لا للتهجير وألف لا. |
ربما يدهشكم القول أنني لا استشعر الخطورة في مشروع التهجير، فهو ليس جديداً، ولا هو قدراً محتوماً، وقد أفشله شعبنا مراراً، بل إنني أرى في انكشاف المؤامرة بهذا الشكل المرعب، لو كانت الحالة سوية، فرصة ودافع للوحدة والتماسك وبداية للإصلاح. إنما مبعث القلق هو الوضع الداخلي وتعقيداته، وحالة الفهلوة السائدة وغياب العقل والمنطق في التعامل مع أكبر تهديد للوجود الفلسطيني، والاعتقاد بأن مسألة التصدي لهذا الخطر الداهم ليست أكثر من مجرد إدانات واستنكارات وبيانات صحفية و”هشتاقات” رفض على مواقع التواصل الاجتماعي تموت بعد يومين أو ثلاثة لا أكثر.
مكمن الخطر هذه المرة تحديداً، هو حال المواطن الذي خرج من الإبادة دون مقومات للحياة، ويعاني في خيام بدائية أوضاع إنسانية غاية في القسوة والصعوبة، ولا يظن عاقل أن التوقيت برئ، فهذه الأوضاع ترسم ملامح جريمة تهجير جديدة، وهي مصممة لإجبار المواطن الذي هو حجر الزاوية الأساسي في رفض وإسقاط المشروع، على البحث عن طريق النجاة بنفسه، كما فعل كثيرون طوال الـ 18 عاماً الماضية في ظروف أفضل بكثير، وبنفس الطريقة ولذات الظروف، تسربت عشرات آلاف العائلات من مخيمات الشتات في لبنان وسوريا والعراق باتجاه أوروبا ودول أمريكا اللاتينية.
ولا بد من التوضيح أن الحديث اليوم يدور عن “تهجير طوعي”، رغم أن التعبير يناقض نفسه بلاغياً، فالتهجير ينطوي على إكراه، وهو ما ينافي الحرية والاختيار، فضلاً عن أن الفاعل هنا هو الاحتلال وداعميه، لكن دون تحمل المسؤولية عن الإبادة والتهجير والتوطين، لأنها حزمة من الجرائم الخطيرة في القانون الدولي.
لذلك فالمتوقع أن يكون التهجير على شكل تسهيلات كبيرة للسفر لبشر محرومين من هذا الحق، ومنح دراسية مجانية للشباب الذين يعانون من ارتفاع تكاليف الدراسة في الجامعات المحلية، وبرامج استقدام ولم شمل لعائلات محرومة منه منذ سنين طويلة، وعقود عمل لأشخاص لا فرص أمامهم ولا إمكانية لاستيعابهم في سوق العمل المحلي، ورحلات علاج لمرضى لا يجدون الدواء ولا المكان ولا من يعالجهم.
وبهذه الطريقة الخبيثة تتحقق أحلام الاحتلال، وتذهب كل الدماء والتضحيات هدراً مهدوراً.. وبمعزل عن العواطف والشعارات، نسأل: ماذا فعلنا بأنفسنا؟ ماذا أعددنا للمواجهة؟ كيف سنتصدى للمشروع؟ أين مقومات الصمود؟ هل بقي صمود أصلاً؟! للأسف الشديد، أوصلتنا الفهلوة والشعارات الفارغة والكذب على النفس إلى هذا الوضع بالغ التعقيد والصعوبة، وأصبحت البيئة طاردة لأهلها ومواتية لتنفيذ هذه الأفكار.
لقد طحنت الشعارات المواطن وجردته من الكرامة ولقمة العيش والمأوى، لقد جعلته يكفر بالوطن، ويبحث عن أي مخرج للهروب والنجاة، نجحتم بجدارة تثير الدهشة والاستغراب في ما فشل فيه الاحتلال! قد يسأل سائل: هل يستغني الإنسان عن الوطن؟ الإجابة بكل تأكيد نعم، لو وجد مكاناً أفضل، هذا السلوك الطبيعي لأي إنسان، إلا إذا كانت الأفلام الهندية والأشعار لحست العقول! أهلنا وأحبابنا وأصحابنا وجيراننا في الخارج منذ عشرات السنوات، وحبهم للوطن لم يتغير، بل زاد..
قيادات الفصائل هي الأخرى في الخارج وتحمل جنسيات أخرى. المفارقة الكبيرة في هذا الموضوع أن أكثر من يخشى التهجير والأكثر تنظيراً على الصامدين الصابرين في الوطن مقيم بشكل دائم مع أسرته في الخارج. لماذا لا يخرج هؤلاء للشوارع في محل إقامتهم للمطالبة بالعودة إلى حضن الوطن الدافئ، أو على الأقل لرفض المشروع الخطير وإفشاله، أم أنهم يفضلون الإقامة في ظل مكان أفضل حالاً وأكثر أماناً، والاكتفاء بالتنظير من الخارج؟! أما بالنسبة للوطن والقضية والحق في المقاومة واستعادة الحقوق، فلا جدال في ذلك، إنما أتحدث عن بشر من لحم ودم، بسطاء لهم قدرة على التحمل، يطلبون الحياة في الوطن بكرامة واحترام، ولا يريدون أن يكونوا وقوداً لفصائل منفصلة عن الواقع، تعتقد أن المواطن قادر على الحياة والصمود والأكل والشرب فقط بالإكثار من جرعة الشعارات وتسجيل الانتصارات والحديث عن الوطن والوطنية، دون فهم أو استيعاب أن القضية والوطن هما المواطن، وبدونه لا وطن ولا قضية.. فهل تفيق فصائلنا وتهتف معنا لا للتهجير لا وألف لا؟!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر