قرطاج بين الحضارة والمسرح.. كيف بدأ المهرجان؟

تتوهج قرطاج المدينة التونسية العريقة هذه الأيام بأزهى حلّة فترتدي أروع أرديتها الثقافية والفنية والإبداعية لتنبض زهواً وألقاً وتشع فناً وإبداعاً وتتألق ثقافة وزخماً باستقبالها فعاليات مهرجان قرطاج الدولي في نسخته الـتاسعة والخمسين والذي اُفتتح أمس 19 يوليو 2025 ويستمر حتى 21 أغسطس المقبل.
مسرح أثري يحتضن فعاليات فنية وإبداعية
ما يزيد عن الثلاثين يوماً ستتلألأ المدينة القديمة بمسرحها الأثري العتيق، على أنغام وإيقاعات آسرة، في مغامرة حية نابضة مفعمة بالألوان والإيقاعات والأصوات ومختلف الآلات والأداءات والعروض الموسيقية والمسرحية الحية يحييها فنانون ومبدعون من مختلف أنحاء العالم يستعرضون ثقافاتهم ويتبادلون فنونهم وخبراتهم ويتناقشون ويتحاورن، ويتعارفون في محفل ثقافي فني إبداعي مدهش يحفز الجمهور للإبحار في فضاءات ساحرة تمزج بين الماضي والتراث وما يحيط بهم من نوستالجيا وحنين وشوق وعاطفة وذكريات، والحاضر وما يتفتق عنه من تكنولوجيا ورقمنة وتأثيرات وذكاء اصطناعي وغيرها من تقنيات.
يشارك في هذه التظاهرة الحية والتي يحتضنها المسرح الأثري والذي يقع على تخوم المدينة القديمة، عدد من أكبر فناني الوطن العربي والعالم فتصدح أصواتهم الشجية لتعانق فضاءات المسرح القديمة بأجوائها التراثية والأثرية فتزلزلها بقوة وقدرة أو تهدهدها بحنو وتحتضنها برقة، حيث لا يعلم الكثيرون أن للمسرح تاريخ قديم ضارب بجذوره في عمق الزمن.
مسرح قرطاج هو الاسم العام الذي يُطلق على المسرح الأثري الروماني في قرطاج. يُعرف المسرح أيضاً باسم “مدرج قرطاج” و”المسرح الدائري بقرطاج”. وهو مَعلم أثري ضخم يعود إلى العصر الروماني، يتكون المسرح من ركح ( خشبة المسرح) ومدرج نصف دائري يفصل بينهما مساحة لمتفرجي الدرجة الأولى وتبلغ طاقة استيعاب المسرح 12 ألف متفرجن، وقد شُيد المسرح الدائري في عهد يوليوس قيصر، حيث كانت تُقام فيه المصارعات التي ينظمها الحاكم لإبراز الرعية مصير كل خارج عن سياسة حكمه.
يُعد المسرح الأثري، إلى جانب السيرك وحمامات أنطونينوس، من أكبر المعالم الأثرية التونسية، فقد كان، وما زال، يحتضن العروض الشعبية التاريخية القديمة، وهي بالأساس العروض المخصصة لعرض وقنص الحيوانات (فيناسيونس)، ومعارك المصارعين ( قلادياتوروم مُنيرا)، كما كان يُخصص به جزء لتنفيذ أحكام الإعدام (دنّاسيونس آد باستياس).
بدايات مهرجان قرطاج الدولي
يُعد مهرجان قرطاج الدولي أحد أقدم وأهم المهرجانات في العالم العربي، وقد بدأت حكايته منذ عقود وتحديداً مع بدايات القرن العشرين عندما اكتشف بالصدفة عالم الآثار الفرنسي لويس كارتون، والذي كان يقود عمليات الاكتشافات الأثرية والبحث عن الحفريات التاريخية في عدد من المواقع الأثرية التونسية. وفي أحد الأيام اكتشف أن صدى الصوت الصادر من بين أطلال مسرح قرطاج الأثري كان بجودة كبيرة، فقرر استغلال هذا الأمر واستثمار هذه الخاصية الفريدة لمصلحة هذا المعلم الأثري القيّم الذي شابه الإهمال، خاصة مع تزايد الزحف العمراني والذي أصبح يهدد وجوده ويؤثر بعراقته، ومن ثمّ قام بتنظيم أول تظاهرة ثقافية بهذا المعلم التاريخي بالعام 1906، فقام بعمل عرض أزياء للزي القرطاجني التراثي التقليدي، إلى جانب عرض مسرحي بمشاركة فناني هذا العصر، وقد هدفت التظاهرة لرفع الوعي الجمعي بأهمية الحفاظ على الإرث التاريخي والحضاري التونسي، ولفت الانتباه إلى أهمية هذا الموقع الأثري للحفاظ عليه والاهتمام به، من خلال إبراز القيمة الثقافية والتاريخية للمسرح الروماني بقرطاج، والذي يُعد شهادة حية على حضارات عظيمة تواترت وتعاقبت وتتابعت عبر الزمن وكانت شاهداً على تطور البشرية وتقدمها.
(تم إدراج مسرح قرطاج الأثري ضمن لائحة التراث العالمي منذ سنة 1979)
ويمكنكِ التعرف إلى: أبرز فعاليات مهرجان قرطاج 2025 بدورته الـ59: نجوم عرب وعالميون وعروض موسيقية
كيف بدأ مهرجان قرطاج الدولي بشكله التقليدي؟
عقب هذا العرض الكبير هدأ الوضع لعقود طويلة إلا أن الموقع الأثري الروماني بقرطاج شهد خلال تلك الفترة تنظيم عروض وتظاهرات فنية فرنسية وأوروبية، وظل الوضع على ما هو عليه حتى استقلت تونس عن فرنسا بالعام 1956 وإعلان الجمهورية، حيث قررت بلدية قرطاج وهيئة السياحة التونسية بالعام 1961 تنظيم مهرجان مسرحي مصغر اشتمل على تقديم نسخة معرّبة من مسرحية “الذباب” لجون بول سارتر، وقد استقبل الجمهور التونسي المتذوق للفن والمتشوق للإبداع المسرحية استقبالاً مثيراً، وأمام نجاح هذه التجربة قرر القائمون على المهرجان تكرار التجربة لسنتين متتاليتين مع تمديد أيام المهرجان لأربعة أيام. وكان من بين العروض التي قُدمت في تلك الفترة على خشبة المسرح الأثري بقرطاج مسرحية “كاليغولا” لألبير كامو من تقديم الفنان المسرحي المعروف علي بن عياد.
في خضم الزخم الثقافي والإبداعي العربي الذي شهدته فترة ستينيات القرن الماضي، واستثماراً لنجاح النسخ الأولية من المهرجان قررت وزارة الثقافة التونسية منذ العام 1964 الإشراف على تلك التظاهرة الثقافية وتطويرها، ليكون ذلك هو التاريخ الرسمي لانطلاق مهرجان قرطاج الدولي.
أكبر فناني العرب والعالم وقفوا على مسرح قرطاج
اكتسب المهرجان شهرة فائقة في المنطقة مع بزوغ نجم عدد من المهرجانات الأخرى بالمنطقة، إلا أن مهرجان قرطاج الدولي ما فتئ يتخذ طابعاً دولياً وذاع صيته بأصداء إيجابية لافتة في الأوساط الثقافية ليس العربية فحسب، بل حتى العالمية، وجذب أسماء براقّة لها ثقلها في ذلك الوقت والتي قدمت عروض فنية إبداعية لامعة احتضنتها فضاءات المسرح العتيق الذي بات فرصة يتبارز فيها النجوم العرب ومن مختلف دول العالم لعرض مواهبهم وإبداعاتهم.
احتضنت خشبة المسرح الأثري بقرطاج كوكبة من أهم الفنانين العرب وعلى رأسهم أم كلثوم وعبدالحليم ووردة ووديع الصافي وفيروز ونجاة الصغيرة وميادة الحناوي، كما شهد مسرح قرطاج مسرحية “كاسك يا وطن” لدريد لحام، وغيرها من أعظم إبداعات فناني العرب، كما احتضن المسرح فنانين عالميين منهم شارل أزنفور وداليدا وجو كوكر وإيروس رامازوتي وغيرهم كثر.
اليوم عقب كل هذه السنوات وهذا التاريخ الحافل وسياقات النشأة والتاريخ القديم بات مهرجان قرطاج الدولي (أعرق المهرجانات العربية والإفريقية ) منصة مهمة للترويج للثقافة والأعمال الإبداعية والفنية المتنوعة من تونس ومختلف بلدان العالم، فقد أضحى المهرجان كنجمة متلألئة في سماوات الفن إقليمياً ودولياً وباتت المشاركة به وتجربة الوقوف على مسرحه الأثري العريق حلم كثير من الفنانين ونقطة مضيئة في تاريخ كل من شارك فيه وموطئ قوّة في مسيرته الإبداعية.
والسياق التالي يعرفك المزيد عن تفاصيل الدورة الـ59 من مهرجان قرطاج قبل انطلاقه بساعات