جذور سياسة التجويع الصهيونية والقضاء على الفلاحة الفلسطينية في أراضي 48

في مقالٍ بعنوان "جذور سياسة التجويع الصهيونية: ملامح من فترة الحكم العسكري الأولى"، نُشر مؤخرًا في مجلة رُمان، يشير الباحث محمد قعدان إلى أن السيطرة على وسائل إنتاج المجتمع المستعمَر تُعدّ من أولويات الدولة الاستعمارية الاستيطانية لإحكام قبضتها عليه. وتتحقق هذه السيطرة من خلال سلسلة من العمليات والإجراءات والعلاقات التي تستند إلى قمع المجتمع الأصلاني، ومنعه من الوصول إلى الأرض وحرمانه منها، وبالتالي حرمانه من الوصول إلى الغذاء والطعام بشكلٍ مستدام.
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
ويؤكد المقال أن من أهم الوسائل التي استخدمها المشروع الصهيوني لتحقيق المحو والقضاء على الفلسطينيين، سواءً على المستوى الفيزيائي أو الرمزي، كانت -وما زالت- التحكم في إمكانية حصول الشعب الفلسطيني على الغذاء. وترتبط هذه المنالية بعلاقة الفلسطينيين بالأرض والزراعة، حيث سعى الاحتلال إلى التأثير بشكلٍ منهجي على نظامهم الغذائي، وفرض سياسة تجويع بأشكالٍ متعددة. وقد بلغت هذه السياسة في الوقت الراهن أعلى مستوياتها، إذ يُحرم جزءٌ كبير من الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من الوصول إلى الطعام، في إطار مخطط حربٍ إباديّة. وقد طُبقت هذه السياسة من خلال قطع (أو عرقلة) وصول شاحنات المساعدات إلى القطاع منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر 2023.
وبالعودة إلى جذور هذه السياسة مع نشوء دولة إسرائيل، يستكشف الباحث ملامحها خلال فترة الحكم العسكري الأولى، الذي فُرض على الفلسطينيين الباقين تحت حكمها بعد النكبة. فقد دُفع هؤلاء إلى حافة الجوع بعد أن صودرت منهم مقومات تأمين الغذاء لعائلاتهم. ومن شأن "فحصٍ تاريخي ديموغرافي" لنسب الوفيات، خصوصًا بين الأطفال، أن يُظهر بشكلٍ أكثر وضوحًا تأثير هذه السياسة على موت الفلسطينيين، كما يكشف عن المنطق الاستعماري الكامن خلف تجويعهم، وهو المنطق الذي تجلّى اليوم بشكلٍ مكثّف في حرب الإبادة.
وفي دراسةٍ سابقةٍ له بعنوان "نهايات الفلاحة الفلسطينية تحت الحكم العسكري 1948-1966"، يشير قعدان إلى الضربة المدمّرة التي سببتها النكبة للزراعة العربية، والتي كانت تشكل العمود الفقري للاقتصاد الفلسطيني والمصدر الغذائي الأساسي لسكان البلاد، بما فيهم المستوطنون اليهود أنفسهم. وهذا ما يفسّر سعي الدولة الصهيونية الناشئة إلى إنعاش الزراعة العربية مؤقتًا لتلبية الاحتياجات الغذائية لمستوطنيها، في الوقت الذي كانت تعمل فيه على إعداد الخطط للقضاء النهائي على الفلاحة الفلسطينية، بوصفها الركيزة الأساسية لما تبقى من الكيانية الفلسطينية.
وتشير الدراسة إلى خطةٍ إسرائيليةٍ تستهدف القضاء على الفلاحة العربية، تتألف من ست مراحل أساسية خلال فترة الحكم العسكري، وهي تنطوي على مصادرة ما يقارب 60% من الأراضي التي تقع تحت ملكيّة العرب الفلسطينيين، مصادرة معظم الموارد المائية من الزراعة العربية وربطهم في شركة واحدة، إلغاء 72% من المزارع العائلية العربية وتحويل العمالة العربية من الزراعة إلى الإيجار في الوسط اليهودي، تنظيم ومراقبة تدّفق العمالة العربية وجعلها الأقل قيمةً في سلّم سوق العمل، تطوير البنية التحتية في القرى العربيّة من أجل زيادة الاستهلاك وإعادة رأس المال العربي إلى القطاع اليهودي وأخيرا إعاقة مسار التصنيع في المناطق العربيّة.
تلك السياسة أثمرت عن انخفاضٍ حادٍ في عدد العاملين في القطاع الزراعي والمستفيدين منه، مقابل ازدياد أعداد العمال الفلسطينيين من ذوي الخلفية القروية في المراكز الاقتصادية اليهودية حتى نهاية الستينيات، ليصل إلى ما يقارب 78.5%، وهو ما يصفه إيليا زريق بأنه تعبير عن ممارسة استعمارية داخلية.
وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" الباحث محمد قعدان وهو طالب دكتوراة في جامعة "رايس" الأميركية في هيوستن بتكساس، لإلقاء المزيد من الضوء حول هذا الموضوع.
"عرب 48": قلتَ إنك أعددت أطروحة الماجستير حول الحكم العسكري، وكيف أنه يندرج ضمن منطق الإبادة في منظومة الاستعمار الاستيطاني. ولا شك أن الحرب على غزة تؤكد جانبي هذه المعادلة، إذ تكشف مجددًا طبيعة إسرائيل ككيان استعماري استيطاني، وطبيعة هذا النوع من الاستعمار الذي يتأطر ضمن منطق الإبادة، كما ذكرت؟

قعدان: في سياق بحثي حول الحكم العسكري، الذي أنجزته للحصول على شهادة الماجستير، تعمّقتُ في بعض الحالات، مثل محاولة إجلاء سكان بلدة كفر مندا خلال إقامة ما يُسمى بمشروع المياه القطري، وتحويل سهل البطوف إلى بركةٍ لتجميع المياه وفق المخطط الأصلي الذي جرى إحباطه. كما سعيت إلى فحص كيفية تفاعل سياسات المحو مع ما سُمّي بـ"ملف الجفاف"، وهو ملف حصلتُ عليه من أرشيف الدولة.
خلال بحثي في الأرشيف، عثرتُ على مجلد بعنوان "ملف الجفاف – قسم أ"، والذي يحتوي على مئات المستندات، من بينها رسائل من مجالس محلية عربية، ومزارعين، وأعضاء كنيست عرب من حزبي مباي ومبام، يطالبون بتعويضات للزراعة العربية عن سنوات الجفاف التي ضربت البلاد في تلك الفترة، مما فاقم الأزمة التي واجهتها الفلاحة الفلسطينية، والتي كانت بالفعل على حافة الانهيار نتيجة مصادرة الأراضي، وتقنين المياه، وإغلاق الأسواق.
كانت تلك الرسائل بمثابة استغاثات تعكس الضائقة الشديدة التي وصل إليها المزارعون العرب والفلاحة الفلسطينية عمومًا، حيث جاءت سنوات الجفاف لتوجه لها، ربما، الضربة القاضية.
"عرب 48": ومن الواضح أن السلطات الإسرائيلية لم تكن معنية بإنقاذ الزراعة العربية، ولذلك لم تقدّم لها أي دعم، خلافًا للزراعة اليهودية؟
قعدان: صحيح، وهذا ما دفعني إلى البحث في تاريخ الزراعة الفلسطينية، وهو مجالٌ تناوله باحثون بارزون، من بينهم إيليا زريق، الذي كتب في الستينيات والسبعينيات بعمق حول مفهوم الاستعمار الداخلي. خلال أبحاثه، صاغ زريق مصطلح "البرتلة"، أي التحوّل إلى بروليتاريا، حيث فسر كيف تحول الفلاحون العرب إلى عمال مأجورين في المستوطنات وفي سوق العمل الإسرائيلي. وقد شرح ذلك من خلال تفصيل السياسات الإسرائيلية المتعلقة بالعمالة، والبنية العائلية، والتحولات في مفهوم الحمولة (البنية الاجتماعية التقليدية في القرى الفلسطينية).
ما خطر ببالي عندما بدأتُ أقرأ عن الجفاف هو محاولة فهم السياسات الإسرائيلية المتعلقة بالحياة اليومية للفلسطينيين. بمعنى، سعيتُ إلى الربط بين ما قاله إيليا زريق وبين ما عثرتُ عليه في ملف "الجفاف"، حيث إن هذه قضايا يومية لا يمكن لأحد أن يطرحها بعمق إلا إذا كان يعيش هناك، ويشعر بتداعيات الكوارث المناخية التي ضربت الزراعة الفلسطينية، والتي تزامنت مع كارثة سياسية أكبر تمثلت في النكبة، وما تركته من آثارٍ مدمرة على القطاع الزراعي والمجتمع الفلسطيني ككل.
