صُدفَة |
بالصدفة التقيت بصديق من بلد أوروبي عريق في مطار إسطنبول أثناء عودتي من المغرب.
جلسنا قرابة الساعتين أو أقلّ قليلاً، ولأنّي أتواصل معه بصورة متقطّعة كانت الجلسة مناسبة جيدة لتبادل الآراء حول ما يجري في قطاع غزّة، وحول مشكلات الإقليم في ضوء ما يجري في الأخير، وفي الضفة الغربية، أيضاً.
بعد أن شرحت له رأيي في كلّ هذه التطوّرات، طلب منّي أن أُصغي إليه، وأن أنقل رأيه فيما يدور من أحداث فاصلة، دون أن أذكر اسمه وبلده، لأنّه معروف لدى الأوساط الصهيونية الأكثر تعصُّباً وعنصرية في بلده، وهم يتحيّنون الفرصة لإلحاق الأذى به، وهم قادرون على ذلك، ولديهم الوسائل والأساليب التي يستطيعون من خلالها الضغط عليه من “اليد التي توجعه” كما عبّر عن ذلك، بالمَثَل الذي استخدمه بلغة بلده في هذا المقام.
قال: “إذا أردت أن تُسدي لي معروفاً، فسأكون سعيداً بأن تنقل ما سأقوله لك الآن على صفحات الجريدة التي تكتب فيها “الأيّام”، وإذا ما أوصلتَ ما سأقوله بالوسائل المتاحة لديك، من صديقٍ للشعب الفلسطيني، أمضى عشرات السنين من عمره في دعم نضال هذا الشعب الشجاع، وتبنّي أهدافه وحقوقه المشروعة، من أجل أن يصل هذا الشعب إلى ما يستحق من حقوق وأهداف”.
وتابع: “قد تكون حركة حماس قليلة الخبرة في إدارة المجتمع الذي وجدت نفسها تسيطر عليه في القطاع، وهي سعت وخطّطت لهذه السيطرة، لكنها راكمت الكثير من عناصر الفشل والإخفاق في هذه الإدارة بالذات، ولم تثبت أنها تتحمّل مسؤوليتها الاجتماعية والسياسية المطلوبة”.
وممّا لا شكّ فيه أنّ “حماس” أقلّ نضجاً من باقي الفصائل، وحتى بالمقارنة مع القيادات الرسمية الفلسطينية، وهو ما يعرّضها موضوعياً لنوع من أخطاء التقدير، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بقضايا كبيرة أو مفصلية، وحيث يمكن أن تكون مصيرية، أيضاً.
كلّ ما طُرح على “حماس” بالوساطة المثابرة من قطر، ومن مصر، أيضاً، هو تهدئة دائمة، وليس مؤقّتة، مقابل تسهيلات اقتصادية، ومقابل حقّ إسرائيل بمنعها من التسلُّح، والتدخُّل عندما ترى إسرائيل “خطراً” يمثّله هذا التسلُّح، وأعتقد أنك، أنت نفسك كتبت بهذا الشأن مراراً.
أي باختصار لم تحصل “حماس” من العروض الإسرائيلية على إنهاء الحصار، ولا على ما يمكّنها من الاستمرار بحكم القطاع الذي كان قبل الحرب مباشرة يبدي معارضة قويّة لاستمرار حكمها له ــ يتابع صديقي ــ وهي كانت تدرك جيداً أنّ القبول بهذه العروض الإسرائيلية سيُخرجها موضوعياً من دائرة “المقاومة” ويحوّلها إلى شكلٍ موازٍ للشكل القائم من الحكم في الضفة.
ويرى صديقي أنّ وجود حكومة على هذه الدرجة من التطرُّف في إسرائيل، باستراتيجية مُعلنة حول حسم الصراع كان سيعني أنّ هذه الحكومة كانت ستذهب إلى اجتثاث “حماس” على كلّ حال، لأنّ حسم الصراع لا يستقيم مع بقاء الحركة إلّا إذا رضخت بالكامل للشروط الإسرائيلية.
قامت “حماس” بضربةٍ استباقية علّها تخرج من هذا المأزق إن هي أرادت أن تُبقي نفسها في دائرة الفعل المقاوم، وأرادت أن تُعيد الموضوع الفلسطيني إلى دائرة الاهتمام الإقليمي والدولي بدلاً من مسار “التطبيع” الذي كان سيعني تهميش فلسطين، والقضاء على مقاومتها، والاستفراد بالضفة بكلّ ما ينطوي عليه الأمر من خطرٍ حتى على المسجد الأقصى نفسه.
حيث تصبح التسوية الوحيدة الممكنة هي التسوية بالشروط الإسرائيلية، والمباركة الأميركية والرضوخ الإقليمي لهذه التسوية.
باختصار، يرى هذا الصديق الكبير للشعب الفلسطيني أنّ “حماس” قد أرادت إعادة خلط كلّ الأوراق، وخلق واقع جديد في المعادلة الإقليمية كلها، وفي المعادلة الدولية، أيضاً.
لم تنجح إسرائيل حتى الآن بإحباط خطّة “حماس”، ولا حتى بعد كلّ هذا الدعم الأميركي و”الغربي”، وما مرّ من فترةٍ طويلة على هذه الحرب يعني شيئاً واحداً أكيداً وهو أنّ مثل هذا الواقع الجديد أصبح ماثلاً للعيان.
كلّ هذه الآراء لصديقنا هي آراء مهمّة بالرغم من أنّ أوساطاً واسعة من الفلسطينيين تعرفها وتعي أبعادها، وتبقى وتستمد أهمّيتها من كونها تأتي على لسان مراقب مخضرم في متابعة شؤون المنطقة ومحورية الواقع الفلسطيني فيها.
نقطتان مهمّتان أضافهما الصديق، وأرى أنّهما تستحقّان التأمُّل والتفكير:
الأولى، هي أنّ الخارطة السياسية والحزبية في إسرائيل ستشهد انفجارات مدوّية وغير مسبوقة، وفوضى تفوق كلّ توقُّع، واصطفافات من شأنها أن تصل بإسرائيل خلال العقد القادم على الأقلّ إلى مصاف وحواف الدولة الفاشلة بالمقارنة عمّا كانت عليه قبل هذه الحرب.
والثانية، هي أنّ النظام العربي الفاقد للشرعية في معظم بلدانه، والفاقد للسيادة الوطنية عموماً، بما فيها ــ وأحياناً “على رأسها” الدول الغنيّة ــ والفاقد، أيضاً، للثقة بالنفس، وبالقدرة على الانحياز لمشروعات وطنية، ولمشروع قومي تحرّري سيكون في أغلب الظنّ مُجبراً، وسيشهد حالات متسارعة لإعادة بناء بعض الشرعيات، أو المغامرة بمواجهة موجات عاصفة من جماهير بلدان هذا النظام ستفاجئ الجميع، لأنّها لن تكون موجات جماهيرية قابلة للتدجين والترويض أو الامتطاء كما حصل مع موجات “الربيع العربي”.
ومن محاسن صُدف هذا النقاش والتداول للأفكار أنّ صحيفة “يديعوت أحرونوت”، وفي تناقض غير مسبوق مع السردية الرسمية الإسرائيلية حول هذه الحرب ذكرت قبل عدّة أيّام أنّ استخبارات الجيش، والمخابرات العامة الإسرائيلية قد توصّلتا معاً، وبالرجوع إلى الكثير من المعطيات العينية بأن “حماس” قامت بما قامت به في 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل عندما توصّل يحيى السنوار إلى قناعةٍ تامّة بأنّ كافّة الطرق قد أُغلقت تماماً.
كانت “حماس” تراهن على أن يكون اشتعال الضفّة هو البديل عن هذه الحرب لدرء الأخطار عن المسجد الأقصى، وتعطيل مفاعيل “التطبيع” على القضية الفلسطينية، لكنّ “حماس” لجأت إلى الهجوم لأسر عددٍ كبير من الجنود، والقيام بعملية عسكرية مؤثّرة استباقاً لمخطّط “المجلس الوزاري المصغّر” “الكابينيت” للقيام بحملة واسعة من الاغتيالات لقيادات كبيرة في “حماس”، وكان من المخطّط أن تتمّ هذه العمليات مباشرة بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل، أيّ بالضبط مع انتهاء “عيد العُرش” اليهودي.
وأكّدت استخبارات الجيش والمخابرات العامة في هذا التقدير للموقف أنّ “حماس” كانت على قناعةٍ بأنّ إسرائيل تعيش أزمة داخلية مستعصية، وأنّ جبهتها الداخلية هشّة ومفكّكة، والأهمّ أنّ جيش الاحتلال ربّما لن يكون قادراً على شنّ حربٍ واسعة وشاملة على القطاع بسبب عمق استفحال هذه الأزمة.
هذا التقدير يُسقط بشكلٍ مدوٍّ كلّ ما تذرّعت به حكومة التطرّف والعنصرية، وهي بمثابة وثيقة استثنائية عن حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل على القطاع، وهذه الحرب بهذه المقاييس ليست سوى “فرصة” لجأ إليها الائتلاف الفاشي لتصفية الحسابات مع الشعب الفلسطيني لحسم الصراع.
الفشل في حسم الصراع بدءاً من الفشل في القطاع، والفشل في كلّ شيء باستثناء الإبادة والإجرام، والذي بدوره سيعمّق من أزمة إسرائيل في علاقاتها بالإقليم والعالم، وبكلّ المجتمع الدولي ومؤسّسات القانون الدولي لاحقاً.
بعد أن خسرت إسرائيل معركة شعوب العالم قاطبةً، وانكشف زيف مظلوميّتها، ورواياتها، وسرديتها عن هذه الحرب تحديداً، وبدأ تصدُّع التحالف الذي وقف معها حتى في هذه الإبادة، وافتضاح دعايتها عن هذا التوحُّش والإجرام تحت مسمّى الدفاع عن النفس.
بعد كلّ الخسارات، وهذا الانكشاف والافتضاح لم يجد نتنياهو بعد خمسة أشهر تقريباً من الحرب على القطاع بكلّ أنواع الأسلحة التي فاقت القنبلة التي ألقتها الولايات المتحدة على اليابان بثلاثة أو أربعة أضعاف، وبعد هذا التجويع والترويع والتشنيع بجثث الأطفال والنساء، وعمليات القتل والإعدام الميداني للفلسطينيين في الضفة.. لم يجد نتنياهو ليقدّم للعالم والإقليم، وللقوى السياسية والعسكرية في دولة الاحتلال سوى ما جاء في وثيقته عن “اليوم التالي” للحرب الهمجية في غزّة.
لا تستحقّ هذه الوثيقة أيّ اهتمام، لأنّها هزلية، وتحوّل بموجبها نتنياهو إلى شخص كوميدي أكثر منه رجل دولة أو قائداً سياسياً تواجه دولته وشعبه ومجتمعه كلّ هذه الويلات.
لم يعد في إسرائيل من يصدّق نتنياهو، ولا حتّى حاضنته الشعبية الأكثر تطرُّفاً، ولكنّ الجمهور الإسرائيلي لا يريد أن يصدّق أنّ كلّ ما يقوله هو محض افتراء وخداع وتضليل، لأنّ الجمهور في هذه الحالة يصبح مطالباً بالانتفاض العارم على هذا الواقع، أو الكفر في كلّ شيء، والانزواء في غياهب الانطواء والإحباط، إذا عجز عن مغادرة إسرائيل، ولم يجد المكان المناسب للعيش فيه.
في إسرائيل الجميع مرتبك ومحتار، محبط وخانع، يتعلقون بقشّة، وإعلام دولة الاحتلال تجاوز مرحلة الإعلام الهابط قليلاً بعد خمسة أشهر تقريباً من إعلام الجوقة.
ينطبق على إسرائيل اليوم المَثَل الفلسطيني “التغميس من خارج الصحن”، لأنّ كلّ ما تقوله اليوم هو شعارات فارغة لا تنفع حتى للغناء على هيئة مواويل، أو هي تتحدّث عن قضايا صغائرية، وهوامشية ليس لها في الواقع أيّ أهمية.
“اليوم التالي” للحرب هو، كيف سيكون الوضع في إسرائيل؟ كما قلنا وكتبنا أكثر من مرّة، و”اليوم التالي” للحرب لا يتحدّد بحجم الدمار والإجرام وأساليب القتل والتطهير العرقي، وليس حجم الكوارث الإنسانية هو الذي يحسم نتائج الحرب، وإسرائيل اليوم، وإسرائيل غداً أقلّ أمناً وأماناً في تاريخها كلّه.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر