الجولة العسكرية أصبحت حتميّة، إلّا..
إذا ما تمّ الذهاب إلى جولة المفاوضات اليوم الخميس، قبل أن تحسم الولايات المتحدة أمرها “بإلزام” حكومة بنيامين نتنياهو بأن تكون قاعدة هذه المفاوضات وإطارها الوحيد هو قرار مجلس الأمن الذي تأسّس على “مبادرة” جو بايدن فإنّ الفشل المربّع هو النتيجة المباشرة والمحتومة لهذه الجولة.
وإذا كانت أميركا ذاهبة إلى هذه الجولة من المفاوضات وفي ذهنها البحث عن صيغة تلبّي شروط نتنياهو، القديمة منها والجديدة، حول معبر رفح ، ومحور فيلادلفيا، وحول عودة النازحين من الجنوب إلى الشمال، وحول أعداد ونوعيات الأسرى الفلسطينيين، ومكان إقامتهم بعد إطلاق سراحهم.
إذا كانت أميركا ذاهبة على هذا الأساس، وبهذه التوجهات فإنّ الجولة العسكرية تصبح على جدول الأعمال المباشر، لأنّ الردّ من قبل إيران، ومن قبل “حزب الله” لا يعود حتمياً وقوياً فقط، وإنّما سيكون هذا الردّ بالذات هو شرارة الجولة العسكرية، ومجرّد بداية نارية كبيرة لها.
لا يوجد في الواقع المُعطى وفق التوازن القائم في الإقليم مساحة للمناورة في منطقة الوسط من هذا التوازن.
إذا عُدنا ــ ونحن يجب أن نعود دائماً ــ إلى أهداف نتنياهو من الاغتيالات، واتفقنا ــ وهنا من المفترض أن نتّفق ــ أنّ الهدف منها كان بالأساس الحصول على صورة تظهره بأنه صاحب اليد الطُّولى، والقادر على “الإبهار”، والذي لديه القدرة والجرأة على تنفيذ عمليات في غاية التعقيد والصعوبة الاستخبارية ــ وهو فعلاً كذلك ــ والذي يبدو من خلالها أنّه يتمتع باختراقات نوعية حسّاسة في محيط، وفي بيئة “عدوّه” ــ وهو صحيح كذلك ــ إذا اتفقنا أنّ هذا هو الهدف الأكبر والأهمّ لهذه الاغتيالات، فإنّ المسألة لا تعود لكونها عمليات مؤلمة، وهي مؤلمة حقاً، وإنّما تعود ــ وهذا هو الأهم ــ لكونها اللحظة التي تبدو فيها دولة الاحتلال، أو تبدو فيها إيران، الأولى بكل حلفائها، والثانية بكل “المحور” الذي تقوده في لحظة مكاسرة حول سؤال: لمن اليد الطُّولى في هذا الإقليم؟ أو حول سؤال: هل تقبل إيران نظام الهيمنة الأميركية عليه دون منازع حول سيطرتها على مقدّراته؟ أو هل ستقبل الولايات المتحدة لأي قوة إقليمية أن تهدّد هذه الهيمنة؟ أو تنازع الولايات المتحدة عليه في لحظة تاريخية فارقة في واقع التوازنات الدولية، حيث تخسر الحرب في أوكرانيا، ولم يعد لديها سوى بعض الطلقات الأخيرة، كالعملية التي قامت بها القوات الأوكرانية من اختراقات في منطقة كورسك الروسية، وحيث خسرت، وشبعت خسارة معركتها الاقتصادية مع الصين، واضمحلّت مسألة تايوان، وكادت تتلاشى من جدول الأعمال الأميركي و”الغربي” أو تكاد.
ونحن نعرف طبعاً أن نتنياهو الذي اعتقد واهماً بأنّ الاغتيالات قد “شالت له الزير من البير” ستستحيل عليه الموافقة على خطة بايدن الذي تضمنها قرار مجلس الأمن، وهو ذهب إلى تلك الاغتيالات لكي يخلط كل الأوراق، ولكي يحول الردّ الإيراني، وكذلك الردّ من قبل “حزب الله” إلى فزّاعة لإعادة استقدام الأساطيل الأميركية و”الغربية” إلى “المتوسط” و”الأحمر”، وإلى مضاعفة شبكة الدفاع الجوي “لحماية” الدولة العبرية من الضربات المتوقعة، وقد نجح في ذلك بعد أن “أقنع” أميركا أثناء زيارته لها بأن الذهاب إلى صفقة في قطاع غزة ليس سوى إعلان هزيمة أميركية، وهزيمة إسرائيلية، وأن تبعاتها ليست سوى مجرّد مقدّمة لانسحاب أميركي من سورية والعراق، وكيف أن مثل هذا الانسحاب ليس سوى فتح الطريق بين طهران وبين ساحل شرق “المتوسط” كلّه، وكيف أنّ هذا الأمر سيعني حزاماً نارياً حول دولة المشروع الصهيوني، ليس من الناحية النظرية، وإنّما حزام مدعم بالإسناد الروسي، وكذلك الإسناد الصيني، وأنّ الإقليم في هذه الحالة سيتمرّد على نظام الهيمنة الأميركية عليه.
من هنا لم تعد المعركة، أو الجولة العسكرية الحتمية المرتقبة هي مجرّد تشاطر وتذاكٍ من قبل نتنياهو على الدولة العميقة في أميركا، وإنّما تحوّل الأمر برمّته إلى مصلحة أميركية و”غربية” عليا.
مصلحة نتنياهو تكمن هنا في أنّ الجولة العسكرية المرتقبة، في ظلّ حشد لم نشهد له مثيلاً منذ الحرب العالمية الثانية هي أنّ لديه “فرصة”، أو هكذا يعتقد بأنّ أميركا ستشارك في الجهود العسكرية المباشرة من هذه الجولة، وأنّ هناك إمكانية لتدمير المنشآت النووية الإيرانية أو بعضها على الأقلّ، وهناك فرصة أكبر لتدمير مقوّمات “حزب الله” أو بعضها المؤثّر، ما يجعل من الإخفاق الإسرائيلي الحالي مجرّد خسائر في إطار معركة كبيرة، تُخاض تحت عنوان حماية دولة الاحتلال، وهي تدفع الثمن الذي “يستحقه” هذا العنوان.
وهو في هذه الأثناء لن يكون مجبراً على التخلّي عن أحد، وليس لديه ما يخسره، إن لم يكن أنّ العكس هو الصحيح.
وفي نهاية المطاف فإنّ المغامرة بالمزيد من الأثمان الباهظة التي سيتعيّن على دولة الاحتلال أن تدفعها مقابل كلّ هذا “السخاء” الأميركي هو أصلاً لن يكترث به على الإطلاق كما أثبتت التجربة على مدار أكثر من عشرة شهور مضت، وقد عرّض الدولة العبرية لكلّ الأخطار التي تعرضت لها حتى الآن، وسيعرّضها إلى المزيد من هذه الأخطار، طالما أنّه قادر على الإمساك بالحكم، وعلى التشبُّث بالكرسي، وطالما أنّه قادر على الدفاع عن مستقبله السياسي.
لذلك كلّه المسألة لم تعد مسألة الردّ الإيراني، أو الردّ من “حزب الله” اللبناني، أو اليمن، لأنّ الأمر تجاوز هذه الجزئية بكثير.
الردّ سيأتي، و”تأخّر” الردّ تحوّل من الجانب التقني إلى قراءة المشهد السياسي، والحسابات تطوّرت وتعمّقت، وأصبحت على مستويات أخرى.
لا يمكن أن تقتنع دولة الاحتلال بالموافقة على صفقة جدّية متوازنة قبل هذه الجولة العسكرية الرهيبة، وعندما تكتشف أميركا أنّ حماية دولة الاحتلال الإجرامية العنصرية الموغلة بالتوحُّش سيكون لها ثمن أعلى من الثمن الحالي، وأنّ تهديد مصالح أميركا، ومصالح “الغرب” في عموم الإقليم سيصبح أعلى ممّا كان عليه حتى الآن، عندها فقط ستحسم أميركا أمرها بالصفقة، وستسقط حكومة نتنياهو، لأنّ هذا الإسقاط سيكون بمثابة الممرّ الإجباري لأيّ وقف لتدهور الإقليم نحو الحرب الشاملة، والتي هي حرب عالمية لا ينقصها سوى بعض الشكليّات، وبعض الإجراءات الرسميّة.
ممارسة الحرب النفسية على “محور المقاومة” لا تبدو سهلة طريقها، والتهويل والتهويش لردع هذا “المحور” يبدو أنّه أبعد ما يكون عن الواقع، وأميركا قد تغامر كثيراً إذا لم تدرك بأنّ الحرب بقدر ما هي وجودية بالنسبة لدولة الاحتلال، فإنّها وجودية ومصيرية بالنسبة لباقي أطراف الصراع في كامل الإقليم، أيضاً.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر