الإسلام ليس ديناً سياسياً
من أهم أعمال طلال أسد، كتابه الصادر بالإنجليزية عام 1993 بعنوان «جينالوجيا الدين» Genealogies of Religion، وفيه مقارنة هامة بين المسيحية والإسلام من حيث أساليب الضبط الاجتماعي والسلوك الفردي. ما يهمنا في هذا الكتاب هي الفكرة التي طرحها المؤلف حول مفهوم الدين نفسه، الذي اعتبر أنه خضع لإعادة تكييف واسعة في المجتمعات الغربية الحديثة التي حولته إلى اعتقاد فردي ذاتي ليست له انعكاسات على الحياة الأخلاقية الجماعية، بما يتناسب مع النظم العلمانية التي أخرجت الدين من الشأن العمومي.
إن هذا الفهم لا يستقيم، حسب طلال أسد، مع الإسلام الذي هو في الأساس دين جماعي، يخاطب الأفراد ضمن أمم وملل، وتتعلق بعض أحكامه بالجماعات وليس الأفراد وحدهم.
إن الطابع الجماعي للإسلام لا يعني أنه دين سياسي كما يدعي أصحاب الأيديولوجيا الإخوانية وحركات الإسلام السياسي، بل يعني العكس تماماً، وهو أن الجوانب الأخلاقية والقيمية في الإسلام هي الأساس والمرتكز، وليس أمور السياسة التي مجالها الدولة ولا ينبغي لرجال الدين الخوض فيها.
لن تعجب الكثر هذه السطور، ولكني سأكمل بالقول: إنه قد التزم فقهاء السنة منذ الإمام أحمد بن حنبل بمبدأ شرعية السلطة السياسية والابتعاد عن منازعة ولاة الأمور الحكم، والاكتفاء بتنزيل شرائع الدين في الحقل الأخلاقي على أساس الفتوى الإرشادية وقيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ذلك ما بينه باحثون كبار اهتموا بالفقه الإسلامي مثل المفكر الفلسطيني وائل حلاق في كتبه حول تاريخ المذاهب الفقهية، والمستشرق مايكل كوك في كتابه الموسوعي حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن هذه الجوانب الأخلاقية والقيمية في الإسلام هي جوهر الدين، ولا ننسى الحديث الشريف الصحيح «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
فالذين يستنتجون من السمة الجماعية في الإسلام أنه دين سياسي أو عقيدة أيديولوجية لا ينتبهون إلى كونهم يشوهون هذا الدين العظيم في روحانيته الأخلاقية الواسعة بتحويله إلى مجرد مذهب سياسي.. والحال أن السياسة متقلبة لا تخلو من الأهواء والمنافع والتعصبات.
لمن لم يعلم، في الفقه الإسلامي هناك مدرستان عريقتان: مدرسة مقاصد الشريعة، التي بدأت مع الجويني والغزالي وابن عبدالسلام، ومدرسة فضائل الشريعة أو محاسنها ومكارمها، التي عرفت لدى الراغب الأصفهاني والقفال وابن الجوزي وابن القيم.
المدرسة الأولى ركزت على القيم العليا التي تقوم عليها رؤية العالم الإسلامية من حفاظ على ضرورات الدين وحاجياته وكمالاته التحسينية، في حين ركزت الثانية على محاسن السلوك وأخلاق التعامل والتعايش.
ما يحتاجه الدين اليوم ليس التكرار والاجترار، ولا التبخير والتبجيل، وإنما التجديد والبحث، فهناك وجه آخر للإسلام، الوجه المشرق المضيء، هذا الوجه المطموس من قبل حركات التطرف والظلام.
والطريق الحقيقي لوجه الإسلام المضيء هو بالبحث بالمنهج وبالمصطلح دون خوف أو توجس..