Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

القوّة الأميركيّة في العصر الجديد للقوميّة: أي عالم يريده ترامب؟

اكتسبت العولمةُ خلال العقدين اللذين أعقبا نهاية الحرب الباردة زخمًا أكبرَ على حِساب النزعةِ القومية. كما طغى في الوقت الآن ذاتهِ ظهور أنظمة وشبكات يتزايد تعقيدها يومًا بعد يوم، على المستوى المؤسسي والمالي والتكنولوجي، على الدور المُفرَد في السياسة. بيد أن تحولًا عميقًا قد بدأ في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ونجحت مجموعة من الشخصيات الكاريزمية، ومن خلال تعلم كيفية تسخير أدوات هذا القرن، في إحياء نماذج القرن السابق: الزَّعيم القويّ، والأمّة العَظِيمَة، والحَضارةُ الفَخورة.

ويمكن القول إن التحول بدأ في روسيا. أنهى فلاديمير پوتن في عام 2012 تجربة قصيرة ترك خلالها الرئاسة، وقضى أربع سنوات رئيسًا للوزراء بينما كان حليفه المخلص يشغل منصب الرئيس. عادَ پوتن إلى منصبهِ الأعلى وعزّز سلطته، وسحقَ المعارضة كلها، وكرَّس نفسه لإعادة بناء «العالم الروسي»، ولاستعادة مكانة القوة العظمى لروسيا، والتي تبخَّرت مع سقوط الاتحاد السوڤييتي، ومقاومة هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها. ووصل بعد عامين من تاريخه شي جين بينغ إلى رئاسة الصّين. وكانت أهدافه تشبه أهداف پوتن، ولكنها أعظم بكثير من حيث النطاق، وكانت الصين تتمتع بقدرات أعظم بكثير. وفي عام 2014، أكمل ناريندرا مودي، الرجل ذو التطلعات الواسعة للهند، صعوده السياسي الطويل إلى منصب رئيسالوزراء،ء وأسَّس القومية الهندوسية بوصفها أيديولوجيا مُهيمنة في الهند. وأصبح، في العام نفسه، رجب طيب أردوغان، الذي أمضى ما يزيد قليلًا على عقد من الزمان في منصب رئيس وزراء تركيا العنيد، رئيسًا لتركيا. ونجح أردوغان خلال وقتٍ قصيرٍ في تحويل المظاهر الديمقراطية المتنوعةِ في بلاده إلى مشهدٍ أوتوقراطيّ يسيطر عليه رجل واحد.

ولعلَّ اللحظةَ الأكثر أهمية في هذا الصدد حدثت في عام 2016 بفوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأميركية. بيد إنّ ترامب كان قد وعد بـ «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» ورفع شعار «أميركا أولًا»، وهو من الشعارات التي تجسد روح الشعبوية والقومية المناهضة للعولمة التي كانت تتغلغل داخل الغرب وخارجهِ، حتّى مع ترسّخ النّظام الدولي الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة ونموِّه. لم يكن ترامب يركب موجة عالميّة فحسب، بل استمدّ رؤيتَه لدور الولايات المتحدة في العالم من مصادر أميركية على وجه التحديد، وكانت موارده أقرب لحركة معاداة الشيوعية اليمينية في الخمسينيات، وأقل من حركة «أميركا أولًا» الأصلية التي بلغت ذروتها في ثلاثينيات القرن العشرين.

بدا أن خسارة ترامب أمام جو بايدن في السباق الرئاسي لعام 2020، لفترة من الوقت، بمثابة إشارة إلى التعافي من هذه الموجة، إذ كانت الولايات المتحدة تستعيد موقعها الذي كانت تتمتع به بعد الحرب الباردة، حيث كانت مستعدة لدعم النِّظام الليبرالي ووقف المد الشعبوي. أما الآن وفي أعقاب العودة غير العادية لترامب، يبدو أن بايدن (لا ترامب) الذي كان على الأرجح فاصلًا تحويليًا. لقد أصبح ترامب ومن على شاكلته في منابر العظمة القومية هُم من يضعونَ الآن الأجندة العالمية. هُم من يُطلقون على أنفسهم لقب الرجال الأقوياء، والذين لا يضعون أي ثقة في الأنظمة القائمة على القواعد، أو التحالفات، أو المنتديات متعددة الجنسيات. هم الذين يحظون بالمجد الحالي والمستقبلي للدول التي يحكمونها، ويؤكّدون على امتلاكهم لتفويض شبه روحي لحُكمهم. ورغم انطواءِ برامجهم على تغييرات جذرية، تعتمدُ إستراتيجياتهم السياسية على تيّارات من المحافظة [السياسية]، وتكون جذَّابة أكثرُ من النخب الليبرالية والحضرية والعالمية إلى دوائر انتخابية تحركها الرغبة في التقاليد والرغبة في الانتماء.

تستحضر هذه القيادات ورؤاها، في بعض النواحي، «صراع الحضارات» الذي تصوَّره من خلالهِ عالِم السّياسة صموئيل هنتنغتون، في كتاباته في أوائل تسعينيات القرن العشرين، أنه من شأنه أن يؤدّي إلى الصراع العالمي بعد الحرب الباردة. غير أنهم يفعلون ذلك بطريقة غالبًا ما تكون أدائية ومرنة بدلًا من أن تكون قاطعة ومتعصّبة. إنها نسخة مخففة من صراعِ الحضارات: سلسلة من الإيماءات وأسلوب قيادي يعيد تشكيل المنافسة (والتعاون) على المصالح الاقتصادية والجيوسياسية، كصراع بين دول-حضارات متنافسة.

يكون هذا الصّراعُ بلاغيًا في بعض الأحيان، ما يسمح للقادة بتوظيف لغة الحضارة وسردياتها دون الاضطرار إلى الالتزام حرفيًا برؤية هنتنغتون أو بالتقسيمات التبسيطية التي تنبأ بها إلى حد ما. (فروسيا الأرثوذكسية تخوض حربًا ضد أوكرانيا الأرثوذكسية، وليس ضدّ تُركيا المسلمة). قُدِّم ترامب في مؤتمر الحزب الجمهوري لعام 2020 باعتباره «الحارس للحضارة الغربية». لقد بَلْوَرت قيادة الكرملين فِكرة روسيا لوصفها «دولة-حضارة»، واستخدمت المصطلح لتبرير جهودها للسيطرة على بيلاروسيا وإخضاع أوكرانيا. ووصف مودي الديمقراطية في قمة الديمقراطية لعام 2024، بأنها «شريان الحياة للحضارة الهندية». وفي خطاب ألقاه عام 2020، أعلن أردوغان أن «حضارتنا هي حضارة الفتح». وأشادَ الزعيم الصيني شي جين بينغ في خطاب ألقاه عام 2023 أمام اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني بفضائل مشروع بحثي وطني حول أصول الحضارة الصينية، والتي وصفها بأنّها «الحضارة العظيمة الوحيدة المتواصلة، والتي تستمر حتى يومنا هذا في شكل دولة».

وسوف يعتمد شكل النظم الذي يصوغه هؤلاء الزعماء، في السنوات القادمة، إلى حد كبير على ولاية ترامب الثانية. شجّع النّظام الذي قادته الولايات المتحدة على ظُهور البِنى فوق الوطنية (Supranational Structures) في أعقاب الحرب الباردة. والآن بعد أن انضمت الولايات المتحدة إلى جوقةِ الأمم في القرن الحادي والعشرين، فستتولى في كثير من الأحيان مهمة تحديد اللحن. ومع وجود ترامب في السلطة، فستقضي الحكمة التقليدية في أنقرة وبكين وموسكو ونيودلهي وواشنطن (والعديد من العواصم الأخرى) بأنه لا يوجد نظام واحد ولا مجموعة متفق عليها من القواعد. وفي هذا المشهد الجيوسياسي، ستتراجع فكرة «الغرب» الهشّة بالفعل إلى أبعد من ذلك، وبالتالي سيتراجع أيضًا وضع أوروبا، التي كانت في حقبة ما بعد الحرب الباردة شريكة واشنطن في تمثيل «العالم الغربي». اعتادت الدول الأوروبية على توقع الزعامة الأميركية في أوروبا وعلى النّظام القائم على القواعد (ليس بالضرورة من الطراز الأميركي) خارجها. سوف يقع تعزيز هذا النظام، الذي انهار لسنوات، على عاتق أوروبا، وهي اتحاد فضفاض من الدول بلا جيش، ولديه قوة صلبة منظمة محدودة، وتشهد بلدانها فترة من ضعفٍ حادٍّ في القيادة.

لدى إدارة ترامب القدرة على النجاح في نظام دولي مُعدّل تشكّل على مدى سنوات. غير أنّ الولايات المتحدة لن تزدهر إلّا إِذا أدركت واشنطن خطر تداخل العديد من خطوط القومية المتقاطعة، وعملت على تحييد هذه المخاطر من خلال دبلوماسية صبورة ومنفتحة. وينبغي لترامب وفريقه النّظر إلى إدارة الصراع باعتباره شرطًا أساسيًا لعظمة أميركا، وليس عائقًا أمامها.

الجذور الحقيقية للترامبية

غالبًا ما يُخطئ المحللون في نسب أصول السياسة الخارجية لترامب إلى فترة ما بين الحربين العالميتين. فعندما ازدهرت حركة «أميركا أولًا» الأصلية في ثلاثينيات القرن العشرين، كانت الولايات المتحدة تمتلك جيشًا متواضعًا، ولم تكن تتمتع بوضع القوة العظمى. كان أنصار مبدأ أميركا أولًا يسعون، قبل أي شيء آخر، إلى الإبقاء على هذا الوضع، وتجنب النّزاعات. في حين يعتز ترامب بمكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى، كما أكد مرارًا وتكرارًا في خطاب تنصيبه الثاني. ومن المؤكد أنه سيزيد الإنفاق العسكري، وقد أثبت بالفعل من خلال التهديد بالاستيلاء على غرينلاند أو الاستحواذ عليها بطريقة أخرى وكذلك عبر تصريحاته عن قناة بنما، أنه لن يتراجع عن خوض النّزاعات. يريد ترامب تقليص التزامات واشنطن تجاه المؤسسات الدولية وتضييق نطاق التحالفات الأميركية، لكنه بالكاد مهتم بالإشراف على انسحاب أمريكي من المسرح العالمي.

تعود الجذور الحقيقية لسياسة ترامب الخارجية إلى خمسينيات القرن العشرين. تنبثق هذه التوجهات من موجة معاداة الشيوعية التي سادت في ذلك العقد، ولكن ليس في نسختها الليبرالية التي ركزت على تعزيز الديمقراطية، والمهارات التكنوقراطية، والنزعة الدولية النشطة، والتي دافع عنها الرؤساء هاري ترومان ودوايت أيزنهاور، وجون كينيدي في مواجهة التهديد السوڤييتي. تنبع رؤية ترامب من الحركات اليمينية المناهضة للشيوعية في الخمسينيات من القرن العشرين، والتي حرضت الغرب ضد أعدائه، واستندت إلى الدوافع الدينية، وكانت تحمل شكوكًا في الليبرالية الأميركية باعتبارها ضعيفة للغاية، وما بعد وطنية للغاية، وعلمانية للغاية بحيث لا يمكنها حماية البلاد

يرتبطُ هذا الإرث السياسي بثلاثة كتب. أولًا جاء كتاب Witness (الشَّاهِد) للصحفي الأميركي ويتاكر تشامبرز، وهو جاسوس شيوعي سابق وجاسوس سوڤييتي انفصل عن الحزب في وقتٍ لاحق وأصبح محافظًا سياسيًا. وكان كتاب الشَّاهِد الذي أصدره في عام 1952 عبارة عن مانفيستو حول رفاقه الليبراليين الأميركيين وخيانتهم، الأمر الذي شجّع موقف الاتحاد السوڤييتي. وقد كانت رؤية مماثلة هي الدافع وراء جيمس بيرنهام، المفكر المحافظ البارز في مجال السياسة الخارجية في فترة ما بعد الحرب. انتقد في كتابه الصادر عام 1964 تحت عنوان Suicide of the West (انتحار الغرب) مؤسسة السياسة الخارجية الأميركية؛ بسبب عدم ولائها المتغطرس وتمسكها «بمبادئ دولية وعالمية وليس محلية أو وطنية». ودعا بيرنهام إلى سياسة خارجية تستندُ إلى «الأسرة والمجتمع والكنيسة والوطن، وعلى أبعد تقدير إلى الحضارة، ليس الحضارة بوجه عام، بل هذه الحضارة المحددة تاريخيًا التي أنتمي إليها».

وكان أحد خلفاء بيرنهام الفكريين صحفيًا شابًا يدعى بات بوكانان. دعم بوكانان باري غولدووتر في الانتخابات الرئاسية في عام 1964، وكان مساعدًا للرئيس ريتشارد نيكسون، ثم أطلق في عام 1992 تحديًا هائلًا للرئيس الجمهوري آنذاك جورج بوش الأب. تُعد أفكار بوكانان الأقرب إلى التنبؤ بظهور حقبة ترامب. نشر بوكانان في عام 2002، كتاب The Death of the West (موت الغرب)، حيث لاحظ أن «البيض الفقراء يتجهون نحو اليمين» وزعم أن «الرأسمالي العالمي والمحافظ الحقيقي هما قابيل وهابيل». وعلى الرغم من عنوان الكتاب، فإن بوكانان كان لديه بعض الأمل في الغرب (بمعناه القائم على الثنائية بين نحن وهم) وكان واثقًا من الانهيار الوشيك للعولمة، وكتبَ «لأنها مشروع النخبة، ولأن مهندسيها غير معروفين وغير محبوبين، فإن العولمة سوف تتحطم مصطدمةً في الحاجز المرجاني العظيم للوطنية».

لم يستوعب ترامب هذا التقليد المحافظ الممتد لعقود من خلال دراسة شخصيات مثل تشامبرز، وبرنهام، وبوكانان، بل من خلال الغريزة والارتجال على مسار حملته الانتخابية. وكما هو الحال مع هؤلاء المنظرين المحافظين—الذين كانوا من الخارجين عن النظام، لكنهم مفتونون بالسلطة—يهوى ترامب تحطيم الأيقونات وإحداث القطيعة مع الماضي، ويسعى لقلب الوضع القائم، ويحتقر النخب الليبرالية وخبراء السياسة الخارجية. قد يبدو ترامب وريثًا غير محتمل لهؤلاء الرجال والحركات التي شكلوها، والتي كانت مليئة بالأخلاق المسيحية، وفي بعض الأحيان بالنخبوية. ولكنه نجح بذكاء ونجاح في تصوير نفسه ليس باعتباره نموذجًا راقيًا للفضائل الثقافية والحضارية الغربية، بل باعتباره المدافع الأكثر صلابة عنها في مواجهة الأعداء من الداخل والخارج.

التوسعيون

يتماشى نفور ترامب من النزعة الدولية الشاملة مع مواقف كل من پوتن وشي ومودي وأردوغان. يتقاسم هؤلاء الزعماء الخمسة في تقديرهم لحدود السياسة الخارجية، وفي شعورهم القِلق بعدم القدرة على الوقوف مكتوفي الأيدي. يضغطون جميعًا من أجل التغيير، في حين يعملون ضمن معايير معينة فرضوها على أنفسهم. لا يحاول پوتن إضفاء الطابع الروسي على الشرق الأوسط. ولا يحاول شي إعادة تشكيل أفريقيا أو أميركا اللاتينية أو الشرق الأوسط على صورة الصين. ولا يحاول مودي بناء نسخة بديلة من الهند في الخارج. ولا يدفع أردوغان إيران أو العالم العربي إلى أن يصبحا أكثر تركيةً. كما أن ترامب غير مهتم بجعل الأمركة في أجندة السياسة الخارجية. فتصوره للاستثنائية الأميركية يفصل الولايات المتحدة عن العالم الخارجي غير الأميركي بطبيعته.

يمكن للنزعة التوسعية أن تتعايش مع هذا النفور الجماعي من بنية النظام العالمي، ومع التآكل التدريجي للنظام الدولي. بالنسبة لشي، فإن التاريخ والقوة الصينية —وليس ميثاق الأمم المتحدة أو تفضيلات واشنطن — هما الحكمان الحقيقيان لوضع تايوان، فالصين هي كل ما يقوله شي. ورغم أن الهند لا تقع بالقرب من نقطة اشتعال عالمية مثل تايوان، فإنها تواصل التقاضي بشأن حدودها مع الصين وباكستان، والتي ظلت دون حل منذ أن حصلت الهند على استقلالها في عام 1947. وتنتهي الهند حيث يقول مودي إنها تنتهي.

أمّا التوسعية التي يتبناها أردوغان فهي أكثر حرفية. فقد سهلت تركيا عملية طرد أذربيجان للأرمن من إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه، ليس من خلال المفاوضات، ولكن من خلال القوة العسكرية، وذلك ومن أجل تحقيق مصلحة حلفائها في أذربيجان. ولم تكن عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي، التي تستلزم التزامًا رسميًا بالديمقراطية وسلامة الحدود، عائقًا أمام أردوغان. كما عزّزت تركيا وجودها العسكري في سوريا. وهذا ليس إعادة بناء للإمبراطورية العثمانية تمامًا، فأردوغان لا يهدف إلى الاحتفاظ بالأراضي السورية إلى الأبد، بيد أن المشاريع العسكرية والسياسية التركية في جنوب القوقاز والشرق الأوسط تحمل دلالات تاريخية بالنسبة لأردوغان. فهي دليلٌ على عظمة تركيا، وتؤكِّد أن تركيا ستكون حيثما يقول أردوغان أنها ينبغي أن تكون.

وفي خضم هذا المد المتصاعد للنزعة التوسعية، تظل حرب روسيا ضد أوكرانيا القصة المحورية. باسم "عظمة" روسيا، وترؤسه بلدًا لا نهاية له في عينيه، أصبحت خطابات پوتن مليئة بالإشارات التاريخية. وقد قال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف مازحا ذات مرة إن أقرب مستشاري پوتن هم «إيفان الرهيب، وبطرس الأكبر، وكاترين العظيمة». لكن ما يشغل بوتين حقًا ليس الماضي، بل المستقبل. فقد شكل الغزو الروسي عام 2022 نقطة تحول جيوسياسية شبيهة بتلك التي شهدها العالم في أعوام 1914 و1939 و1989. شن پوتن الحرب لتقسيم أوكرانيا أو استعمارها، وكان يهدف من الغزو إلى ترسيخ سابقة تبرر شن حروب مماثلة في ساحات أخرى، وربما إغراء قوى أخرى (بما في ذلك الصين) باستكشاف إمكانيات المغامرات العسكرية الهدامة. لقد أعاد پوتن كتابة القواعد، ولم يتوقف عن القيام بذلك: فمهما كانت نتيجة الغزو سيئة بالنسبة لروسيا، فإنه لم يؤد إلى عزلتها العالمية. لقد أعاد پوتن تطبيع فكرة الحرب واسعة النطاق بوصفها وسيلة للاستحواذ على مزيدٍ من الأراضي. وقد فعل ذلك في أوروبا، التي كانت في يوم من الأيام تجسيدًا للنظام الدولي المبني على القواعد.

غير إن الحرب في أوكرانيا لا تنذر بأي حال من الأحوال بموت الدبلوماسية الدولية، بل إنها في بعض النواحي، أعادت تنشيطها. على سبيل المثال، أصبحت مجموعة البريكس، التي تربط رسميًا الصين والهند وروسيا (إلى جانب البرازيل وجنوب أفريقيا ودول أخرى غير غربية)، أكبر حجمًا وربما أكثر تماسكًا. ومن ناحية أخرى، أصبح تحالف الداعمين لأوكرانيا أكبر بكثير من التحالف عبر الأطلسي، ليشمل أستراليا واليابان ونيوزيلندا وسنغافورة وكوريا الجنوبية. التعددية حية وبصحة جيدة، ولكنها ليست شاملة.

تصبح العلاقات في هذا المشهد الجيوسياسي المتبدل متغيرة ومعقدة. لقد بنى پوتن وشي شراكة، ولكن ليس تحالفًا حقيقيًا. ليس لدى شي أي سبب يدفعه إلى تقليد قطيعة پوتن المتهور مع أوروبا والولايات المتحدة. ورغم كونهما متنافستين، فإن روسيا وتركيا تستطيعان على الأقل تفادي الصراع فيما يتصل بأفعالهما في الشرق الأوسط وجنوب القوقاز. تنظر الهند إلى الصين بعين القلق. وبالرغم من أنّ بعض المحللين يصفون الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا بأنها تشكل «محورًا»، فإنها أربع دول مختلفة تمام الاختلاف، وكثيرًا ما تتباين مصالحها ووجهات نظرها حول العالم.

تُركِّز السياسات الخارجية لهذه الدّول على التاريخ والتفرّد، وعلى فكرة أن الزعماء الكاريزمايين يجب أن يدافعوا بشجاعة عن المصالح الروسية أو الصينية أو الهندية أو التركية. وهذا يقوِّض احتمالية تقاربهم، ويجعل من الصعب عليهم تشكيل محاور مستقرة. فالمحور يتطلب التنسيق، وفي حين أنّ التفاعل بين هذه الدّول يتسم بالسيولة والتعاملات النفعية، وهو مدفوع بشخصيات القادة. لا يوجد شيء واضح أو غير قابل للتغيير أو غير قابل للتفاوض.

تناسب هذه البيئة ترامب تمامًا. فهو ليس مقيدًا بإفراط بالانقسامات الدينية والثقافية، وغالبًا ما يفضّل الأفراد على الحكومات والعلاقات الشخصية على التحالفات الرسمية. وعلى الرغم من أن ألمانيا حليف للولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي، وروسيا عدو دائم، فقد اصطدم ترامب مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في ولايته الأولى وعامل پوتن باحترام. الدول التي يتصارع معها ترامب أكثر من غيرها هي تلك التي تقع في الغرب. لو عاش هنتنغتون ليرى هذا، لكان قد وجده محيرًا.

رؤية للحرب

كان المشهد الدولي في فترة ولاية ترامب الأولى هادئًا نسبيًا. لم تكن هناك حروب كبرى. بدا أنّ روسيا قد احتويت في أوكرانيا. وبدا أن الشرق الأوسط يدخل فترة من الاستقرار النسبي، ساهمت فيه جزئيًا اتفاقيات أبراهام التي أبرمتها إدارة ترامب، وهي تهدف إلى تعزيز النظام الإقليمي. وبدا أنّ الصين يمكن ردعها في تايوان، ولم تقترب أبدًا من الإقدام عليه، وعلى الرغم من خطابه التصعيدي أحيانًا، فقد تصرف ترامب، في أفعاله إن لم يكن دائمًا في أقواله، كرئيس جمهوري تقليدي. كما عمل على زيادة الالتزامات الدفاعية الأميركية تجاه أوروبا، من خلال الترحيب بدولتين جديدتين في حلف شمال الأطلسي. ولم يبرم أية صفقات مع روسيا. وتبنّى خطابًا شديدًا مع الصين، وسعى لتحقيق مكاسب في الشرق الأوسط.

أمَّا اليوم، فتدور حرب كبرى في أوروبا، والشرق الأوسط في حالة من الفوضى، والنّظام الدولي القديم في حالة يرثى لها. وقدّ يؤدّي التقاء العوامل إلى كارثة: المزيد من تآكل القواعد والحدود، والتصادم بين مؤسسات العظمة القومية المتباينة التي يغذيها زعماء متقلبو المزاج والاتصالات السريعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتزايد اليأس بين الدول المتوسطة والصغيرة، التي تسخط على الامتيازات غير المقيدة للقوى العظمى، وتشعر بالخطر بسبب عواقب الفوضى الدولية. ومن المرجح أن تندلع كارثة في أوكرانيا أكثر من تايوان أو الشرق الأوسط، لأن احتمالات اندلاع حرب عالمية وحرب نووية أعظم في أوكرانيا.

وحتى في النظام القائم على القواعد، لم تكن سلامة الحدود أمرًا مطلقًا، لا سيمّا حدود البلدان المجاورة لروسيا. ولكن منذ نهاية الحرب الباردة، ظلّت أوروبا والولايات المتحدة ملتزمتين بمبدأ السيادة الإقليمية. يعكسُ استثمارهم الضخم في أوكرانيا رؤية مميزة للأمن الأوروبي: إذا كان من الممكن تغيير الحدود بالقوة، فإن أوروبا، حيث شكَّلت الحدود في كثير من الأحيان سببًا للنزاع، سوف تنزلق إلى حرب شاملة. لا يمكن تحقيق السلام في أوروبا إلّا إذا لم تكن الحدود سهلة التغيير. أكّد ترامب في ولايته الأولى على أهمية السيادة الإقليمية، ووعد ببناء «جدار كبير وجميل» على طول الحدود الأميركية مع المكسيك. لكن في تلك الفترة الأولى، لم يكن ترامب مضطرًا للتعامل مع حرب كبرى في أوروبا. ومن الواضح الآن أنّ إيمانه بقدسية الحدود ينطبق في المقام الأول على حدود الولايات المتحدة.

تُبدي الصين والهند في الوقت نفسه تحفظات بشأن الحرب الروسية، لكنهما، إلى جانب البرازيل والفلبين والعديد من القوى الإقليمية الأخرى، اتخذت قرارًا بعيد المدى بالاحتفاظ بعلاقاتها مع روسيا حتى في الوقت الذي يعمل فيه پوتن جاهدًا على تدمير أوكرانيا. ليست السيادة الأوكرانية ذات أهمية بالنسبة لهذه الدّول «المحايدة»، إذ تبدو [السيادة الأوكرانية] أقل أهمية مقارنة بقيمة روسيا المستقرة في عهد پوتن وقيمة الصفقات المستمرة في مجال الطاقة والأسلحة.

وقد تستهين هذه الدّول بالمخاطر النّاجمة عن قبول النزعة التوسَّعية الروسية، التي قد لا تؤدي إلى الاستقرار، بل إلى حرب أوسع نطاقًا. إن مشهد أوكرانيا المقسمة أو المهزومة من شأنه أن يثير الرعب في قلوب جيران أوكرانيا. فإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا أعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) يشعرون بالارتياح لالتزام الحلف المنصوص عليه في المادة الخامسة بالدفاع المشترك. ولكن المادة الخامسة من المعاهدة تحظى بموافقة الولايات المتحدة، والولايات المتحدة بعيدة كل البعد عن ذلك. وإذا خلصت بولندا وجمهوريات البلطيق أن أوكرانيا على وشك الهزيمة بطريقة تهدد سيادتها للخطر، فقد تختار الانضمام إلى القتال بصورة مباشرة. وقد ترد روسيا بنقل الحرب إليهم. وقد تنجم نتيجة مماثلة عن صفقة كبرى بين واشنطن ودول أوروبا الغربية وموسكو تنهي الحرب بشروط روسية، ولكنها ستخلّف تأثيرًا متطرفًا على جيران أوكرانيا. في ظل الخوف من العدوان الروسي من جهة، وإمكانية التخلي عن الحلفاء من جهة أخرى، قد تتخذ هذه الدول موقفًا هجوميًا. وحتى لو بقيت الولايات المتحدة على الهامش في حرب أوروبية واسعة النطاق، فمن غير المرجح أن تظل فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة محايدة.

وإذا اتسعت نطاق في أوكرانيا بهذه الطريقة، فستؤثر نتائجها تأثيرًا كبيرًا على سمعة ترامب وپوتن. وكما هو الحال في كثير من الشؤون الدولية، سيكون للغرور دور كبير. فكما أن پوتن لا يستطيع تحمّل خسارة حرب ضدّ أوكرانيا، فإن ترامب لا يستطيع تحمل «خسارة» أوروبا. إن إهدار الرخاء والقوة التي تكتسبها الولايات المتحدة من وجودها العسكري في أوروبا سيكون مهينًا لأي رئيس أميركي. وسوف تكون الحوافز النفسية للتصعيد قوية. وفي نظام دولي يتسم بشخصنة شديدة، وخاصّة في ظل تأثره بدبلوماسية رقمية غير منضبطة، فإنّ مثل هذه الديناميكية قد تمتدُ إلى أماكن أخرى. وقد تؤدي إلى إشعال فتيل العداء بين الصين والهند، أو بين روسيا وتركيا.

رؤية للسلام

يجدر النظر في كيفية إمكانية أن تُسهم ولاية ترامب الثانية في تحسين الوضع الدولي المتدهور، إلى جانب مثل هذه السيناريوهات الأسوأ. فقد يؤدّي الجمع بين العلاقات الأميركية المُتقنة مع بكين وموسكو، والنهج الخاطِف للدبلوماسية في واشنطن، ومع قليل من الحظ الإستراتيجي، إلى تحسين الوضع القائم، حتى وإن لم يسفر عن تغييرات كبرى. ليس إنهاء الحرب في أوكرانيا، بل تخفيض حدتها. وليس حل معضلة تايوان، بل وضع ضوابط تحول دون اندلاع حرب كبرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وليس حل النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، بل تحقيق نوع من التهدئة بين الولايات المتحدة وإيران الضعيفة، مع ظهور حكومة قابلة للاستمرار في سوريا. قد لا يصبح ترامب صانع سلام غير مشروط، لكنه قد يساعد في تهيئة عالم أقل تمزقًا بالحروب.

كان على روسيا والصين في عهد بايدن، ومن سبقه من الرؤساء باراك أوباما وجورج دبليو بوش أن تتعاملا مع ضغوط منهجية من واشنطن. لقد وقفت موسكو وبكين خارج النظام الدولي الليبرالي جزئيًا باختيارهما وجزئيًا؛ لأنهما ليستا ديمقراطيتين. وقد بالغ الزعماء الروس والصينيون في تضخيم هذه الضغوط، وكأن تغيير النظام هو السياسة الفعلية للولايات المتحدة، ولكنهم لم يكونوا مخطئين في اكتشاف تفضيل في واشنطن للتعددية السياسية والحريات المدنية وفصل السلطات.

ومع عودة ترامب إلى منصبه، تبددت هذه الضغوط. ولا يشغل بال ترامب، الذي يعتبر رفضه لبناء الدول وتغيير الأنظمة رفضًا مطلقًا، شكل الحكومات في روسيا والصين. ورغم أن مصادر التوتر ما تزال قائمة، فإن الأجواء العامة ستكون أقل احتقانًا، مما قد يتيح المزيد من التبادلات الدبلوماسية. وقد يصبح هناك مجال أكبر للمساومات داخل مثلث بكين-وموسكو-وواشنطن، والمزيد من التنازلات في القضايا الصغيرة، وانفتاح أكبر على التفاوض وتدابير بناء الثقة في مناطق الحرب والنزاع.

إذا تمكن ترامب وفريقه من تبنّيها، فإن الدبلوماسية المرنة —إدارة التوترات المستمرة والصراعات المتجددة بمهارة— قد تؤتي ثمارها النّاضجة. يُعد ترامب أقل الرؤساء ويلسونية منذ وودرو ويلسون نفسه. إذ لا يرى جدوى من الهياكل الشاملة للتعاون الدولي، مثل الأمم المتحدة أو منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. وبدلًا من ذلك، قد يتعامل هو ومستشاروه، وخاصة أولئك القادمين من عالم التكنولوجيا، مع المسرح العالمي بعقلية الشركات الناشئة، فقد شُكّلت شراكة جديدة للتّو، وربما تُحَلّ قريبًا، ولكنها قادرة على الاستجابة بسرعة وإبداع لظروف اللحظة.

