فلسطينيّو الـ48: ماذا تبقّى من أدوات للتأثير؟

ماذا تبقى لدى فلسطينيّي الـ48 من أدوات للتأثير والدفاع عن الذات في وجه نظام لم يعد يعير أدنى احترام لغير اليهود، من مواطنيه؛ نظام يمضي في تعديل منظومة الحكم بحيث لا يبقى ثغرة تنفد منها المجموعة السكّانيّة غير الممتثلة لأيدلوجيّته. ما هي السبل والأدوات المتبقّية، أو المختزنة، الّتي يمكن الاستعانة بها لإحباط سياسات الإخضاع والمحو والتهجير؟
هذه الأسئلة الحارقة والمحيّرة، بل الوجوديّة، تشغل هذا الجزء من شعب فلسطين، سواء تلك المتعلّقة به، أو تلك المتّصلة بذلك الجزء الكبير الّذي يتعرّض لعمليّة إبادة، في غزّة، وتطهير عرقيّ وتهجير في الضفّة الغربيّة، وما يمليه الواجب الوطنيّ والأخلاقيّ.
ليس شاذًّا أو غريبًا أن يغمر الشعور باللايقين والحيرة بخصوص كيفيّة مواجهة استفحال الخطر والأزمة غير المسبوقة، التي تواجهها مختلف الأطر التمثيليّة والمهنيّة والأفراد الفلسطينيّين ذوي الخبرات والعاديّين داخل "الخطّ الأخضر". يتواصل العجز، ويتفاقم الشعور به، ونحن نشهد منظومة الإجرام والهدم تمضي في العمل بلا كلل ودون رادع، ونتلظّى بنار فقدان الأمن والأمان، وتحلّل قيم ومعايير أساسيّة، تحت ضغط القمع والترهيب والخنق والتفتيت الّذي يمارسه نظام الأبرتهايد الصهيونيّ.
هذه الحالة مبعثها ليس واقعًا ذاتيًّا أو إسرائيليًّا فقط، بل ما يتعدّى ذلك. إنّنا في أوج حالة عالميّة مأزومة غير مسبوقة، منذ الحرب العالميّة الثانية، قوامها الانحدار المتسارع نحو التحلّل من منظومة القوانين والقواعد الّتي حكمت العالم حتّى اليوم، وهي منظومة ينقلب عليها الآن من كان وراء تأسيسها، أي أميركا والغرب الأوروبّيّ. لقد كانت هناك بعض الضوابط والمعايير المهمّة، الّتي حكمت عمل هذه المؤسّسات والمنظّمات الدوليّة، وكذلك الحكومات، دون أن تشمل إسرائيل، هذا النظام العنصريّ الكولونياليّ، الّذي بفضل الغطاء الأميركيّ والغربيّ مهّد لقدوم حكومة يمينيّة فاشيّة، وانتقال إسرائيل من مرحلة التطهير العرقيّ الخفيّ والسافر، إلى مرحلة الإبادة المكشوفة والفاضحة.
لم تبدأ هذه السياسة بعد طوفان الأقصى الّذي لم يغيّر ميزان القوى، كما أمل من خطّط له، بل ولد حالة عدوانيّة همجيّة في المجتمع الإسرائيليّ غير مسبوقة في حدّتها ودرجتها ضدّ الفلسطينيّين. ليس بالضرورة أن تدوم هذه العدوانيّة، وهذا الشعور بالتفوّق والعدميّة. إذ سيأتي يوم تستيقظ فيه شرائح وازنة من داخل النخب السياسيّة، والمثقّفة، الإسرائيليّة، على تبعات ما ارتكبوه من جرائم بحقّ الإنسانيّة، وتخرجهم من حالة الإنكار؛ إنكار وجود شعب متجذّر في هذه الأرض يفضّل المقاومة والموت على مغادرة مكان مولده وعيشه. ستكتشف هذه الشرائح، مع مرور الوقت، واقع النبذ والعزلة العالميّة الّتي جلبتها قياداتهم على دولتهم.
من نافل القول أنّ فلسطينيّي الـ48 بقوا في وطنهم، وطوّروا تجربتهم الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة الخاصّة، في ظلّ المواطنة الإسرائيليّة، ليس كجزء من تجربة بقيّة تجمّعات الشعب الفلسطينيّ، بل بالتوازي معها. والمواطنة الإسرائيليّة، الّتي فرضت عليهم بعد النكبة، جاءت كشرط من منظّمة الأمم المتّحدة، ضمن شروط أخرى، لاعتراف هذه المنظّمة الدوليّة بالدولة اليهوديّة بموجب قرار التقسيم.
إذًا، فإنّ هذا الجزء من شعب فلسطين عرف كيف يستفيد من المواطنة، وأن يتحرّك على هامش الديمقراطيّة اليهوديّة، موسّعًا مع الزمن هذا الهامش، وصولًا إلى تجذير وجوده ليس الفيزيائيّ فحسب، بل وجوده السياسيّ والثقافيّ أيضًا. وبالتوازي، وبعد انتهاء الحرب الباردة، وبدء مرحلة الاهتمام بحقوق الإنسان والديمقراطيّة، بدأ ممثّلوه بالتوجّه بقضاياه اليوميّة والمدنيّة والسياسيّة إلى المنظّمات الدوليّة، وتحقّقت فتوحات مهمّة، بحيث باتت قضيّة فلسطينيّي الداخل معروفة كقضيّة سياسيّة في أروقة هذه المنظّمات، بعد جهل وتجاهل لعقود. لقد احتاج ذلك إلى اجتهاد وعلم ومعرفة وممارسة وإبداع، أكثر ممّا احتاج إلى شجاعة وبطولة.
مع بدايات حقبة الانفتاح الديمقراطيّ النسبيّ في إسرائيل، وتحديدًا أوائل التسعينات، شرعت جمعيّات مدنيّة وأطر مهنيّة عربيّة بمبادرات ونشاطات لتطوير مسألة المساواة والمواطنة، وصولًا إلى تحدّي المبنى الاثنيّ والعنصريّ للمنظومة الرسميّة الإسرائيليّة، والمطالبة بالمساواة والمواطنة الكاملة. جسّدت هذه المرحلة من العمل القانونيّ والأهليّ والتنظيميّ مرحلة سياسيّة متقدّمة، منذ توقيع اتّفاقيّة أوسلو، التي أخرجت فلسطينيّي الـ48 من تعريف الشعب الفلسطينيّ، فاضطرّهم إلى اجتراح مسارات وخيارات عمل جديدة خاصّة بهم.
إنّ هذا التقدّم السياسيّ والثقافيّ، وتحدّي منظومة العنصريّة البنيويّة، والّذي منح الجماهير الشعبيّة ثقة ذاتيّة كبيرة بقدرتهم على التغيير، أثار حنق المؤسّسة الصهيونيّة، وأعاد بعث آليّات السيطرة القديمة وتجديدها. فأقدمت المؤسّسة الإسرائيليّة على وضع مخطّطات تهدف إلى تجريدهم؛ ممّا حقّقوه من إنجازات ومصادر قوّة، ومن أدوات تأثير قانونيّة وسياسيّة بهدف إخضاعنا مجدّدًا تحت ما يشبه الحكم العسكريّ. ولم تعد المؤسّسة الصهيونيّة تشعر بالحرج، كما كانت تفعل في وقت سابق، حين تتحدّاها بالمطالبة بالمواطنة الكاملة، بل جعلت الدولة اليهوديّة قانونًا رسميًّا لتسدّ أيّ باب يمكن التعبير من خلاله عن هويّة هذا الشعب والمطالبة بحقوقه الديمقراطيّة، ناهيك عن حقوق جماعيّة، كالأرض والهويّة.
أمّا الوجه الآخر للأزمة، فهو سقوط الغرب الأخلاقيّ، وانقلابه على منظومته القانونيّة، الدوليّة، والّذي تمظهر بصورة سافرة في دعم وتبرير حرب الإبادة في غزّة. لقد قامت إسرائيل على أنّها امتداد للحضارة الغربيّة، وقدّمت نفسها على أنّها دولة قانون ومساواة، بين جميع الناس بغضّ النظر عن انتماءاتهم القوميّة أو الدينيّة أو الإثنيّة. الآن، نحن بتنا أمام واقع مختلف، واقع أكثر قتامة وظلمًا وانحرافًا. بتنا نظهر وكأنّه لا حول لنا أمام دولة مارقة.
هذا ما يسعى إليه النظام الإسرائيليّ، ومنظومته الاباديّة والعدوانيّة، أي جعلنا نصل إلى نتيجة أن لا القانون الإسرائيليّ ينفعكم، ولا القانون الدوليّ سيسعفكم.
وهذا هو التحدّي الأكبر الّذي يواجه من هم في موقع صنع القرار، عندنا داخل الخطّ الأخضر.
إنّ التجربة الفلسطينيّة في الساحل والجليل والنقب، تختزن مصادر قويّة، وأدوات تأثير هامّة، ليست مختزلة في الوجود الفيزيائيّ، بل الأهمّ في كوادرهم المهنيّة والمثقّفة والمسيّسة، وخاصّة من الأجيال الشابّة، من باحثين ومثقّفين ومعلّمين ومهندسين وأطبّاء وممرّضين وحرفيّين، وهذه الطاقات هي مادّة عصيان مدنيّ مطلوب منذ زمن بعيد. إنّ هذه الطاقة لم يستخدم إلّا جزءًا بسيطًا من قوّة تأثيرها. والسبب الرئيس هو أنّ الأطر التمثيليّة القطريّة، والكثير من الأطر المدنيّة والأهليّة القائمة متهالكة، ومتقادمة. فيظلّ السؤال؛ ألم يحن الوقت للتفكير والمبادرة والإبداع والانتظام خارج هذه الأطر، وبالتوازي معها وليس بالضدّ منها! أليست المبادرات الفلسطينيّة الحديثة، مثل "مؤتمر الـ14 مليونًا" والمؤتمر الوطنيّ الفلسطينيّ وغيرهما، هذه المبادرات الّتي تتوافق على العمل على إعادة توحيد الشعب الفلسطينيّ من خارج أطر النظام السياسيّ الفلسطينيّ القائم، بشقّيه، مثالًا ملهمًا لحراك شعبيّ مدنيّ مختلف داخل الخطّ الأخضر!
المصدر: عرب 48