الدين أم العقل ؟
الكثير من المفكرين يؤكدون بأنه لا بد من التخلص من فكرة التحقق التجريبي التي بنيت عليها العقلانية العلمية، وهي فكرة مفادها أن المعتقدات لا تكون صحيحة إلا عندما يتم التأكد من الحجج والأدلة التي تقوم عليها بصفة موضوعية لا تقبل الشك.
الأمر في الحقيقة يصلح فقط للنظريات التي تتناول الطبيعة الجامدة التي ليس للإنسان دخل فيها، أما الإنسانيات فوضعها أكثر تعقيداً.. فبالإنسانيات الإنسان يكون فيها دارساً ومدروساً، ذاتاً وموضوعاً.. ومن أدق الظواهر الإنسانية وأكثرها حساسية مسائل الاعتقاد والإيمان، التي تمتزج بالعاطفة والوجدان والمشاعر وتختلط بالسلوك والأفعال والممارسة.
الفكر الإسلامي تأرجح سابقاً بين نزعتين كبيرتين: المذاهب التي تدافع عن قدرة العقل على البرهنة على أصول الاعتقاد، وهو موقف أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية ومن سلك مسلكهم، والاتجاهات التي اعتبرت الإيمان من أمور الذوق والهداية، وطريقه هو مسلك التربية والمجاهدة لا التعقل والاستدلال.
إلا أن هذا الفصل ليس في الحقيقة صارماً ولا جذرياً، ذلك أن أهل الكلام اتفقوا على أن النظر العقلي بدون تسديد وهداية لا يمكن أن يوصل إلى الحق، وأما أهل التصوف فاعتبروا أن في الذوق أعلى درجات العقلانية، وإن استخدم طرقاً ومناهج مغايرة للمنطق العقلي في ظاهر الأمر.
كان هذا النقاش قائماً دائماً بحالة لا يحكى عنها حتى أتت المدرسة الفلسفية الحديثة التي حددت بأن العقل ليس مجرد ملكة للتفكير المجرد، بل هو أساساً تفكير برهاني من داخل اللغة، ومن ثم على الفلاسفة أن يستمدوا من الخطاب اللغوي نفسه أساليب البرهان والجدل بدل أن يخضعوا اللغة لتفكير عقلي مسبق..
من هذا المنظور اللغوي والعملي، يتعين علينا اليوم إعادة بناء الأدلة حول الإيمان الديني بدلاً من الاكتفاء ببراهين وأدلة مستمدة من الفلسفة اليونانية القديمة التي لم تعد لها قيمة راهنة.
فالإيمان هو ما نصل إليه من خلال التشبع بالنص المقدس والإنصات الجيد له، وهو ما نجد أثره الإيجابي في أفعالنا وعلاقتنا الإنسانية بغيرنا، فالدين عبادات ومعاملات.
كثيراً ما أستمع إلى بعض الدعاة الذين يكررون بعض البراهين والحجج التي لم تعد تقنع الإنسان المعاصر الذي اطلع على العلوم والفلسفات الجديدة ويعيش في عالم متقدم لا يحتمل المبالغات، فبعضهم يظنون، واهمين، أنهم ينصرون الدين ويدافعون عنه، بينما هم في الحقيقة يتحدثون مع أنفسهم ويعيشون خارج عصرهم.
الإيمان الحقيقي يدرك بالعقل الصحيح ضمن التجربة الدينية الصادقة، وذلك ما قصده أبو حامد الغزالي بقوله: «وكذلك في القلب غريزة تسمى النور الإلهي، وقد تسمى العقل، وتسمى البصيرة الباطنة، وتسمى نور الإيمان واليقين، وهذه الغريزة خلقت ليعلم بها حقائق الأمور كلها بطبعها، فمقتضى طبعها العلم والمعرفة، وذاك لذتها».