استعادة الأثر (1/2): غزّة الزيتونيّة في مذكّرات هارون هاشم رشيد (7)

هذه المادّة هي السابعة من جزءين، وهذا الأوّل منها، من سلسلة بعنوان "استعادة الأثر: غزّة في كتب اليوميّات والمذكّرات والسير". ننشرها تباعًا على شكل مقالات تتضمّن قراءات في كتب يوميّات ومذكّرات وسير ذاتيّة خطّها غزيّون، أو كتبت من غزّة على مدار القرن الماضي ومطلع القرن الحادي والعشرين.
كان ذلك في وضح نهار قائظ من قيظ تمّوز/ يوليو، وبينما "أمّ شكري" داية حارّة الزيتون في مدينة غزّة تهمّ لتناول المولود من أحشاء أمّه، وقطعها الحبل السرّيّ، اهتزّ البيت جرّاء هزّة أرض في أكبر زلزال ضرب البلاد يومها، وذلك في سنة 1927 عام الزلزال الشهير. انتزعت "زلفى" الأخت الكبرى أخاها المولود للتوّ، من بين ذراعي الداية، وجرت به خارجًا، ليكون أوّل ما تفتح عليه عيناه هو ضوء الشمس "ومن يومها وأنا عالق الطرف بالشمس، كاره للظلمة" يقول هارون هاشم رشيد مفتتحا مذكّراته "إبحار لا شطآن: فصول من سيرة ذاتيّة" من جزءين، كانت قد صدرت عن دار مجدلاوي للنشر والتوزيع عام 2004.
في الوقت الّذي ولد فيه هارون في غرفة شبه معتمة على ضوء شمعتين، كان هناك من يجري ليزفّ خبر ولادته إلى أبيه المتضرّع في جامع الشمعة، أحد أبرز معالم حارة الزيتون، ومن أشهر جوامع مدينة غزّة قبل نكبة عام 1948. يبحر رشيد في ذاكرته بحثًا عن طفولته ليؤرّخ من خلالها لجملة من العادات والطقوس الّتي كان يقيمها أهالي تلك الحارة لأطفالهم، مثل "سبوع الطفل" احتفاليّة تذبح لها الذبائح، وتقام فيها الولائم على شرف المولود بعد مرور سبعة أيّام على ولادته، وقد تتولّى فيها القابلة الّتي تولّت ولادته الغناء والهتف، وضربًا على الدفّ كما يقول صاحب المذكّرات عن يوم احتفال سبوعه. كما لا تفوته الإشارة إلى أغاني هدأة الأطفال الّتي كنّ ينشدنها الأمّهات عند نوم أطفالهم في حارة الزيتون، وظلّ صاحب المذكّرات يتذكّر غناء والدته حتّى بعد أن صار يقوم ويمشي على قدميه، بصوتها المنغوم وبشجن حزين يثير كوامن النفس أثناء نخلها الطحين على إحدى مساطب بيتهم.
كانت حارة الزيتون الّتي ولد فيها هارون هاشم رشيد تعتبر حتّى مطلع القرن الماضي مركز مدينة غزّة، عند الأعمدة السبعة. وتنسب الحارة في اسمها إلى غابات الزيتون الّتي كانت تغمر أرضها وتزنر بيوتها كما يقول، قبل أن تأتي الحرب العالميّة الأولى على معظم زيتون الحارة وغزّة عمومًا، إذ تعرّضت الحارة إلى نكبتين؛ الحرب والمعارك الّتي دارت فيها، وقد قضت بيوتها فيها، وزيتونها الّذي قطعه الجند الأتراك لاستخدامه حطبًا للتدفئة أو وقودًا لقطار نقل العسكر والذخائر أثناء الحرب. وظلّت الحارة تحمل اسمها حتّى بعد انحسار زيتونها.
تأخذ حارة الزيتون مكانها حول "العمدان" عند مدخل مدينة غزّة الجنوبيّ يقول رشيد، وبيتهم فيها كان يقع عند ساحة "باب الدارون" باب من أحد أبواب غزّة السبعة التاريخيّة يعدّدها رشيد في مذكّراته. امتدّت حارة الزيتون شمالًا وجنوبًا، وكان لتمدّدها الجهويّ ملامح اجتماعيّة تفصل بين عالمين، حيث سكن الجهة الشماليّة من الحارة الأفنديّة وعائلات ملّاك الأرض وكبار التجّار والصنّاع. بينما في جنوب الحارة كان يقيم الفلاحيّون وأصحاب الكروم والزرّاع والبياريّة والحصادون. وأكثر من ذلك فكلّ نصارى مدينة غزّة كانوا من سكّان حارة الزيتون، فقد عاش المسيحيّون فيها دون أن تسمّى باسمهم أسوة ببعض مدن فلسطين الّتي كانت بعض أحيائها على دين أهلها فيها. وكما كان جامع الشمعة واحدًا من أبرز معالم الحارة، كانت كنيسة الأرثوذكس ودير اللاتين من أبرز معالمها أيضًا. ومن هنا، كانت ذاكرة نضال مسيحيّ مدينة غزّة تسترخي في حارة الزيتون، فقد أشار هارون هاشم رشيد إلى حكاية كلّ من بطرس الصايغ ومعه رفيقه مدحت الوحيدي ودورهما في مقارعة سلطات الاستعمار البريطانيّ في غزّة أيّام الثورة الكبرى 1936-1939.
كانت حارة الزيتون قطعة من التاريخ الغزيّ العريق، فأمام جامع الشمعة وساحة الدارون، أقيمت حوانيت ودكاكين الحارة الّتي كانت تقوم على خدمة احتياجات أهلها، من عطارة وخضار، كما كانت في صدر الحارة دكّان حلّاقها "زكي أبو مرق" والّذي تولّى طهور (ختان) أطفالها. إلى جانب جامع الشمعة، كان يقع فرن حارة الزيتون الّذي لطالما تزاحم أهلها وتزاحمت معهم صواني كعك المعمول على أبوابه في أعياد ومواسم المدينة.
يصف رشيد مداخل حارته من خلال شوارعها الّتي كانت تؤدّي إليها، بدءًا بشارع الدارون المؤدّي إلى خارج القرية من جنوبها عبر "حدرة" أي نزولًا عبر ساقية "حسين" (بركة ماء) في شارع كانت تقع على يمينه ما عرف بـ "زفاق البساتين" ليمضي الشارع جنوبًا وصولًا إلى العمدان. بينما من ساحة الدارون إلى شمال الحارة كانت بيوت يذكرها رشيد مهدّمة وباقية من بقايا الحرب العالميّة الأولى، وقبل أن يتّصل الشارع بشارع عمر المختار أشهر شوارع مدينة غزّة في حينه، يقع البيت الّذي يقال بأنّه ولد فيه ابن غزّة البارّ الإمام الشافعيّ عام 150 من الهجرة الموافق 717 ميلاديّة. صار ذلك الموقع الّذي ولد فيه الإمام الشافعيّ يعرف لدى الغزيّين حتّى القرن العشرين بموقع "الشيخ عطيّة"، وبالقرب منه كانت تقع "مطحنة النديم"، وفي الناحية المقابلة منهما كان يقع "حمّام السمرة" نسبة إلى سمرة يهود غزّة فيها، ثمّ "خان الزيت" وبعد الخان، شارع السروجيّة، زقاق كانت تصنع وتباع فيه سروج الخيل.
أمّا من شرق ساحة الدارون من حارة الزيتون، فكان الشارع يؤدّي إلى "الكماليّة" ثمّ إلى "ساحة العيد" الّتي كانت تقام فيها احتفالات عيدي الفطر والأضحى، وبالقرب من الساحة كان يقع "المسلخ" الّذي كانت تذبح فيه ذبائح مدينة غزّة. كما يتفرّع من باب الدارون وساحته، عدّة أزقّة، منها زقاق "الغلاييني" الّذي كانت تسكنه معظم العائلات المسيحيّة مثل: الترزّي والصايغ وشحيبر والخوري وسابا وظريفة، والمجاورة للعائلات المسلمة في الحارة. ثمّ زقاق آخر بعده يؤدّي إلى "رأس الطالع" حيث كنيسة الأرثوذكس، وجامع كاتب الولاية متجاوران متعانقان بحسب ما يصف صاحب المذكّرات.
في زقاق "الشيخ زمو" المتفرّع من الشارع الشماليّ المؤدّي إلى شارع عمر المختار، كان يقع كتاب الشيخ زمو الّذي كان أوّل ما غادر رشيد بيته إليه طفلًا في رحلته التعليميّة الأولى، والكتاب أحد أبرز معالم حارّة الزيتونة الّذي ظلّ بقصده أولاد الحارة لفكّ الحروف الأولى حتّى أربعينيّات القرن العشرين. الشيخ زمو وهو شيخ الكتاب بحسب ما ظلّ يتذكّره رشيد، كان بقايا إنسان، مشلول اليدين والرجلين، وأقوى ما فيه عينان زرقاوان تدوران وتلجان في حدقتهما، بينما باقي جسده يندسّ في جلبابه الفضفاض بحسب ما يصفه رشيد يجلس على كرسيّه كما لو أنّه متربّعًا عليه يدور يمينًا ويسارًا بما تبقّى من جسده، في محاولة منه للاستعاضة عن غياب يديه منه. وإلى جوار الشيخ زمو وكرسيّه، كرسيّ آخر أصغر منه لشيخ آخر كفيف بجسد ضخم وبكرشه المتدلّي أمامه، وقد علت رأسه عمامة، التفت على طربوش لونه أحمر، وإلى جواره عصًا غليظة كانت تمتدّ أمامه أيضًا. كانا شيخان، الأوّل كلّ ما تبقّى منه عينان مشعّتان، والثاني، كلّ ما أخذ منه عيناه المنطفأتان، ليجد بهما رشيد منذ زارهما طفلًا لأوّل مرّة كأنّهما يكمل كلّ منهما الآخر، أو ينوب عنه في مهمّة العضو الّذي يفتقده الآخر.
لم يترك هارون هاشم رشيد معلمًا من حارته حارّة الزيتون ولا طقس أو شعيرة اتّبعهما أهلها فيها، إلّا وجاء على ذكرها في مذكّراته، فبالإضافة إلى ما سبق تناوله، يحدّثنا رشيد عن أحواش حارة الزيتونة في خربة قديمة كانت تحيط بالحارة، وعن مقصف "أبو الروم" لبيع الطحل والكبب والكلاوي. ونباتات وزهور حدائق وحواكير بيوت الحارة منها: الـ "حسن يوسف" و "حنك السمكة"، وكذلك "أصابع زينب" أكثر سكاكر الأطفال رواجًا في مدينة غزّة. "أم شكري" داية حارة الزيتون، والحاجة "أمّ سلطانة" مطبّبة الحارة الشعبيّة. و "أبونا سليمان" في دير اللاتين. عن "الطلقة" أي انطلاقة حصّادي الحارة من فلاحيها إلى حصاد محاصيلهم وأغانيهم بعد وأثناء حصدها، وبعدها في طقوس "صليبة القمح"، وعن طقوس وشعائر مواسم وخمسان غزّة "خميس باب الدارون" و"خميس المنطار" الغزيّ الشهير، و "خميس السيّد هاشم"… عن كلّ ذلك يستحضر رشيد في الجزء الأوّل من مذكّراته ذاكرة حارته الزيتون بما اكتنفته من معالم وعوالم، ففي الوقت الّذي كان يشبّ فيه رشيد عن طوق طفولته، كانت حارته الزيتون تشيب لتشيخ ذاكرة لمدينة غزّة.
المصدر: عرب 48