انتصروا علينا بالقتل، وانتصرنا عليهم بالقتال
كتبتُ قبل أسبوع واحد فقط مقالاً بعنوان «في جنوب لبنان، ومن جنوبه سيبدأ الانهيار الإسرائيلي».
ومن وحي هذا العنوان، ومن «وقف إطلاق النار» بالذّات سأُحاول أن أُفسّر، أو الإجابة عن السؤال: لماذا وكيف وصلنا إلى وقف إطلاق النار؟ ولماذا الآن، ولماذا لم ينتظر بنيامين نتنياهو صديقه الذي انتظره «على أحرّ من الجَمر»، وكيف، ولماذا سارعت دولة الاحتلال، وسرّعت من الاتفاق؟
هذه الحرب، التي بدأت في 7 أكتوبر 2023، والتي امتدت على مدار نحو 14 شهراً حتى الآن، والمستمرة على جبهة قطاع غزة ، ولن تتوقف على الجبهات الأخرى ــ كما أرى ــ وسيتم اختبارها في الشهرين القادمين على الجبهة اللبنانية نفسها.. هذه الحرب سيكتب عنها الكثيرون، وستبحث وتدرس في مراكز الدراسات العسكرية والأمنية في العالم كلّه، وستخلّد كحرب وحيدة وفريدة من نوعها، بما انطوت عليه من خصائص وسياقات، وبما شهدته من دمار وقتل، ومن تضحيات وبطولات، ومن مفارقات ومقاربات وتحالفات، وما أدّت إليه وما ستؤدي إليه من تغيّرات وتطوّرات على كلّ الصعد والمستويات.
كلّ هذا سيشغل المهتمّين، وسيغريهم بالتأمّل والتفكير، وبالقراءة والتمحيص والاجتهاد، أيضاً.
أمّا لماذا سارعت دولة الاحتلال للقبول بوقف إطلاق النار، وبشروط لا تمتّ بأيّ صلة جوهرية، ولا حتى غير جوهرية لما كانت تتبجّح به القيادات السياسية والعسكرية والأمنية قبل عدّة أيّام فقط من هذه الموافقة السريعة والمتسارعة والمتسرّعة، أيضاً، فهذا هو الموضوع.
الموضوع بكلّ بساطة هو أنّ الحرب البرّية كانت في حسابات القيادات الإسرائيلية عملية متلازمة ومترافقة مع «الانهيار» الذي انتظره هؤلاء الجناة كنتيجة «مؤكّدة وحتمية» لـ»الرزمة القاتلة» التي بات يعرفها الجميع.
والحقيقة أنّ الحسابات الإسرائيلية لم تكن لا مُغالية ولا عشوائية، ولم يكن منتظراً غير مثل هذه النتيجة.
التقارير التي وردت من الميدان بعد ضربات «البيجر»، ثم «اللاسلكي»، ثم التقارير التي سلّمها الطيّارون الإسرائيليون لقيادات سلاح الجوّ حول عدد الغارات العدوانية، ومستويات التدمير، وحول طبيعة القنابل التي تمّ استخدامها كلّها كانت توحي لقيادات جيش الاحتلال بأنّ الحزب على حافّة الانهيار الشامل.
لم تتوقّف قيادة الجيش هنا، بل ألحقت كلّ هذه «الرزمة»، كما كانت قد فعلت قبلها بسلسلة جديدة من الاغتيالات التي طالت الأمين العام لـ»حزب الله» اللبناني حسن نصر الله، ومن ثم نائبه في الجانب الجهادي والتنفيذي المباشر هاشم صفيّ الدين، وقيادات وازنة في كلّ المجالات.
أمام هذه الوقائع المفترضة، اعتقدت القيادات الإسرائيلية أنّ الحرب البرّية بعد كلّ هذا التدمير لن تكون صعبة أو مكلفة على وجه خاص، رغم أنّ معاودة إطلاق الصواريخ، وبكثافة ودقّة بعد عدّة أيّام من «الرزمة»، وبعد عدّة أيّام أخرى من اغتيال نصر الله ورفاقه كانت قد أوحت للقيادات الإسرائيلية بالحذر، وبعدم الإفراط في التفاؤل!
وبالفعل لم تتصرّف القيادات العسكرية الإسرائيلية برعونة كبيرة وبدأت المرحلة الأولى من الحرب البرّية بأعلى درجات الحذر، وذلك حين استقدمت «وحداتها الخاصة» العالية التأهيل والتدريب والخبرة القتالية في ظروف حرب العصابات لما سمته عمليات الاستطلاع بالنار، وهي وحدة «إيغوز».
فشلت هذه المرحلة فشلاً ذريعاً ومدوّياً، إذ استطاعت قوات الحزب أن تقتل منها العشرات، وأُصيب منها المئات، ولم تتمكّن من إنجاز ما يمكن الاعتداد به، أو المراكمة على نتائجه.
هنا اضطرّت القيادة العسكرية إلى الدخول في المرحلة الثانية للحرب البرّية، وهي المرحلة التي ــ كما شاهدنا ــ تحوّلت إلى محاولات اختراق على عدّة محاور، وتدمير قرى الحافّة بالكامل، والتمهيد بقصف مكثّف جدّاً من الطيران الحربي، والمدفعية، ومن البحر أحياناً، وبعددٍ قليل نسبياً من الدبّابات.
فشلت هذه المرحلة، أيضاً، ولم تتمكن قوات الاحتلال من غزو أي قرية والاستقرار فيها، أو تحويلها إلى قاعدة ارتكاز لمزيد من الاختراق، وبقيت هذه القوات تتعرّض للخسائر في الأرواح والعتاد، وغالباً ما كانت تعجز عن القتال بسبب كثافة الصواريخ التي كانت تنزل عليها، ودقّة إصابة هذه الصواريخ، ناهيكم طبعاً عن التكتيك العبقري الذي اتبعه الحزب بقصف لا يتوقّف على القواعد التي تواجدت فيها قوات الاحتلال في الخلفية المباشرة لقواتها المتقدمة، وهو ما حرم الأخيرة من فرصة المزيد من التقدم في ظل صعوبة الحركة الانسيابية بينها، والقوات في المواقع الخلفية المباشرة لها.
وهنا، أيضاً، كان على القوات الإسرائيلية أن تبدأ المرحلة الثانية، أي إضافات، ومن دون مكياج أو ديكور.
وهكذا تبخّرت أهداف الحرب كلّها، وعادت القيادة الإسرائيلية إلى حيث كانت عليه بعد حرب تموز 2006، حين قبلت بالقرار 1701 مع وقف التنفيذ.
الآن وافقت إسرائيل ــ من حيث المبدأ ــ على أقلّ من الشروط آنذاك، وإذا أرادت مجرّد تحقيق عودة مستوطنيها إلى الشمال فعليها أن تقبل التنفيذ، وهذه تسمّى الهزيمة.
خرج الحزب منتصراً انتصاراً بائناً، ولن يؤثّر عليه بشيء نقل بعض معدّاته الثقيلة إلى شمال «الليطاني»، قد أثبت أنّ صواريخه تصل إلى حيث يريد.
الحزب في ضربة 24/11 الجاري أفهم القيادة الإسرائيلية أنّ حربها على لبنان قد فشلت، وقد فهمت دولة الاحتلال ذلك تماماً.
الثمن كان باهظاً على الحزب، وعلى لبنان، وسيكون مضاعفاً على فلسطين وعلى القطاع، وهي أمور عاجلة سنكتب عنها في المقالات القادمة، لكن المهمّ أنّهم لم ينتصروا علينا سوى بالقتل، في حين أنّنا انتصرنا عليهم بالقتال.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر