لأجل وقف التطهير العرقي ومنع التهجير: درء المفاسد أفضل من جلب المنافع
منذ أن بدأت العملية العسكرية الكبيرة في الرابع من اكتوبر الماضي واستهدفت ما تبقى من محافظة شمال غزة ما زالت وتيرة التدمير تتصاعد بشكل جنوني تستخدم فيه قوات الاحتلال مختلف الوسائل لتدمير ما تبقى من بيوت في مخيم جباليا وبيت لاهيا ومشروع بيت لاهيا وبيت حانون والعزبة وكانت قد دمرت بشكل كلي ابراج الندى العودة والشيخ زايد والقرية البدوية والأحياء المتاخمة لهذه المناطق، وفي سياق عمليتها العدوانية هذه عملت على شق شارع يزداد عرضه بشكل يومي يفصل محافظة شمال غزة عن مدينة غزة حيث يمتد من شارع الرشيد غرباً مروراً بمنطقة التوام ودوار الصفطاوي وصولاً لمنطقة الادارة المدنية شرقاً ولأجل شق هذا الشارع الفاصل يقوم سلاح الهندسة في جيش الاحتلال بنسف عشرات المباني ويحولها إلى اثر بعد عين على جانبي الطريق الأمر الذي يعني اقتطاع عشرات الكيلو مترات من المساحة التي تضيق يومياً وتجعل امكانية الحياة فيها مستحيلة،،
هذه العملية الواسعة ادت فيما ادت اليه لتدمير ما تبقي من البنية التحية في المناطقة آنفة الذكر من شوارع وشبكات الصرف صحي ومحطات تحلية المياه واجهزت على ثلاث مستشفيات كانت تعمل بشق الأنفس لتقديم ما أمكن من العلاج للناس وقد شاهد العالم اجمع عبر شاشات البث المباشر ووسائل التواصل الاجتماعي التدمير المتدرج لمستشفى كمال عدوان وقتل واعتقال عدد من افراد الطواقم الطبية وعلى رأسها الدكتور حسام ابو صفية الذي غدا ايقونة إنسانية يعتز فيها كل صاحب ضمير حي،
من الواضح تماما ان عملية التدمير الشاملة هذه جاءت في سياق التنفيذ الغير معلن لخطة الجنرالات في حملة تطهير عرقي واسعة للدفع بأكثر من مئة وخمسون الف من سكان تلك المناطق ممن آثروا البقاء تحت بقايا بيوتهم منذ بداية العدوان قبل خمسة عشر شهراً للنزوح بفعل المجاعة التي فرضت و تحت النار التي أحرقتهم مخلفين اكثر من ألفي شهيد من فلذات أكبادهم دفنوا على عجل او تركوا تحت الأنقاض او على جوانب الطرقات والأزقة تنهش جثامينهم بكل اسف الكلاب الضالة وغالبيتهم من النساء والأطفال وكبار السن، تحت وطأة كثافة النار وشدة القصف التدميري نزح هؤلاء بعد ان جرى اعتقال اكثر من الف وخمسمائة منهم وهم في طريقهم حفاة عراة نحو مدينة غزة للإقامة في الخيام وفي مراكز الايواء التي انتشرت على عجل في الساحات العامة والشوارع في ظروف قاسية تشتد وطأتها مع دخول فصل الشتاء وبدء مسلسل غرق الخيام بالأمطار وتطايرها بفعل الرياح، علاوة استمرار مطاردة طائرات الاحتلال لهم ولغيرهم في مراكز الايواء بالقصف المتواصل وسقوط الشهداء والجرحى وجلهم من النساء والأطفال،
عملية التدمير الهمجية هذه زادت وتيرتها بشكل هستيري خلال الاسبوع الاخير ليس فقط قصفاً بالطائرات والبراميل المتفجرة بل ونسفتً عبر استخدام الروبوتات التي تحمل أطنان من المتفجرات استخدمت لتدمير احياء بأكملها بل وفي اللجوء لحرب حرق البيوت التي تنجو من القصف والنسف بحيث لم يبقى من معالمها شيئًا يمكن أن يكون صالحًا للسكن ناهيك عن فرض منع التجول بالنار على العديد من احياء مدينة غزة عبر انتشار القناصون وطائرات الكواد كابتر في الاحياء والأزقة تختطف ارواح كل متحرك،
من مكان اقامتي المؤقت الذي لا يبعد سوى مئات الأمتار عن مواقع الحدث اتابع اصوات هدير الدبابات وجنازير الجرافات واستمع لموسيقى الرعب من اصوات الصواريخ وقذائف الدبابات والمدافع ورشقات الرصاص الغزيرة من طائرات الأباتشي واستقبل بحزن وألم بين الفينة والأخرى موجات من النازحين حفاة عراة ممن أسعفهم القدر بالنجاة والوصول الى مأمن مؤقت، اتابع فصول هذه المحرقة المستمرة وأنا استمع واراقب مجريات الحراك السياسي وابصق والكثير معي على كل من يستخدم حياة الناس وأرواحهم وقوداً لرغبته في تحقيق مبتغاه حتى لو تم ابادة الجميع وضمان بقاءه،، وكما كل الذين ينتظرون لحظة سقوط قذيفة تحولهم إلى اشلاء وكما كل النازحين الذين يبتهلون للسماء لوقف الأمطار والرياح حتى لا تغرق خيامهم وتقتلعها الرياح نتابع جولات التفاوض كمن يتابع “حكاية إبريق الزيت” للوصول على صفقة ما زالت شروطها كما هي
قبل بدء العملية الهمجية الأخيرة في شمال غزة وأتساءل والدموع تتحجر في المآقي تراقب حجم التدمير الذي لم يترك مكان للناس تعود اليه واقول همساً يا رب الكون إلى اين يمكن أن يعود النازحون الذين تركوا بيوتهم واقفة تناطح عنان السماء وهي اليوم مجرد حطام وركام ، أتسائل (وحتى لا يزاود محترفي الكيبورد وغيرهم ممن أجادوا الرقص على الفضائيات) أعرف تماماً طبيعة العدو ومخططاته ومناوراته ومحاولاته فرض الأمر الواقع ،، لكنني اقترب اكثر لأقول انني اعرف اكثر انه من الممكن تفويت الفرصة على العدو وعدم منحه الفرصة التي يتحينها لتنفيذ مبتغاه، وقد كنت ممن حذروا من ذلك قبل البدء في هذه العملية الوحشية التي ما زالت مستمرة
ومرة اخرى أحذر بالقول انه من المتوقع ان تنتقل مثل هذه المحرقة إلى محافظات اخرى لتواجه نفس المصير والنتيجة ستكون مزيد من التدمير والتطهير والتهجير وفرض واقع لأمدٍ اطول، ثم الوصول بعد ذلك إلى صفقة بات الكبير والصغير يعرف حدودها في ظل موازين القوى القائمة خاصة ما شهدته المنطقة والعالم من تغييرات خلال العام الماضي، اعود واقول إن السياسة فن الممكن وفي الفقه أن درء المفاسد خير من جلب المنافع.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر