إرث مشعل بن عبدالعزيز في إمارة مكة
وفي حفل عشاء على شرف سموه في وادي فاطمة، أقامه له الشيخ عبدالله بن سلّوم أمير الجموم، كرر الأمير مشعل كلامه قائلاً: «لسنا في حاجة للاستماع للمديح.. وننتظر النقد من كل مواطن مخلص».
وفي لقاء دوري بمجلسه في نوفمبر 1968، لما انعطف الحديث نحو النقد العام، وجّه الأمير كلامه الى رئيس تحرير «»، عبدالله خياط، قائلاً له: «يا أخي تعال شوف إيش في الإمارة وانتقدنا.. قول كل شيء تراه».. فرد الخياط مجاملاً أنه لا يرى على مكتب سموه أي معاملة.. ليرد الأمير: «أنا بأقول انتقدنا.. واحد يقول لك انتقدني، ترفض؟».
هكذا رسّخ الأمير مشعل نهج تحمّل المسؤوليات العامة إبّان إمارته.
جاء الأمير مشعل إلى إمارة مكة معبراً عن قيم مرحلة الفيصل ومفرداتها الجديدة آنذاك، في: التنمية والتخطيط، التحديث والإصلاح الإداري، الرفاهية والعدالة الاجتماعية، الانفتاح والتحوّل الثقافي.
وقد مكث في منصب إمارة مكة ثماني سنوات، من فبراير 1963 وإلى غاية فبراير 1971. وتشكّل فريقه من الشيخ إبراهيم بن إبراهيم وكيل الإمارة (وهو وكيلها منذ نوفمبر 1961)، ومحمد الحيد مدير مكتبه، وعلي أبو العلا المستشار الإداري في ديوان الإمارة، والشيخ حمد الشاوي رئيس ديوان الإمارة. ثم التحق به في آخر سنين إمارته أخوه الأمير فواز وكيلاً لأمير مكة في يونيو 1969، بديلاً عن الشيخ البراهيم.
كانت رغبة سمو وزير الداخلية، الأمير فهد، بتخويل الأمير مشعل البت في الأمور الهامة بالمنطقة الغربية وربط الدوائر التابعة للداخلية إدارياً بإمارة مكة.
وقام الأمير مشعل بتطوير جهاز الإمارة مرتين؛ مرة في 1965، وآخرها في يونيو 1968، فأعطى المسؤولين صلاحيات واسعة للقضاء على الروتين. والروتين هي المفردة التي توازي البيروقراطية في زمننا. وقام بوضع أول لائحة داخلية تحدد صلاحيات الشُّعَب والأقسام بديوان الإمارة. وأحدث أقساماً جديدة، ومكتباً للاستعلامات والتتبع مهمته خدمة المواطنين والاتصال المباشر بكل الدوائر.
وفي يوليو 1968.. وهو يرأس اجتماعاً للمجالس الإدارية والبلدية بالمنطقة، شرع في إعادة دراسة نظام المجلسين والبدء في طرح مقترحات تطويرية لتعديلهما.
وترأس الأمير مشعل لجنة الحج العليا، وعرفت إدارته فيها بالمتابعة العملية، والتوسع في التوصيات، وحسن التفويض إلى اللجان الفرعية.. وقد توّجت فترته بمواسم ناجحة، سليمة من تعثر التفويج المروري، وخالية من الأمراض أو تفشي الأوبئة. ترافق ذلك مع دقّة المرحلة، فأوصد الباب على متصيّدي الأخطاء وتضخيمها من الإعلام المعادي في الإقليم.
وتزامنت فترة الأمير مشعل مع إرهاصة التوسعات البلدية في مدن المنطقة، قبيل التوسعات الكبرى.
كانت وكالة البلديات تتبع سمو وزير الداخلية.. فتزامن، وتزامل، معه الشيخ عبدالله عريف أمين مكة، وعدة رؤساء لبلدية جدة أبرزهم السيّد علي فدعق، ثم وهيب بن زقر، وإلى عبدالله يحيى جفري.
ومن بعد عدة تعثرات لمشروع تنفيذ الكورنيش لعب الأمير مشعل دوراً مركزياً، في رفع تقرير تنفيذ الكورنيش الأخير عبر اللجنة التي شكّلتها وكالة البلديات وضمّت خبير الأمم المتحدة الدكتور زغلول.
واهتم الأمير مشعل اهتماماً بالغاً بتنشيط ضاحية أبحر، وكان أول من طلب من المسؤولين ربط المنطقة هاتفياً بجدة وافتتاح مستوصف وإقامة مركز للشرطة منذ أبريل 1967. وكانت لجنة ببلدية جدة أسّست قبل ذلك بعامين بمسمى (لجنة المدن والشواطئ)، دخل ضمن اختصاصاتها تنظيم منطقتي أبحر وبقية ضواحي جدة.
وخلال فترته، تمّت في جدة.. توسعات باب شريف وميدان باب مكة وتطوير منطقة السبيل.. وشُق طريق مزدوج لطريق المدينة.. ومن ثم سفلتته حتى كيلو 32 وهو بداية أبحر. والبدء في أول دائري نموذجي من غبّة عشرة إلى المطار (القديم) ثم إلى بترومين. وجمالياً أُحدِثت نافورة ميدان البيعة ذات التشكيلات اللونية التي كانت نقطة لقاء الأهالي بعد صلاة العشاء، وساعة ميدان شارع الملك عبدالعزيز.
وفي مكة، أُنجِز مشروع إقامة الميادين الخمسة حول المسجد الحرام، وتخطيط أحياء الرصيفة والعزيزية وشارع المنصور. وكان الأمير يترافق مع المهندس محمد سعيد فارسي مدير مكتب تخطيط المدن بالغربية إلى الطائف لاعتماد المخطط الشامل لمنطقة الهدا، الذي كان يرنو وضعها كمصيف عالمي.
غير أن أبرز مآثره البلدية المباشرة سيكون في تنظيم خطوط البلدة.
فبعد انطلاق التنظيم الجديد لخط البلدة في العاصمة المقدسة، عبر أمينها عبدالله عريف، عمّمه الأمير مشعل بتوجيهات مباشرة على مواصلات جدة، فكلف مدير عام المرور والنجدة القائد يحيى المعلمي لإطلاق خط البلدة في جدة. الذي انطلق ابتداء من صباح السبت 6 نوفمبر 1965، بـ160 سيارة أتوبيس، على 13 مساراً مختلفاً، من ثلاث محطات رئيسية هي: باب جديد، باب شريف، وميدان باب مكة. وكان وقتها فتحاً للمواصلات في المدينة التي يعتمد أفرادها فقط على سيارات الأجرة الباهظة في التنقل العام.
وتلخّصت تركته الإدارية في الإشراف والمتابعة الشخصية، الحزم في اتخاذ القرارات، والاستجابة الفورية وإدارة الأزمات.
فهو يجتمع دورياً في الرياض برؤساء الدوائر والمصالح الحكومية ويستعرض معهم أعمال ونشاط كل إدارة.. ولا يتورع في التصريح أنه «يعقّب» شخصياً على مشروعات المنطقة لدى الجهات العليا.
ويرفع أوامره البرقية إلى أمين العاصمة وقائمقام جدة وأمير رابغ وأمير الكامل لإبلاغ المسؤولين بحملات تفتيشية حيال المراقبة على الأسواق وضبط الأسعار، والضرب على أيدي العابثين وتطبيق الجزاءات الرادعة.
ويصدر أوامره على وجه السرعة بحل مشاكل موارد السقيا وإصلاح أوضاع البازانات، إلى رئيس بلدية جدة ومدير عام العين العزيزية لوضع حلول أولية وجذرية.
وإزاء أزمة تكدس البضائع وعدم تفريغها في ميناء جدة في نواحي مايو 1965، ورفع شركات البواخر أجورها بنسبة 45%، تصدى الأمير لإدارة الأزمة، فدعا التجار لاجتماع عام لبحث مشكلة التفريغ، وأبلغ الغرفة التجارية لسرعة اتخاذ الإجراءات. ثم تدخل لتفريغ البواخر المحملة بالدقيق لتوفيره في الأسواق.. فأبرق لمعالي وزير المواصلات ومعالي وزير التجارة ومدير عام الجمارك.. التي أبرقت تطلب تقريراً فنياً من الفريد هولد مالك شركة خط الملاحة بلوفانيل باعتباره أحد أكبر خطوط الملاحة العاملة في ميناء جدة، ما أدى إلى عودة الأمور نسبياً إلى أوضاعها. غني عن الذكر، أن تلك الأزمة تمخضت عن توقيع الأمير مساعد بن عبدالرحمن وزير المالية اتفاقية ميناء جدة الحديث، الأضخم على البحر الأحمر، مع الشركة اليونانية اندودلسن.
أشرف الأمير مشعل شخصياً على أزمات أمطار جدة وما تجلبه من سيول تغلق الشوارع، وتقطع الكهرباء، وتعطل الاتصالات، وتحجب الصحف.
في أزمة سيول نوفمبر 1965، سهرالأمير مشعل إلى الفجر وتابع بنفسه انقطاع الكهرباء عن إحدى المناطق المحورية وتقاعس الشركة عن إعادة التيار.. وهي حادثته الشهيرة التي أمر فيها بقطع الكهرباء عن منزل الشيخ علي الجفالي عضو الشركة المنتدب، وحسين الفتياني مدير الشركة، تحقيقاً للعدالة. وقد نشر ملابسات ذلك عبدالله خياط في «» على صفحة كاملة.
وفي أزمة سيول يناير 1969 ترأس من مكتبه بجدة اللجنة الثلاثية التي تكوّنت من وكلاء وزارة المالية والمواصلات والداخلية لإصلاح الطرق، والميناء وشوارع المدينة. وباشر شخصياً أعمال الإنقاذ والإشراف على تنظيف المسجد الحرام، وشكّل لجنة للوقوف على الدور الخربة بجدة.. حتى أنه سافر للرياض خصيصاً للقاء وكلاء الوزارات لاعتماد موازنات إعادة سفلة الشوارع المتضررة.
وحين لاحت بدايات مشكلات الطفرة، إثر تضاعف أعداد السيارات في جدة.. أمر بتشكيل لجنة من تخطيط المدن وبلدية جدة والمرور لإيجاد الحلول.
ولمّا توالت شكاوى سكان عمارة الأشراف بأجياد، شكّل الأمير مشعل لجنة خاصة لدراسة أوضاع العمارة اللصيقة بمدخل المسجد الحرام. كما تفاعل مع ملاحظات كتبها المواطن حسين محضر حول تنظيم خطوط البلدة واستمارات المرور وثقافة جندي المرور.. فطلب إلى مدير الأمن العام تشكيل لجنة من المختصين لدراسة الملاحظات وإنفاذ ما يحقق المصلحة العامة.
ثم مع ازدياد حوادث الطرق واصطدام السيارات.. أمر بتشكيل لجنة حوادث طريق المدينة منذ نوفمبر 1967، ووضع رقابة مرورية مشددة على طريق أبحر. ثم رعى مؤتمر المرور الخاص بمكة في يوليو 1968، برئاسة الفريق محمد الطيب التونسي، وعضوية كبار رجالات الحكومة والمجالس البلدية لإيقاف نزيف الأرواح المهدرة.
وموقفه من التنمية يلخصه تصريحه الشهير في سرادق وضع حجر أساس تحلية المياه بغبّة عشرة، رفقة الأمير محمد الفيصل. حين علّق، بعد ضغطه على زر التفجير المدوي الذي أذن ببدء العمل في المشروع.. قائلاً: «إن انفجاراتنا للإنشاء والتعمير.. لا للهدم والتدمير».
ورعى الأمير مقوّمات جدة الاقتصادية الأساسية في التجارة والملاحة.
على رصيف الميناء كان يدشّن أول ناقلة بترول بصناعة محلية تتبع مؤسسة عبدالله هاشم، ويحضر حفل شاي «للباشا» محمد أبوبكر باخشب على ظهر الباخرة (نوريا)، ثم يرعى تدشين أكبر باخرة شحن في الأسطول البحري السعودي بحمولة ٨٥٠٠ طن، هي (نجمة عرّي) للوجيه محمد عبدالرحمن عرّي.. التي أطلقت لتعمل في خط البحر الأحمر أوروبا.
وفي الآن ذاته يرعى تحوّلات جدة إلى مركز إقليمي جديد للسفر والطيران. فهو يستقبل وفد شركات الطيران العالمية، الذي تكون من 12 مندوباً يمثلون كبريات شركات الطيران العالمية في ليلة الثلاثاء 30 أبريل 1969. وكان رمزية تحوّل جدة نحو آفاق جديدة نافست فيها مراكز الطيران الإقليمي؛ بيروت، والقاهرة وإسطنبول.
دفع الأمير مشعل لمشروع تأسيس قاعة ثقافية كبرى في جدة باسم الفيصل في موضع الثكنة العسكرية، بعد موافقة الأمير سلطان على تحويل ملكية الثكنة من الدفاع إلى البلديات. وتفاهم مع الأمير خالد الفيصل، مدير عام رعاية الشباب، على تأسيس نادي الفروسية بجدة، في منطقة كيلو خمسة طريق مكة قرب مشروع الاستاد الرياضي المقترح حينها، ثم اختيار أرض جديدة له على البحر، لكن المشروع الأول تعثر، وتحقق الثاني بعد زمن طويل.
أما أبرز مآثره الاجتماعية.. فقد كانت لجان الصلح الأهلية.
في يونيو 1965، رفع للجهات العليا تشكيل لجان أهلية للتوفيق بين المتنازعين.. فصدرت الموافقة الكريمة على لائحة أعمال لجنة الصلح، وقيام اللجان، التي اختار لها أبرز الأعضاء في كل من جدة ومكة والطائف. لقد كان أثر تلك اللجان عميقاً، حتى أن رائدة الصحافة النسائية السيّدة لطيفة الخطيب كتبت تشكر الأمير مشعل بلسان «الأمهات».
وفي العدالة الاجتماعية.. كان يجوب المناطق والنواحي، ويتفقد الضمان الريفي في قرى وادي الجموم، ومراكز التنمية الاجتماعية فيها.
ودعم الأمير مشعل تعليم الفتيات وحراك المرأة في الفضاء العام.
كان يواظب على افتتاح معارض التربية الفنية والتدبير المنزلي لمدارس العاصمة الابتدائية للبنات، والمعارض الفنية لطالبات دار الحنان ودار التربية الحديثة. وفي حفل جمع تبرعات خيرية لصالح الجمعية الخيرية النسائية وقّع الأمير مشعل على ورقة بيضاء للشيخ صلاح عبدالجواد ليدوّن الرقم الذي يقدّره.
وفي أبريل 1968 افتتح المعرض الأول للفنانتين منيرة موصلي وصفية بن زقر – وهو أول معرض في تاريخ الحركة التشكيلية المحلية لفنانات سعوديات.
وهو يشرّف مهرجان العلم بمكة. ويفتتح أربع مكتبات بمكة دفعة واحدة. ويوزع الجوائز على الفائزين في مسابقة القراءة الحرة. ويساهم في التبرع لمشروع مكتبة جدة، الذي كان يشرف عليه أهلياً السيّد علي عامر.. وكان كلما رأى شيخ الصحافة أحمد السباعي استحثه على سرعة تنفيذ فكرته في تأسيس النادي الأدبي.
وكان يرعى أنشطة نادي البحر الأحمر، الذي أسّسه الأمير محمد الفيصل.. وحظي فيه بعضوية مدى الحياة. بل إنه شرّف حفل البحر الأحمر الساهر في ليلة 26 رمضان 1968، الذي أحياه عدد كبير من كبار الفنانين بالاشتراك مع فرقة الإذاعة والتلفزيون.. دلالة على اعتدال وعفوية المجتمع السعودي اللتين درج عليهما.
وفي أكتوبر 1965، قبِل الأمير مشعل رئاسة نادي الاتحاد الشرفية التي قدمها له عبدالمجيد باناجة. وأقيمت مناورة رياضية بحضوره نقلها التلفزيون.. في لفتة منه لإعادة التوازن للنادي الشعبي إثر أزماته الطاحنة بين إدارته ولاعبيه، ثم بين الإدارات والرؤساء في ما بينهم.
لقد دُمغ عهد الأمير مشعل بالحيوية الرسمية والأهلية تشريفياً واجتماعياً.. فهو يقيم مأدبات الطعام لضيوف الدولة، والوفود الأجنبية الزائرة.. سواء في قصر خزام، أو قصر الضيافة، أو في حدائق وقاعات فندق قصر الكندرة، وجدة بالاس.. كما نجده يلبي دعوة الشريف شاكر بن هزاع قائمقام العاصمة إلى منزله، ودعوة الشيخ عبدالله آل الشيخ مدير فرع رئاسة القضاة بالغربية، ويزور الشيخ محمد الحركان رئيس محكمة جدة ليطمئن على صحته، ويتقدم الحضور إلى حفل إفطار آل السليمان.. ويشيّع جنازة الوجيه محمد صالح أبوزنادة إلى مثواه الأخير.. ويواسي الشيخ عبدالله كعكي في وفاة نجله في داره بمكة، ويزور الشيخ علي شبكشي في مجلسه بجدة، ويحضر حفل صدّيق ومحمد عطار بمنزلهما.. أما حين انقلبت سيارة الشاب علي القرعاوي، المحرر بجريدة المدينة، زاره الأمير مشعل وهو منوّم في المستشفى اللبناني.
في إحدى مساءات مارس 1967، استغرب الشهود رؤية الأمراء فهد، وعبدالله، ومشعل، وسلطان، ومتعب، وفواز، وماجد.. يدخلون روف فندق الحرمين الجديد، بشارع المطار، لتلبية دعوة عشاء خاصة أقامها الأمير سعد بن فهد بن سعد. كان أمير المنطقة يتنقل حيناً كأنه واحد من الناس، دون مقدمات أو تصنع للمظاهر أو الحراسة.
وكان الأمير مشعل مولعاً بالبر والمقناص حتى وهو على سدة الإمارة.. فهو يغيب فيه بضعة وعشرة أيام في مواسم المطر، متنقلاً بين المناطق الريفية بالمنطقة الوسطى.. دون أن يعيقه ذلك عن إدارة شؤون المنطقة عبر جهاز اللاسلكي.