طـلال سلمان “علـى الطريق” إلى المقاومة والعروبة
بقلم : د. وليد القططي
رحل قبل أيام الكاتب والصحافي الكبير طلال سلمان، أحد أهم عمالقة الصحافة العربية المُلتزمة بقضايا الأمة، الذي ارتبط اسمه بجريدة “السفير” اللبنانية، التي كانت “صوت الذين لا صوت لهم”، واعتُبرت “جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان” ، تأكيداً لنهجها الوطني القومي المقاوم، وكانت مقالات الأستاذ طلال فيها تحمل عنوان “على الطريق”، وأهم ما يميّزها إضافة إلى التزامها بقضية فلسطين هو التزامها بنهج المقاومة ومشروع العروبة، فقد آمن طلال سلمان بالمقاومة طريقاً لخلاص الأمة العربية وتحرير إرادتها وأرضها، وآمن بالعروبة مشروعاً لنهضة الأمة العربية وتوحيد كلمتها وشعوبها، فكانت مقاومته عروبية، وعروبته مقاوِمة.
آمن طلال سلمان بأنّ المقاومة فكرة قبل أنْ تُترجم عملاً، وثقافة قبل أنْ تُطبّق ممارسة، فالفكرة هي بداية كل عمل إنساني مُنتج، والثقافة هي مصدر كلّ فعل حضاري مُبدع، والمقاومة من أسمى الأعمال الإنسانية والحضارية، وبغياب فكرة المقاومة تفقد المقاومة بُعدها الإنساني وجوهرها الحضاري، ويفقد المقاومون بوصلتهم فتضلّ بهم الطريق ويلتبس عليهم الهدف، وبغياب ثقافة المقاومة تتسلّل إلى العقول ثقافة المساومة، وتتسرّب إلى النفوس روح الهزيمة، وتستقرّ في القلوب عوامل الوهن والخور… فأدرك طلال سلمان أهمية الفكرة والثقافة فتجلّت عنده كلمة مُقاتِلة وكتابة مقاوِمة، فنشرها روحاً تسري في الأمة؛ كي لا تحطّم النكبات روح التحدّي فيها، وكي لا تكسر الهزائم إرادة النصر فيها.
الكلمة المُقاتِلة والكتابة والمقاوِمة التي آمن بها ومارسها طلال سلمان حفاظاً على روح التحدّي وإرادة النصر في الأمة، ميّزت كتاباته الخاصة، ومضمون جريدة “السفير” التي أسسها ورأس تحريرها، وتجلّت في نهجها المقاوم، وخطها الثوري، وانحيازها لقضايا الأمة والكادحين. ومن ذلك تبنّيها لقضايا: فلسطين كقضية مركزية للأمة العربية ورفض نهج التسوية والتطبيع، والوحدة القومية العربية ورفض فرض التبعية والإذلال، ووحدة لبنان الوطن أرضاً وشعباً ورفض سياسة التقسيم والطائفية، وحقوق الفقراء والكادحين بواسطة العدالة الاجتماعية ورفض كل أشكال الظلم والاستغلال، وإبراز رموز المقاومة العربية أمثال الرئيس أحمد بن بله والزعيم جمال عبد الناصر والسيد حسن نصر الله، ورفض رموز الإذعان والاستسلام.
المقاومة كنهج عند طلال سلمان تستند إلى العروبة كمشروع قومي، وهوية قومية، ومضمون فكري وسياسي يوجّه المقاومة، والعروبة عنده انتماء واختيار يقرّره الإنسان العربي، ليس ليتغنّى بالماضي بل ليصنع المستقبل، وإنْ كانت ماضياً فهو الماضي الذي قاوم فيه العرب الاستعمار ليحقّقوا استقلالهم وسيادتهم ومصالحهم فوق أرضهم، وهي التي حمت شعوب الوطن العربي من خطرَي: التغريب تحت شعار التحديث فمنعت استلابها للغرب، والتتريك تحت شعار الخلافة فمنعت استلابها للماضي.
فرأى سلمان في العروبة الحل لأزمة الأمة العربية؛ ولكنها تحتاج إلى إعادة صياغة برنامجها الفكري والسياسي لصناعة مستقبل يحفظ كرامة الإنسان العربي، فهي عنده عروبة الأمل والوحدة والتقدّم والتحديث والتجديد والنهضة والوعي، عروبة مُقاتِلة ضد الاحتلال والاستبداد والاستغلال والفساد.
ويؤكد طلال سلمان أهمية العروبة كمشروع للوحدة والنهضة والتحرّر، تحت عنوان “العروبة هي الحل” كتب: “نحن من دون العروبة سنتحوّل إلى مجموعات طائفية وإثنية وعرقية، لن نستطيع معها تأسيس مشروع عربي نهضوي قومي ينقذ الإنسان العربي من الركود والإحباط، وجحيم الأمة من ويلات الأمواج الأميركية والغربية والإسرائيلية العاتية”.
وفي كتابه “لبنان العرب والعروبة” كتب: “فكرة العروبة في حقيقتها النضالية التحررية المستقبلية فعل نضالي ومستقبلي، فمستقبل العرب في وحدتهم القومية”. وفي مقال بعنوان “جمال عبد الناصر… الغائب الحاضر” كتب: “تحية له وهو في غيابه أشد حضوراً من كلّ هؤلاء الذين يريدون لنا أن نعيش خارج التاريخ وبلا تاريخ”. وإيمانه بجمال عبد الناصر الفكرة العروبية الناصرية لم يمنعه من توجيه النقد للناصرية كنظام حكم.
ناقش طلال سلمان إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام من رؤيته الفكرية العروبية الناصرية في مقالات وكتابات عديدة منها “الإسلام السياسي والعروبة… الماضي يُقاتل الهوية والمستقبل”، وجّه فيها نقداً لاذعاً للإسلام السياسي خاصة التيارين السلفي والإخواني، واعتبرهما عامل تفريق للمسلمين بينما الإسلام كدين عامل توحيد للمسلمين، واعتبر أن الخطر على الإسلام والمسلمين يأتي من مصدرين هما: التطرّف بذريعة الخوف على الدين، واستغلال الدين في الوصول إلى السلطة.
وانتقد سلمان موقف الأنظمة العربية التي وصلت إلى السلطة بعد ثورات “الربيع العربي” تحت شعار “الإسلام هو الحل”، خاصة في غياب مواقفها السياسية من قضايا الأمة ولا سيما فلسطين والتدخّل الأميركي، ودعا إلى فكّ الارتباط بين العروبة كمشروع قومي والإسلام كمشروع سياسي. فكّ الارتباط بين العروبة والإسلام في رأيي ناتج عن علاقة متأزمة بينهما أنتجت تناقضاً وهمياً، ساهم فيه المتطرفون من العروبيّين والإسلاميين، سببه المحتوى الفكري اللا ديني – العلماني والماركسي – لبعض تيارات القومية العربية، والمحتوى الفكري اللا قومي، الوهابي والقطبي، لبعض تيارات الحركة الإسلامية.
والحقيقة هي استحالة الفصل بين العروبة كلغة وهوية قومية والإسلام كثقافة وحضارة إنسانية، فالإسلام هو المحتوى الحضاري للعروبة، والمضمون الثوري للقومية، ورسالة العرب للبشرية، والعروبة كانتماء هي هوية رسول الإسلام، والعروبة كلغة هي لغة كتاب الإسلام، والقاعدة الصلبة التي انطلقت منها رسالة الإسلام، وهي عند المفكّر القومي ميشيل عفلق “العروبة جسم روحه الإسلام”، وعند المفكّر الإسلامي محمد الغزالي “العروبة وعاء للإسلام”، بينما المفكّر الشهيد فتحي الشقاقي يرى في الإسلام القوة المحرّكة للأمة العربية في صراعها ضد المشروع الاستعماري الغربي نحو التحرّر والوحدة والنهضة.
علّق طلال سلمان على احتجاب النسخة الورقية من جريدة الاستقلال بقوله “لا بدّ للحكاية أن تخلص”، فخلصت حكاية السفير باحتجابها، ثم خلصت حكاية صاحب السفير برحيله، ولكن حكاية الأمة العربية لم تنتهِ بعد، وأكبر شاهد على أنَّ الحكاية لم تنتهِ بعد معنى كتاب طلال سلمان “الهزيمة ليست قدراً” بعنوانه ومضمونه. ومما كتبه حول معنى العنوان والمضمون: “على العرب إلقاء ثوب الهزيمة… المثابرة في شقّ طريق المستقبل مهما طال الزمن… ودراسة واستيعاب عوامل الهزيمة وتجاوزها للركوب في المستقبل”، وإيماناً منه بأهمية الكتابة كتب: “مهمة الكتابة التحريض على التفكير وطرح الأسئلة الموجعة على النفس للخروج من واقع الهزيمة في الماضي إلى أُفق النصر في المستقبل”.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر