كنت أظنّ..
كنت أظنّ أننا حين نحبس الخوف في غرفة مظلمة سنتخلّص منه إلى الأبد..
لم أكن أعرف أنّ الخوف حين يظلّ حيّاً في مكان ما في داخلنا سيكبر في العتمة، سيكبر كثيراً، تماماً كما تكبر تلك النباتات البرّية التي لا تجد من يشذّبها أو يهذّب أطرافها، فتطول وتطول حتى تخرج من شقوق السقوف المثقوبة وتتدلّى على جدران الشرفات المهجورة..
لم أكن أعرف أنّ ذلك الكائن الذي نحبسه صغيراً وجباناً وبريئاً، الشعور الذي نخفيه خجولاً وحائراً، سينبت له شاربٌ ولحيةٌ، سيتغيّر لون عينيه ويصبح أكثر ضراوة، سيشحذ مخالبه ويتوحّش..
لم أكن أعرف أنّ خوف الصغار لا يموت. لا يختفي إن قرّرنا إخفاءه..
أنّ خوف الصغار حين يُعلَن، مبرّرٌ ولطيف، خوفٌ أليفٌ داجن، يستكين بقبلة أو عناق، أو لمسة يدٍ حانية.. يهدأ بحكايةٍ مؤنسة قبل النوم، ربّما قد يعود بصورة حلمٍ مزعجٍ عابر، لكنّه يهرب من تربيتة حانية على الوجه المسترخي تحت لحاف دافئ..
لم أكن أعرف أنّ خوف الصغار ليس بخطيرٍ إن سمحنا له بالظهور أو سمحنا لصاحبه بالإعلان عنه.. أنّه خوفٌ طبيعيٌّ عابر كأيّ مظهر من مظاهر الطفولة وما يرافقها. لم أكن أعرف أنّه يصبح خطيراً حين نطويه كثوبٍ يزعجنا ونحكم لفّه بأوراق التجاهل والإنكار ونرمي به في أبعد نفقٍ خفيٍّ في دهاليز نفوسنا..
خوف الصغار خطيرٌ حين لا يُعالُج.. حين يُستَهزَأ به.. حين يُستنكَر.. وحين يُتجاهل..
حين يتحوّل إلى خوفٍ مزمنٍ موجعٍ كشوكةٍ عالقة في منتصف الروح. نشعر بنغزها ولا ندرك مكانها.. ألمها يأتي من مكان عميق لا تطاله يدنا فلا نستطيع إزاحته.
حينها يتحوّل إلى “خوف الكبار”. وما أدراك ما خوف الكبار.. أن تخاف ولا تستطيع طلب الأمان، وأن تخجل من استجداء الطمأنة.. ليس خوفك هنا من أشباح غير مرئيّة، ولا من أقدام متخيّلة تحت السرير.. ولا هو خوف من كابوس عابر فيه وجه بطّة على خزانة ثيابك أو قطّة سوداء ابتسمت لك في الطريق ذات مساء..
هو خوفٌ حقيقيّ من أشياء أكثر عمقاً أو ربما أكثر تفاهة.
هو كلّ تلك المشاعر التي لم تعبّر عنها صغيراً فتجذّرت داخلك وافترستك كبيراً.. ذلك الخوف القديم المعتّق المسجون في زاوية سوداء من الروح.. هو خوف طاغٍ، جبّارٌ وعنيف. خوف الكبار خطير، خاصة ذاك الذي لم نجرؤ على إعلانه صغاراً ولم نقوَ على قتله فدفنّاه في داخلنا حيّاً.. وهل أكثر رعباً من فكرة عودة قتيلٍ حيٍّ لينتقم!!