التصدُّع “الغربي” يبدأ من الجبهة الصينية
أثارت تصريحات الرئيس الفرنسي مؤخراً لغطاً واسعاً في الولايات المتحدة الأميركية، وفي أوروبا، وفي العالم كلّه.
الامتعاض الأميركي من إعادة طرح، والترويج لفكرة “الاستقلال” الأوروبي عن الولايات المتحدة كان جليّاً، والبلدان الغربية الكبرى لم تتّخذ موقفاً يشي بالرفض أو الاستنكار، إن لم نقل إن هذه البلدان كانت في حالة خاصة من “التمنُّع”، وكان لسان حالها إزاء تلك التصريحات هو أن نزعة الاستقلال هي بمثابة [تهمةٌ لا تنفيها، وشرفٌ لا تّدعيه].
وإذا اعتبرنا أن تصريحات الرئيس الفرنسي هي مجرّد بداية للتصدُّع في جبهة “الغرب”، والصحيح هو أن نعتبر ذلك فعلاً، فإن هذا التصدُّع ما زال مقصوراً على الجبهة الصينية، وانتقاله ولو تدريجياً إلى الجبهة الروسية ما زال برسم معطيات كثيرة منتظرة، خصوصاً المعطيات الميدانية، وبرسم حدّة وعُمق التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية على البلدان الغربية جرّاء استمرار الحرب في أوكرانيا.
ذكرنا في مقالات سابقة على صفحات “الأيّام” أن “جرّ” أوروبا للاستفزازات الأميركية للصين، وتوتير العلاقات الأوروبية الصينية لن يكون سهلاً، وهي مسألة ليست في متناول اليد الأميركية، لأسباب كثيرة، ليس أقلّها أهمية درجة التشابك والتداخل بين الاقتصادات “الغربية” مع الاقتصاد الصيني.
السؤال المطروح بإلحاح في كل العالم، وفي أوروبا على وجه التحديد والخصوص هو: لماذا تحاول الولايات المتحدة أن ترفع درجة التوتّر مع الصين الآن؟ ولماذا ترفع حدود الاستفزاز إلى أقصى سقف ممكن؟ ولماذا تفعل ذلك وهي تعرف أن ورطة “الغرب” بقيادة أميركا في الحرب الروسية الأوكرانية ما زالت مستمرة، وما زالت مستفحلة، وما زالت تنعكس سلباً على “الغرب”، ولم تتراجع الصين قيدَ أُنملة واحدة عن علاقاتها الإستراتيجية مع روسيا؟
ويتفرّع عن هذه الأسئلة الكثير من الأسئلة المحدّدة والملموسة حول الهدف الأميركي من هذا القدر الخطير من الاستفزاز والتوتير، وفيما إذا كانت أميركا قادرة على تحمُّل تبعات انفجار الوضع العسكري والأمني في تايوان، في وقت تُلقي الحرب في أوكرانيا أحمالاً ثقيلة على كاهلها، وعلى كاهل كل الحلفاء، بمن فيهم، وربما على الأوروبيين تحديداً، وعلى وجه الخصوص؟
من الزاوية “المنطقية” فإن “الحراك” الأميركي كان سيكون “مفهوماً” لو أن المعطيات الميدانية القادمة من أوكرانيا كانت “مطمئنة” عن سير المعارك هناك، أو لو أن أوكرانيا استطاعت أن تُحرز بعض الانتصارات، أو حتى لو أنها تمكنت من وقف تقدُّم القوات الروسية في أي من الجبهات.
لكن أن تترافق حملات الاستفزاز الأميركي للصين في ظل معطيات معاكسة تماماً، ربما يشير إلى تدهور وضع القوات الأوكرانية، وإلى خلخلات إستراتيجية كبيرة في الوضع الميداني.. فهذا أمرٌ مُحيّر، ويحتاج إلى تفكير عميق.
استنفار “الجبهة الآسيوية” في اليابان والفلبين وكوريا، ورفع وتيرة النبرة الأسترالية ضد الصين، يمكن أن يكون السبب الحقيقي للتصعيد الأميركي من زوايا عديدة.
الولايات المتحدة ليست بحاجة “ماسّة” للدعم الأوروبي على هذه الجبهة، وأكثر ما ترغب به الولايات المتحدة توطيد حلفها الآسيوي، وأقصى ما تطمح إليه “ضمان” دعم الحليف البريطاني، وإعادة التأكيد على الانخراط الأسترالي في هذه الجبهة لسيطرة التحالف الأنجلوساكسوني عليها.
من هنا حتى لو أن الاستفزازات الأميركية للصين قد أدّت إلى “خسارة” معيّنة جرّاء “الانزواء” الأوروبي عن السياسات الأميركية، فإن “الجبهة الآسيوية” أكثر أهمية للولايات المتحدة، وبما لا يُقاس، وهي ــ أي الولايات المتحدة ــ لا ترى في التصدُّع “الغربي” بدءاً من الجبهة الصينية خسارة إستراتيجية قياساً بأهمية بناء أو إعادة بناء تحالفها الآسيوي تحسُّباً للمستقبل على أقلّ تقدير.
والمهم بالنسبة للولايات المتحدة في الظروف الجارية ألا ينتقل هذا التصدُّع إلى الجبهة الروسية، وألا يتم الآن، أو بسرعة، لأن هذا الانتقال سيتم عند درجة معيّنة على كلّ حال.
إذا أخذنا مدلولات المنطق، واتّساق هذا المنطق مع سير الأحداث الميدانية على الجبهة الروسية، تُصبح الإستراتيجية الأميركية أكثر قابلية للفهم، وتصبح الأسباب “الموجبة” لموجة التصعيد الأميركية ضد الصين، والآن تحديداً، أكثر وضوحاً، أو أقلّ غُموضاً ممّا تبدو عليه.
أقصد أن الولايات المتحدة بدأت بالتصعيد من موقع إدراكها لمآلات الحرب الأوكرانية الروسية، واستحالة منع هزيمة أوكرانيا، أو استحالة إحراز أي تقدُّم إستراتيجي لـ”الغرب” في أوكرانيا، إن لم نقل صعوبة أو استحالة منع انتصار روسي إستراتيجي وكبير فيها.
وأقصد، أيضاً، أن الولايات المتحدة باتت على قناعة أن منع الانهيار، والانهيار السريع هو المهمة الأساسية الآن، وأن الإبقاء على التحالف مع أوروبا “صامداً” إلى أن يصبح بالإمكان الانتقال إلى “المفاوضات” حول مستقبل العلاقات الروسية الأوكرانية، والعلاقات الأوروبية الروسية مُتاحاً وقابلاً للتموضع على جدول الأعمال.
هذا ما يهمّ الولايات المتحدة الآن، والإبقاء على الجبهة الصينية “ساخنة” بات هو الأولوية المطلقة للولايات المتحدة بعد أن “فقدت الأمل” على ما يبدو في أوكرانيا، أو هي في طريقها إلى ذلك.
لا يوجد سبب منطقي واحد يفسّر موجة التصعيد الأميركي الأخير ضد الصين خارج نطاق ومنطق التوقّعات الأميركية المنتظرة للحرب في أوكرانيا.
ما يؤكّد أو يرجّح هذا التحليل هو أن الولايات المتحدة كانت أصلاً ستبدأ من الصين في استفزازاتها العدوانية، لكنها لم “تمتلك” “التمهيد” الكافي للبدء من هناك، وهي بدأت هذا التمهيد في أوروبا ضد روسيا منذ أكثر من عقدٍ كامل من الزمن، وهي اعتقدت أنها ستكسر الحلقة الروسية باستخدام أوكرانيا، وتحديداً منذ الانقلاب على الحكومة الشرعية فيها، غير مكتفيةٍ بكل الاستفزازات للدولة الروسية قبل ذلك من خلال التوسُّع المتواصل لحلف “شمال الأطلسي”.
فشل الولايات المتحدة في كسر الحلقة الروسية يعني من وجهة نظر الإستراتيجية الأميركية المسارعة إلى بناء “الجبهة الآسيوية” لأن المراهنة على “إخراج” روسيا من معادلة الصراع الدولية تحوّلت إلى كارثة أميركية حقيقية حول واقع ومستقبل معادلة الصراع الدولية.
يُضاف إلى كل ذلك أن إدارة الرئيس جو بايدن، ومن قبله الرئيس باراك أوباما، والتي ركّزت كل جهودها على آسيا تحديداً لم تختلف مع سياسة الحزب الجمهوري حيال هذه المسألة، ولا مع توجُّهات الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلّا في مسألةٍ واحدة، وهي أن ترامب لم يكن مطلقاً سيذهب لمحاربة موسكو، ولم يكن لديه أي استعداد لتوجُّه من هذا النوع، وكان يرمي إلى بناء التحالف الآسيوي مباشرة، ومن دون المرور بإستراتيجية [كسر الحلقة الروسية].
الإدارة الأميركية الحالية تعرف أن نجاح الحزب الجمهوري في الانتخابات القادمة، خصوصاً نجاح ترامب، سيعني حتماً نهايةً مأساوية ــ من وجهة نظر الرئيس بايدن ــ وتكريس الانتصار الروسي، وهذا برأيي ما يُفسّر الحملة القضائية المحمومة ضده في الولايات المتحدة، وهذا هو “السرّ” الذي يفسّر بعض الخطوات “البهلوانية” في إدراج عشرات من الاتهامات في سابقة يشهد عليها العالم من تسييس للقضاء في الولايات المتحدة.
ترامب يضغط على العصب “الخامس” في الحزب الديمقراطي، وعلى بايدن نفسه، والصُّداع الذي خلقه لهذه الإدارة بات يشوّش عليها التركيز والتعقُّل.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر