أحمد الملحم أسواق المال تتجه لرقمنة جميع
- الحاجة ماسة وعاجلة لوضع خارطة طريق للتوصل إلى مشروع وطني للشمول المالي
- «تعزيز الشمول» سيتيح لفئات المجتمع الوصول إلى الخدمات المتصلة بأنشطة الأوراق المالية
طارق عرابي
طوفان دعوات الاستثمار المشبوهة، والوعود المزيفة بأرباح قياسية عبر مختلف وسائل التواصل والاتصال والإعلام والإعلان، والذي يحاصرنا على مدار الساعة، وبصورة متكررة لا تعرف المهادنة، إصرار منقطع النظير على الإيقاع بالضحية، إن لم تكن هذه المرة ففي المرة القادمة، وإن لم يكن بهذا الإعلان فبغيره.
ومما لا شك فيه أن جلنا يمتلك بعض الدراية بتلك الأساليب المضللة، كما يتوخى الكثير منا حذر الوقوع في شركها، وبالمقابل فدائما ما يصادف بعضها شيئا من النجاح، وهذا كاف بمنظور مبتكريها من محترفي الاحتيال المالي.
مؤسساتنا المالية عموما، لاسيما الجهاز المصرفي، وجهاتنا الرقابية المختلفة، وكذلك هيئة أسواق المال ما فتئت تبذل ما في وسعها للحد من تلك الظاهرة وضبط ممارساتها عبر جهود توعوية مستمرة وعبر مختلف الأدوات التوعوية المتاحة، هدفت عموما لتزويدنا بالمعرفة والدراية.. نجحت بنسبة كبيرة بلا شك، إلا أن مجرد وقوع ضحايا لتلك الدعوات ولو بأعداد محدودة يثير تساؤلات حول ما يجب القيام به إضافة الى الجهود الراهنة لضبط تلك الظاهرة، ما الخطوات المطلوبة لوأدها في مهدها وفق منظور هيئة أسواق المال؟
المسؤولية مشتركة
في إطار ذلك كله، أكد رئيس مجلس مفوضي هيئة أسواق المال ومديرها التنفيذي د.أحمد الملحم أن الهيئة وسائر الجهات الرقابية الأخرى تعول ـ في هذا الجانب ـ أولا وثانيا وأخيرا على الوعي، مشيرا إلى أن جهود تلك الجهات مهما بلغ شأنها لن تؤتي ثمارها ما لم تصادف تعاونا وتفاعلا مع المستهدفين بها، بدءا بالمستثمرين والمعنيين وصولا الى جميع شرائح المجتمع بمختلف مستوياتها.
ويضيف الملحم أن المعني بالخدمات المالية والمصرفية عموما، وبأنشطة الأوراق المالية بصورة محددة تعتبره الهيئة شريكا لها في إنجاح مختلف جهودها التوعوية.
وحول فرصة الوصول إلى درجة نجاح «صفري» لدعوات الاستثمار المزيفة، أشار الملحم إلى صعوبة التوصل الى ذلك، لا لاعتبارات تتعلق بقصور ما في الجهود التوعوية المبذولة، أو اجتهاد مرتكبي الاحتيال المالي في ابتكار الجديد من الأساليب والأدوات الاحتيالية المضللة يوميا، بل في اعتقاده فإن جانبا لا يستهان به من نجاح بعض تلك الدعوات، إنما يرتبط بصورة وثيقة بدغدغة تلك الدعوات للمشاعر الإنسانية الموجودة داخلنا والتي تنحو كثيرا نحو الثراء والغنى وتحقيق المزيد من النجاح المالي، فهذه المشاعر تحديدا هي التي تدفع بعضنا الى تخطي حاجز الوعي الاستثماري، خاصة فيما لو كان دون المستوى المطلوب.
ويؤكد د. الملحم أن التعويل على وعي متلقي تلك الدعوات عموما لا يهدف «إخلاء مسؤولية» الهيئة، مشيرا إلى أنها لن تألو جهدا في وضع المزيد من الضوابط التشريعية والرقابية والتنظيمية، واستخدام المبتكر من أدوات الرصد لتعقب مروجي تلك الدعوات وكشفهم واتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم، إلا أن تعاون الجميع معنا في هذا الجانب يشكل شرطا رئيسا لنجاحنا، فـ«يد واحدة لا تصفق كما يقال».
الشمول المالي هو الحل
في المقابل، لفت الملحم إلى أن تغيرا جذريا مطلوبا إحداثه في مستوى الثقافة المتصلة بالخدمات والمنتجات المصرفية والمالية وتلك المتعلقة بأنشطة الأوراق المالية (استثماريا وقانونيا) على الصعيد المجتمعي، خاصة أن الوعي المجتمعي يمثل حائط الصد الرئيسي لمواجهة دعوات الاستثمار المضللة، وحماية الجميع على وجه العموم.
ويضيف أن التقدم التقني والتحول الرقمي المتسارعين، والاتساع المتزايد لنطاق الخدمات والمنتجات المالية المتاحة هي ـ سلاح ذو حدين ـ إذ إنها من ناحية أولى تيسر سبل الوصول للخدمات والمنتجات المالية للجميع، لكنها في المقابل تشكل مقوما إضافيا لابتكار المزيد من أساليب الاحتيال المالي.
ويمضي الملحم قائلا إن الهيئة وإن بدأت جهودها على صعيد الشمول المالي خلال إستراتيجيتها الراهنة التي من المنتظر إسدال الستار عليها خلال أيام، في قطاعات مجتمعية محددة، وتحديدا لدى النشء في المراحل التعليمية المتوسطة والثانوية والجامعية، إضافة إلى منتسبي منظومة أسواق المال من خلال برنامج الهيئة للاختبارات التأهيلية للوظائف واجبة التسجيل، فإنه من المنتظر للإستراتيجية القادمة أن تحدث «تحولا جذريا» مطلوبا على صعيد الشمول المالي.
مشروع وطني للشمول المالي
يقول د. الملحم إن بعدا استراتيجيا آخر تستهدفه الهيئة مستقبلا يركز على جانبين رئيسيين: رفع الوعي المالي والاستثماري والقانوني، وتعزيز مفاهيم الشمول المالي، وانها لتحقيق ذلك ستعمل عبر العمل في مسارين متلازمين: استكمال إجراءات تأسيس أكاديمية أسواق المال بهدف تنمية رأس المال البشري التخصصي المهني المتصل بأنشطة الأوراق المالية أولا، وإحالة مشروع الهيئة لتعزيز الثقافة المالية مشروعا وطنيا للشمول المالي يهدف لتمكين كل شرائح المجتمع وفئاته العمرية والثقافية والاجتماعية من الحصول على الخدمات والمنتجات المالية المتنوعة والمبتكرة بالتكلفة والتوقيت والشروط المناسبة عبر القنوات الرسمية وفق آليات تضمن حقوقهم، كما تضمن إدراك تلك الحقوق والواجبات المترتبة على استخدام تلك المنتجات والخدمات.
أما بالنسبة لمرتكزات هذا المشروع ـ يضيف د.الملحم ـ فتتنوع بين استكمال البرامج التوعوية الراهنة، وتوفير الأطر التشريعية والتنظيمية للشمول المالي، وإنشاء قاعدة بيانات خاصة بالشمول المالي، وإدراج برامج تعليمية مالية متكاملة (توعوية استثمارية عامة) ضمن النظم التعليمية التربوية والجامعية، إضافة إلى البرامج النوعية الخاصة بالمنتجات والخدمات المالية، وانتهاء باعتماد مقررات دراسية تعنى بقضايا الشمول المالي والتثقيف القانوني ذي الصلة بأنشطة الأوراق المالية في مختلف المراحل التعليمية.
مرتكزات أخرى
يكرر الملحم تأكيده على أن «الوعي المالي» رغم أهميته، لا يمثل إلا واحدا من ثلاث مسارات للشمول المالي، فيما من المنتظر أن تواصل الهيئة جهودها في إطار المسارين الآخرين ضمن إستراتيجيتها القادمة، هما التقنيات المالية والخدمات والمنتجات المالية المبتكرة.
فإضافة إلى تطبيق بعض الأدوات المالية، كالتداول بالهامش، والبيع على المكشوف، والصفقات المتفق عليها، إضافة إلى أدوات الدخل الثابت، وصناديق الدخل المتداولة، وصناديق المؤشرات المتداولة، واتفاقيات إعادة الشراء، وغيرها، فقد قامت الهيئة أيضا بوضع إطار تشريعي وتنظيمي متكامل لأدوات الدين بما فيها أدوات الدين الاجتماعية والمستدامة صديقة البيئة (سندات وصكوك خضراء)، إضافة إلى خدمات ومنتجات مالية أخرى، وصولا لخدمات مستشار الاستثمار الآلي والتمويل الجماعي القائم على الأوراق المالية.
أما على صعيد التقنيات المالية فيشير الملحم إلى انتهاء الهيئة مؤخرا من وضع الإطار التنظيمي لمشروعها الخاص بالتقنيات المالية ذات الصلة بأنشطة الأوراق المالية (Fintech)، إضافة لمشروعها للتحول الرقمي الذي سيفضي إلى رقمنة كل خدماتها خلال سنوات إستراتيجيتها القادمة.
ويكمل بأن الشمول المالي رغم اتصاله بخدمات القطاع المصرفي والمالي والاستثماري بالدرجة الأولى، فإنه ونظرا لاستهدافه إشراك كافة فئات المجتمع وشرائحه في النظام المالي للدولة، وإتاحة إمكانية وصول الجميع بلا استثناء إلى الخدمات والمنتجات المالية بالشروط الميسرة، ومع الأخذ بعين الاعتبار دور الشمول المالي في تحقيق معدلات التنمية المستدامة المطلوبة، والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وهذا ما أكدته ظروف عدم الاستقرار التي سادت بلدانا عدة في العالم خلال السنوات الأخيرة بفعل جائحة كوفيد أولا، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية تاليا، كل ذلك يحتم ـ وفق رأي د.الملحم تضافر كافة الجهود الوطنية لتبني إستراتيجية وطنية للشمول المالي تنسجم مع رؤى الخطط التنموية للدولة يتولى مهام تنفيذها شركاء استراتيجيون يمثلون الجهات الرقابية المالية ومختلف الجهات الوطنية ذات الصلة.
وأشار الملحم إلى أن الهيئة بدأت مؤخرا جهود التنسيق مع بعض الجهات الوطنية لبحث إمكانيات التعاون المشترك لما يمكن فعله في هذا الإطار، منوها في هذا الإطار إلى إطلاق الهيئة استطلاعا للرأي بشأن الشمول المالي يتيح إمكانية مشاركة أكبر الشرائح المجتمعية الممكنة، ويهدف إلى الوقوف على واقع الشمول المالي في الكويت، سواء على صعيد الخدمات المالية والمصرفية المقدمة أو المستهدفة، أو مستويات الوعي والإلمام بها، وبالممارسات المخالفة على صعيدها، مؤكدا في الوقت ذاته أن تحليل الواقع هو الخطوة الأولى لوضع ركائز الشمول المالي المطلوب.
التحول الرقمي عامل حاسم في إنجاح توجهات الشمول المالي
قال د.أحمد الملحم إنه ومع الأخذ بعين الاعتبار التوجه الحكومي منذ سنوات عدة لرقمنة كافة الخدمات الحكومية، فإن التحول الرقمي يمثل عاملا حاسما في إنجاح توجهات الشمول المالي.
واضاف أن الهيئة بدأت مسار التحول الرقمي منذ سنوات عدة، مع إطلاق الكثير من خدماتها إلكترونيا، وتطبيق نظام الإفصاح الإلكتروني XBRL، وإتاحة إمكانية عقد الجمعيات العامة للشركات المدرجة إلكترونيا، قبل أن تطلق في أكتوبر 2021 إستراتيجية شاملة للتحول الرقمي، تستهدف تهيئة البيئة للتحول الرقمي، وميكنة كافة عملياتها، ورقمنة أصولها الورقية، وإدارة وتحليل البيانات المؤسسية.
وأشار إلى أن النموذج المؤسسي الناجم عن عملية التحول الرقمي سيسهم في رفع جودة الأعمال وضمان استمراريتها، وزيادة الإنتاجية، وترشيد التكاليف التشغيلية، وإيجاد بيئة عمل مرنة ترتكز على ممارسات مبتكرة.
وأشار الملحم إلى أنه ودعما لمبادرات الهيئة المتصلة بالابتكارات المالية وتبني الحلول المساعدة لخلق بيئة أعمال تتمتع بالكفاءة المطلوبة، فقد انضمت إلى عضوية الشبكة الدولية للابتكار المالي (GFIN).
وأكد أن الشمول المالي والتحول الرقمي إضافة إلى التمكين المؤسسي، تشكل في مجملها أدوات التحول النوعي المستهدف في واقع أنشطة الأوراق المالية المحلية من خلال إستراتيجيتها المقبلة.
خارطة طريق
يرى د.أحمد الملحم أن «الشمول المالي» أصبح بالنسبة لاقتصادات اليوم مطلبا عاجلا لا خيارا، داعيا إلى ضرورة المسارعة للعمل على بلورة تصور متكامل للإستراتيجية الوطنية للشمول المالي، تمثل خارطة طريق تنقلنا إلى حالة الشمول المالي المجتمعي الشامل المطلوب استنادا إلى ركائز عدة قد يكون من بينها:
٭ توفير الإطار التنظيمي والتشريعي الملائم.
٭ البنية التحتية المواتية لتقديم منتجات وخدمات مالية ومصرفية مبتكرة.
٭ الإطار الرقابي الفعال.
٭ برامج التحول الرقمي.
٭ التثقيف والتوعية الماليان، وهذا المرتكز على وجه التحديد يمثل عاملا بالغ الأهمية لمواجهة الممارسات المخالفة التي تندرج في إطار «الاحتيال المالي»، والتي اتسع نطاق انتشارها مؤخرا، كما هو الحال في دعوات الاستثمار المزيفة، وأوهام الأرباح المذهلة التي تعدنا بها.