"عرب 48": لكن تبقى الكارثة السياسية وما نتج عنها من تداعيات، والمتمثلة في سحب الأرض من تحت أقدام الفلاحين، والتحكم بمصادر المياه، وأنواع الزراعة والتسويق، هي الأساس؟
قعدان: صحيح، لكن ما حاولتُ توضيحه في دراستي هو أن إسرائيل، كدولة استعمارية، تتلاعب بالمناخ والكوارث الطبيعية لخدمة سياساتها العنصرية، وسلب الأراضي، وطرد الفلسطينيين من بعض المناطق والقرى، لتعزيز مشروعها الاستعماري أيضًا.
وهذا يعني أنه، بالتوازي مع القضاء على الزراعة الفلسطينية، كان هناك هدف آخر يتمثل في تعزيز الزراعة الإسرائيلية، التي تمحورت آنذاك حول ما أُطلق عليه "الاستيطان الشاب"، المتمثل في الكيبوتسات والمستوطنات الزراعية الناشئة، خصوصًا في الضواحي والمناطق الحدودية. وقد أُقيمت هذه المستوطنات لتحقيق أهداف ديموغرافية وأمنية، أبرزها مواجهة ما سُمّي بـ"المتسللين"، وتحقيق اكتفاءٍ غذائيٍ للمجتمع الاستيطاني، وخلق بديلٍ للزراعة العربية.
"عرب 48": نحن نتحدث عن فترة الخمسينيات والستينيات، حين كانت الزراعة تشكل عنصرًا أساسيًا في اقتصاد الدولة وأحد أعمدته؟
قعدان: صحيح، فقد كانت الزراعة أحد أعمدة الاقتصاد، لكن العامل الثاني، الذي لا يقل أهمية، هو مسألة توفير الغذاء للمستوطنين اليهود. بعد النكبة، هُجّر ثلثا سكان البلاد، الذين كانوا يمثلون الأساس لكل شيء مرتبط بالغذاء، أو على الأقل كانوا مسؤولين عن إنتاج ثلثي غذاء المستوطنين اليهود.
المستوطنون اليهود لم يتمتعوا باكتفاءٍ ذاتي، وكانوا يعتمدون في غذائهم على الزراعة الفلسطينية. الادعاء بأنهم كانوا مكتفين ذاتيًا هو محض خيال، فقد كانوا يستهلكون ما ينتجه الفلاح الفلسطيني. قبل النكبة، كانت الزراعة العربية أقوى بكثير من الزراعة اليهودية، وهو أمر ظلّ يزعجهم. لهذا السبب، سعت السلطات الإسرائيلية في السنوات الأولى إلى إنعاش الزراعة العربية، كونها مصدرًا غذائيًا رئيسيًا للمستوطنين، لكن هذه العملية كانت مؤقتة، ريثما نجحوا في خلق البديل.
إضافة إلى ذلك، كانت هناك حاجة إلى الأيدي العاملة لبناء المستوطنات الجديدة. وهكذا، تمكنوا من تحقيق هدفين في آنٍ واحد: القضاء على الزراعة العربية كعمادٍ اقتصادي للمجتمع الفلسطيني، وتحويل الفلسطينيين إلى عمالٍ بأجورٍ زهيدة في مشاريع الاستيطان، بما في ذلك بناء مدن ومستوطنات جديدة.
"عرب 48": لطالما قلنا إننا، نحن العرب، من بنينا تل أبيب وهرتسليا ومستوطنات الشمال والجنوب؟
قعدان: لقد وُضع الفلسطينيون أمام خيارٍ وحيد بعد أن قُضي على زراعتهم، ولم تُقدَّم لهم أي مساعدة لإنقاذها وهي تحتضر. دُفعوا إلى حافة الجوع، وهذا يتجلى بوضوح في رسائل الاستغاثة التي أُرسلت إلى الدوائر الحكومية لإنقاذ الزراعة العربية، والتي يزخر بها ما يسمى بـ"ملف الجفاف"، الذي استندتُ إليه في دراستي. وبالتالي، لم يكن أمام الفلسطينيين خيارٌ سوى العمل كأُجراء بأجورٍ بخسة في بناء المدن الاستيطانية والمستوطنات الأخرى.
في إحدى الرسائل التي أرسلها مشايخ النقب، عبّروا عن استنكارهم لقرارات حجب الدعم عن الزراعة العربية، رغم الأضرار التي لحقت بها بسبب الجفاف. وجاء في الرسالة: "لكننا، كبشر أولًا، وكمواطنين ثانيًا، سنحتج بقوة، ونريد تنبيه السلطات إلى أن تنفيذ هذا القرار، أي حرماننا من مصدر رزقنا الوحيد، يعني تثبيت سياسة موت البدو من خلال تجويعهم".
هذا يعني أن العرب كانوا على وعيٍ تامٍ بأنهم يتعرضون لعملية "تمويت" ممنهجة عبر القضاء على زراعتهم.
"عرب 48": إلى جانب مصادرة الأرض والمياه ومحاصرة الزراعة، تحكمت السلطات الإسرائيلية، عبر الحكم العسكري، في حركة المواطنين وسبل عيشهم الأخرى. بمعنى أن التحول إلى عاملٍ بأجرٍ زهيد في المدن الاستيطانية كان يتطلب أيضًا تصريحًا من الحاكم العسكري؟
قعدان: الحكم العسكري، الذي استمر لمدة 20 عامًا، كان بمثابة مختبرٍ استخدمه الاستعمار الاستيطاني لهندسة سياسات الإبادة. فكل السياسات التي ما زلنا نعاني منها نحن الفلسطينيين في الداخل، من مصادرة الأراضي، والتحكم في مصادر الرزق، وهدم المنازل، وغيرها، تم تصميمها واختبارها خلال فترة الحكم العسكري.
لذلك، كان الهمّ الأول للعرب هو إنهاء الحكم العسكري بأسرع وقتٍ ممكن، رغم إدراكهم أن سياسات الدولة لن تتغير بعد ذلك. وهذا ما حدث بالفعل، حيث استمرت سياسة مصادرة الأراضي، وهدم المنازل، ومحاصرة القرى والمدن العربية، ومنع تطورها العمراني والاقتصادي، وإن كان ذلك بأساليب أقل فظاظة وخشونة.
"عرب 48": يبدو أن الدولة الناشئة كانت بحاجة إلى أداةٍ قمعية لفرض سياساتها بشكلٍ عنيفٍ على من تبقى من الشعب الذي قامت على أرضه؟
قعدان: الحكم العسكري كنظامٍ قمعي لم يكن ابتكارًا إسرائيليًا، بل تم تطبيقه من قبل قوى استعمارية أخرى. على سبيل المثال، فرضت الولايات المتحدة حكمًا عسكريًا في الفلبين لمدة ثلاث سنوات، بهدف تكثيف القمع وإخضاع السكان، ما سهّل عليها تنفيذ عمليات السيطرة والسلب. كما طبّقت فرنسا نظام حكمٍ عسكري في الجزائر خلال الثلاثين سنة الأولى من استعمارها.
هذا ليس مصادفة، فالاستعمار الاستيطاني يعتمد على الحكم العسكري لتحقيق أهدافه بكثافة، وإخضاع الشعوب لمخططاته. وهذا ما شهدناه لاحقًا في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث قامت إسرائيل باستنساخ تجربة الحكم العسكري الأولى وتطبيقها على الأراضي التي احتلتها عام 1967. وفي هذا السياق، كانت الزراعة إحدى الأهداف الأساسية للحكم العسكري، إذ سعى إلى تدمير الزراعة الفلسطينية وإخضاعها، وهي الفكرة التي حاولت تسليط الضوء عليها في دراستي.
محمد قعدان: طالب دكتوراة في قسم التاريخ بجامعة رايس، هيوستن، تكساس. حصل على درجة الماجستير في علم الاجتماع من كلية دبلن الجامعية، حيث تخصص في دراسات العرق والهجرة ونزع الاستعمار. بدأ مساره الأكاديمي بحصوله على درجة جامعية متعددة التخصصات من جامعة تل أبيب.
المصدر: عرب 48