Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
منوعات

الخزف والصحة النفسية: كيف يتحوّل الإبداع إلى أداة للرعاية الذاتية

في بيروت، يبرزُ دورٌ جديدٌ للفنّ كمنفذٍ للتعبيرِ عن الذاتِ والتعافي النفسي، حيثُ تُقدِّمُ «فابريكا للتصميم» (Fabrica Design Platform) مساحةً فريدةً لإعادة اكتشافِ الذاتِ من خلال العملِ بالطين. لا يقتصرُ الأمرُ على صناعةِ الخزفِ كمنتجٍ جمالي، بل يتعدّاه إلى كونه أداةً للعلاجِ النفسي، والتأمل، وتعزيزِ التواصلِ الإنساني، مما يجعلُ الإبداعَ مساراً نحو الشفاء، والطينَ لغةً بديلةً للتعبيرِ عما يعجزُ الكلامُ عن وصفه.

الطين كأداة للعلاج النفسي والإبداع

لطالما ارتبطَ الطينُ بعلمِ النفسِ، سواءً من الناحيةِ العلاجيةِ أو الرمزيةِ أو التنموية. يُستخدمُ الطينُ في العلاجِ بالفنّ، المعروفِ بـ «العلاجِ بالطين»، حيثُ يُطلبُ من الأفرادِ تشكيلَه بحريةٍ للتعبيرِ عن مشاعرهم الداخليةِ التي قد يصعبُ البوحُ بها. يساعدُ هذا النوعُ من العلاجِ على التفريغِ الانفعالي، وتخفيفِ التوترِ والقلق، وتعزيزِ الشعورِ بالسيطرةِ والقدرةِ على التغيير. إنَّ مجردَ صنعِ شيءٍ باليدِ يمنحُ شعوراً إيجابياً، كما أنَّ ملمسَ الطينِ الطبيعي والبارد يساعدُ في تهدئةِ الجهازِ العصبي وزيادةِ التركيزِ والهدوء.

من الناحيةِ الرمزية، يحملُ الطينُ دلالاتٍ عميقةً في علمِ النفسِ التحليلي، فهو يرمزُ إلى الأصلِ والتكوين، فالإنسانُ مخلوقٌ من طين، ما يجعلُ التعاملَ معه استحضاراً لفكرةِ الجذورِ والعودةِ إلى الطبيعة. كما يُمثِّل الطينُ رمزاً للتحوُّلِ والنموِّ لقدرته على التشكُّلِ والتغييرِ المستمر، فيُشبَّه بالنفسِ الإنسانيةِ القابلةِ للتطوُّرِ والتبدُّل. وفي المجالِ التنموي والتربوي، يُستخدمُ الطينُ لتعزيزِ الإبداعِ والخيال، وتنميةِ المهاراتِ الحركيةِ الدقيقة، وترسيخِ قيمِ الصبرِ والمثابرة.

تأثير العمل بالطين على الصحة النفسية

تُشير نور زغبي فارس، مالكةُ المشروع، إلى أنَّ التجربةَ الحسيةَ للطين، بملمسه ودرجةِ حرارته واستجابته، تُشجِّعُ على الحضورِ الذهني. عندما يغمرُ المشاركون أيديهم في الطين، ينتقلُ انتباههم بشكلٍ طبيعي من القلقِ إلى التجربةِ المادية، مما يُنشِّطُ حالاتٍ من الهدوءِ والتأمل. غالبًا ما يختبرُ المشاركون ما يُطلقُ عليه علماءُ النفس حالةَ «التدفق»، حيثُ يمتزجُ الفكرُ والفعلُ والمادة، ما يؤدي إلى شعورٍ بالهدوءِ والوضوح.

على الرغمِ من أنَّ الاستديو ليس مساحةً سريريةً، إلا أنَّه يشتركُ في عديدٍ من مبادئ العلاجِ بالفن، فكلاهما يعتمدُ على العمليةِ بدلاً من المنتج، وعلى الصنعِ بوصفه وسيلةً للتعبيرِ والتأملِ واكتشافِ الذات. يختلفُ نموذجُ «فابريكا» في التركيزِ على التعلُّمِ والتجريبِ كأدواتٍ للنموِّ والتواصل، مع تقديرِ الأمانِ العاطفي والتعبيرِ عن الذاتِ والتحوُّلِ من خلال التفاعلِ المادي.

الخزف كلغة للتعبير عن المشاعر المكبوتة

تُؤكد نور زغبي فارس أنَّ الطينَ يوفرُ منفذاً رمزياً للتحرُّر، حيثُ يُعبِّرُ العديدُ من المشاركين من خلال أعمالهم الفنيةِ عمَّا لا يمكن التعبيرُ عنه بالكلمات. تتيحُ مرونةُ المادةِ التحوُّلَ، بالترافقِ مع راحةٍ نفسيةٍ خفيةٍ ولكنها عميقة. هكذا يصبحُ الفنُّ أرشيفاً للتجارب، ومساراً نحو الشفاء. كما تُعزِّز جلساتُ الخزفِ الجماعيةُ التعاطفَ والتعاونَ والشعورَ المشتركَ بالهدف، وتدعو إلى الإبداعِ الجماعي والتشكيلِ والإصلاح معاً، ما يبني مرونةَ المجتمع.

لمسُ الطينِ يُوقظُ ذاكرةً حسيةً، ويربطُنا بشيءٍ أساسي، يُذكِّرنا بالأصلِ والطبيعةِ وقدرةِ الجسمِ على الإبداع. من الناحيةِ النفسية، لهذا التفاعلِ اللمسي تأثيرٌ استقراري، فهو يُرسِّخ الصانعَ في اللحظةِ الراهنة. من منظورٍ تأمُّلي، تُهدِّئ الإيماءاتُ المتكرِّرةُ مثل الضغطِ والتنعيمِ واللفِّ الضجيجَ الذهني، وتدعو إلى السكون. العملُ الخزفي المُركَّزُ يُساعدُ في تحقيقِ حالةٍ من الهدوءِ الذهني، أو اليقظة، لأن الطينَ يتطلَّبُ الانتباه والصبر.

تُحوِّل جلساتُ الخزفِ الجماعيةُ الإبداعَ الانفرادي إلى تجربةٍ مشتركة، فحولَ الطاولةِ أو العجلةِ، تنبثقُ المحادثاتُ بشكلٍ طبيعي، أحياناً من خلال الكلماتِ، وأحياناً من خلال الإيماءاتِ أو الضحك. تُذيبُ المادةُ نفسها الحواجزَ بين الناس، وتُعيدُ هذه التجمُّعاتُ الإبداعيةُ بناءَ الثقةِ والانتماء. تُشير نور إلى أنَّ «فابريكا» تُهيِّئ جواً من الترحيبِ والعفوية، ومساحةً يشعرُ فيها الجميع بالانتماء، بغضِّ النظرِ عن خلفيَّتهم أو مهاراتهم، وهذا الشعورُ بالأمانِ النفسي هو ما يُطلقُ العنانَ للإبداعِ الحقيقي.

تُركِّزُ «فابريكا» على العمليةِ الإبداعيةِ أكثر من النتيجةِ النهائية، مما يُعزِّز الثقةَ بالنفس ويُقلِّل من قلقِ الأداء، ويمنحُ المشاركين حريَّةَ التعبيرِ عن أنفسهم دون خوفٍ من الفشل. الطينُ مادةٌ مرنةٌ ومتسامحةٌ ومتجاوبةٌ، وتُعزِّز الشعورَ بالفاعليةِ والإمكانية. تُعدُّ «فابريكا» مبادرةً متعدِّدةَ التخصُّصاتِ في الفنِّ والتصميم، وهي استديو للتصميمِ والفنون، ومنصةٌ بحثيةٌ تُركِّز على الموادِّ والحِرفةِ والابتكارِ والتصميمِ التعاوني، وتهدفُ إلى الاستفادةِ من الطينِ بوصفه مادةً للتشكيلِ الحرفي ومُحفِّزاً للإبداعِ والتغييرِ والإدماجِ المجتمعي.

من المتوقعِ أن تستمرَّ «فابريكا» في تقديمِ ورشِ عملٍ وصفوفٍ في الخزفِ، مع التركيزِ على الابتكارِ في الموادِّ والبحثِ في إمكاناتِ الطينِ والخزف. سيتمُّ متابعةُ تأثيرِ هذه الورشِ على المشاركين، وتقييمُ إمكانيةِ توسيعِ نطاقِ البرنامجِ ليشملُ فئاتٍ أخرى من المجتمع. يبقى التحدي في ضمانِ استدامةِ المشروعِ وتوفيرِ الدعمِ اللازمِ لمواصلةِ تقديمِ هذه المساحةِ الفريدةِ للتعبيرِ والإبداعِ والتعافي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *