“فن الجداريات” تعبير فني على جدران التاريخ والحاضر
يُعتبر الفن الجداري أو “الجداريات” کما اصطُلح عليها واحدة من حقول الفن التشکيلي التي کان لها انتشار کبير في التاريخ قديماً وحديثاً، ويُعد من أقدم الفنون التي عرفها الإنسان منذ بدايات التاريخ؛ فهو من أقدم أشکال التعبير التي عرفها الإنسان، إذ کانت جدارن الکهوف الصخرية أول السطوح التي رسم عليها الفنان القديم لوحاته ولم تکن هذه الرسوم ذات هدف تزيني في ذلك الوقت، وإنما کانت وسيلة تعبيرية عما يدور في ذهن الإنسان القديم من مخاوف وأفکار ومن حرکات رآها من خلال مراقبته للطبيعة من حوله، وذلك قبل أن تظهر الکتابة والخط بزمن کبير، إلى جانب وظيفتها لتخليد ذکرى أو مناسبات أو أحداث بها جانب خاص بحياة الملوك وانتصاراتهم.
تابعوا المزيد: أنواع و مفهوم الفن الجداري
في فترة العصور القديمة، كانت الجداريات تستخدم بوصفها وسيلة رئيسية لتوثيق التاريخ والتعبير عن الثقافة في مختلف حضارات العالم؛ ففي مصر القديمة كانت الجداريات تشكل جزءاً مهماً من فن العصور القديمة، حيث استُخدمت لتزيين جدران الأهرامات والمقابر، وكانت تلعب دوراً حيوياً في تجسيد العالم الروحي والأحداث الحياتية.
في الإغريق القديمة، اتسمت الجداريات بالطابع الديني والأسطوري؛ استُخدمت في تزيين المعابد والمباني العامة لتوثيق الأحداث التاريخية وروايات الآلهة. كانت تعكس هذه الأعمال الفنية معتقدات المجتمع وتمجيد القيم والبطولات الشخصيات الأسطورية.
مع بداية العصور الوسطى، شهدت الجداريات تحولاً في مواضيعها وأسلوبها؛ ما أدى إلى ظهور تصوير أدق وتفاصيل أفضل. في هذه الفترة، أصبحت الكنائس والأديرة مركزاً للفن، وتميزت الجداريات في فترة العصور الوسطى بألوانها الغنية، حيث كان للفن في هذه الفترة دور مهم في تعزيز الإيمان وتثقيف الجماهير.
مع نهضة الفن في أوروبا في القرون الـ14 والـ15، شهدت الجداريات تحولاً مهماً. بدأ الفنانون في الاهتمام بتقنيات الظل والإضاءة والتنوع في التعبير الفني. أُطلقت على هذه الحقبة “نهضة الفن”؛ حيث شهدت تطوراً هائلاً في فنون الرسم والنحت والعمارة.
في القرن العشرين، شهدت الجداريات تحولاً كبيراً في سياق الفن؛ حيث أصبحت وسيلة فعَّالة للتعبير عن الهوية والتحديات الاجتماعية. بدأت هذه الفترة تشهد تغيرات هائلة في هياكل المدن والطبيعة التكنولوجية، وكان للفن دور رئيسي في تعبير الناس عن تجاربهم وآرائهم، فتميزت الجداريات في هذه الفترة بأسلوب حضري جديد ومفعم بالحياة، في البداية، استُخدمت بوصفها وسيلة للتعبير عن القضايا الاجتماعية والسياسية، حيث استخدم الفنانون الجداريات بوصفها وسيلة فنية للمشاركة في الحوار العام وتسليط الضوء على الظلم أو التمييز.
في العقود الأخيرة من القرن العشرين، زادت شهرة الجداريات وتأثيرها؛ حيث أصبحت وسيلة للتعبير عن التحولات الثقافية والاجتماعية بشكل مباشر. توسع نطاق الفن الحضري ليشمل تقنيات حديثة وإبداعية؛ ما أعطى الفنانين الفرصة لاستخدام تقنيات متقدمة وتجارب جديدة.
في العصر الحديث، أخذت الجداريات وفن الشارع مكانة بارزة في المشهد الثقافي العالمي، وأصبحت وسيلة فعَّالة للتعبير عن التحديات والتغيرات في المجتمع. شهدت الجداريات تطورات كبيرة في موضوعاتها وتقنياتها، وأصبحت أحد أهم وسائل الفن التشكيلي التي تواكب التحولات الثقافية والاجتماعية، حيث يقدم الفنانون أعمالهم في الأماكن العامة بوصفها شكلاً من أشكال التحفيز الاجتماعي وتشجيع التفاعل الجماهيري.
تابعوا المزيد: رسام برازيلي يجسد الزعماء والمشاهير في أكبر جداريات بالعالم
تسهم الجداريات في تحول المدن إلى معارض فنية ضخمة. تعزز هذه الأعمال الفنية اللوحات الرمزية والتحفيز الجماهيري، وتجعل المساحات الحضرية أكثر حيوية وجاذبية. يسهم تأثيرها في إعادة تشكيل الهوية الحضرية وجعل الفن جزءاً من الحياة اليومية للمجتمع.
شاهدوا المزيد: فنان يرسم لوحات جدارية مذهلة باستخدام الأشجار المزهرة بدلاً من “الشعر الطبيعي”
يُعد فن الجداريات في السعودية واحداً من الفنون البصرية التي تعتمدها المملكة في التعبير عن الثقافة والتراث المحلي؛ فنجد “الجداريات” موجودة في كل الفعاليات الثقافية التي تُقام في جميع مناطق المملكة، بل تشجع الهيئات الثقافية الفنانين السعوديين وتدعوهم في أي مناسبة ثقافية إلى إطلاق العنان لخيالهم في إبداع جداريات تجسد ثقافات متعددة الجوانب للمملكة، كما شاهدناها في مواسم الرياض عبر السنوات الماضية، وأيضاً شاهدناها في شوارع مكة في أثناء موسم الحج بهدف التزيين وإثراء الثقافة الإسلامية لزوار وحجاج بيت الله الحرام.
شاهدوا المزيد: “أوايسس” تتزين برسومات جدارية تجذب زوار موسم الرياض
أطلقت هيئة الفنون البصرية مهرجان “رش فن الجداريات 2023” في أحد المباني القديمة بحي المغرزات في مدينة الرياض، ويستمر حتى 6 من ديسمبر المقبل، بمشاركة أكثر من 50 فناناً ومتحدثاً وخبيراً في عددٍ من الفنون ذات الصلة بالرسوم الجدارية؛ لخلق مساحة تفاعلية وتحقيق تجربة متكاملة، وإيجاد أعمال فنية مشتركة بين الفنانين المحليين والإقليميين والعالميين، بهدف الاحتفاء بتاريخ ومستقبل فن الجداريات من خلال إخراج الفنون الجدارية من داخل المبنى إلى أسواره، عبر إضفاء طابعٍ ينقله من الماضي إلى الحاضر، بما يجسد المشهدين الثقافي والاجتماعي.
تعرفوا إلى المزيد: بإشراف “فلمبان ولويسون”.. انطلاق مهرجان رش فن الجداريات في الرياض