤتمر الصلح بباريس تبرع حمد باشا بمبلغ 300 جنيه لإحدى الكنائس النمساوية، وهو ما دعا المسؤولين هناك لدعوته ومن معه إلى مأدبة غداء مع إمبراطور النمسا.
أما أستاذ العلوم بجامعة الفيوم د. ديهوم الباسل فقد أخبرنا أن حمد باشا هو ابن عم والده وأن الأخير تبرع بقرابة خمسة أفدنة من أراضيه بوسط مدينة الفيوم (مكان محطة سكة الحديد وقصر الثقافة حالياً) لمصلحة سكة الحديد، من أجل إنشاء خط يسهل التنقل ما بين المنيا والفيوم.
ولحمد باشا الباسل صورة شهيرة تجمعه مع الملكة ماري إيدنبورغ (1875 ــ 1938) زوجة الملك فرديناند الأول عاهل رومانيا، وملخص حكايتها أن الملكة كانت في زيارة غير رسمية لمصر وتقيم بفندق الكونتيننتال المواجه لدار الأوبرا المصرية، فلفت نظرها زي وطاقية حمد باشا الذي كان جالساً في «تراس» الفندق، فتوقفت لتسأله عن ملابسه. وهكذا تعارفا وتحادثا ودعاها الباشا لزيارة الفيوم ومشاهدة ما بها من آثار رومانية، فقبلت الدعوة. لكن ما حدث هو أن الديوان الملكي علم بالخبر ووجده مخالفاً للبروتوكول الذي يقضي بأن تكون أول دعوة للملكة الرومانية موجهة من قبل الملك فاروق. وعليه ذهب رئيس الديوان أحمد حسنين باشا إلى الباسل حاملاً طلباً ملكياً بأن يتصل بالملكة ماري لتأجيل زيارتها، وهو ما رفضه حمد باشا قائلاً: «لا يصح أن يؤجل صاحب البيت أو يعتذر عن الدعوة.. أبلغ مولانا باسمي.. سمعاً وعصياناً».
وأخيراً، فإن حمد باشا كان شاعراً يكتب الزجل وأصدر كتاباً بعنوان «منهج البداوة».