وستكون أوكرانيا بمثابة أول اختبار لهذه السياسة. فبدلاً من السعي لتحقيق سلام متسرع، ينبغي على إدارة ترامب أن تظل مركزة على حماية السيادة الأوكرانية، التي لن يقبل بها پوتن أبدًا. السماح لروسيا بتقويض سيادة أوكرانيا قد يوفر واجهة زائفة للاستقرار، لكنه قد يؤدي إلى نشوب حرب لاحقًا. وبدلاً من البحث عن سلام وهمي، ينبغي على واشنطن مساعدة أوكرانيا في تحديد قواعد الاشتباك مع روسيا، ومن خلال هذه القواعد، يمكن تقليص الحرب تدريجيًا. وعندها ستتمكن الولايات المتحدة من تقسيم علاقاتها مع روسيا، كما فعلت مع الاتحاد السوڤييتي طوال الحرب الباردة، حيث اتفقت على الاختلاف بشأن أوكرانيا في حين بحثت عن نقاط اتفاق محتملة بشأن منع الانتشار النووي، والحد من الأسلحة، وتغير المناخ، والأوبئة، ومكافحة الإرهاب، والقطب الشمالي، واستكشاف الفضاء. من شأن تقسيم الصراع مع روسيا أن يخدم مصلحة أساسية للولايات المتحدة، وهي مصلحة عزيزة على ترامب: منع اندلاع مواجهة نووية بين الولايات المتحدة وروسيا.

يُمكن لأسلوب الدبلوماسية العفوي أن يُسهّل الاستفادة من الحظ الاستراتيجي. وتقدم لنا الثورات التي شهدتها أوروبا عام 1989 مثالًا جيدًا. وقد فُسِّر تفكك الشيوعية وانهيار الاتحاد السوڤييتي في بعض الأحيان على أنه ضربة عبقرية من التخطيط الأميركي. ولكن سقوط جدار برلين في ذلك العام لم يكن له علاقة كبيرة بالإستراتيجية الأميركية، ولم يكن تفكك الاتحاد السوڤييتي شيئًا تتوقعه الحكومة الأميركية: كان الأمر مجرد صدفة وحظ. كان فريق الأمن القومي للرئيس جورج بوش الأب رائعًا ليس في التنبؤ بالأحداث أو السيطرة عليها، بل في الاستجابة لها، وعدم القيام بالكثير (بما يثير عداء الاتحاد السوڤييتي) وعدم القيام بالقليل (بما قد يؤدي إلى خروج ألمانيا الموحدة من حلف شمال الأطلسي). وبهذه الرّوح، ينبغي لإدارة ترامب أن تكون مستعدة لاغتنام الفرصة. ولتحقيق أقصى استفادة من الفرص التي قد تطرأ، لا ينبغي لها أن تغرق في التعقيدات النظامية أو الهيكلية.

غير أن الاستفادة من الفرص المفاجئة تتطلب استعدادًا بالإضافة إلى المرونة. وفي هذا الصدد، تمتلك الولايات المتحدة ميزتين رئيسيتين. الأولى هي شبكة تحالفاتها، التي تعمل على تعزيز نفوذ واشنطن وقدرتها على المناورة. والثانية هي ممارستها لما يُعرف لسياسات الاقتصادية التي توسِّع وصولها إلى الأسواق والموارد الحيوية، وتجذب الاستثمارات الخارجية، وتحافظ على النظام المالي الأميركي باعتباره عقدة مركزية في الاقتصاد العالمي. للسياسات الحمائية والسياسات الاقتصادية القسرية دورها، لكنها يجب أن تكون خاضعة لرؤية أوسع وأكثر تفاؤلًا للازدهار الأميركي، وهي رؤية تعطي الأولوية للحلفاء والشركاء القدامى.

لم تعد أي من أوصاف للنظام العالمي التقليدية تنطبق على الوضع الرّاهن: فالنظام الدولي لم يعد أحادي القطب أو ثنائي القطب أو متعدد الأقطاب. إلا أنه وفي عالم يفتقر إلى بِنية مستقرة، ما يزال بوسع إدارة ترامب استخدام القوة الأميركية، والتحالفات، والدبلوماسية الاقتصادية لنزع فتيل التوتر، والحد من الصراعات، وتوفير الحد الأدنى من التعاون بين الدّول الكبيرة والصغيرة. وقد يخدم هذا رغبة ترامب في أن يترك الولايات المتحدة في حال أفضل في نهاية ولايته الثانية مقارنة بما كانت عليه في بدايتها.

المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *