الرجّال يحبل من لسانه
تحبل المرأة وتلد إنساناً نافعاً مبدعاً، فتضيف به إلى الحياة إيجابية، ويحبل الرجل بلسانه حبلاً سلبياً (ربما)، ليس دائماً وليس كل الرجال، فهناك رجال ألسنتهم وراء قلوبهم وعقولهم، وهناك من الرجال الذي قلبه من وراء لسانه، لا يستدرك إلا بعدما يفوت الفوت، ويذبل الصوت، فيغدو المتكلم مذموماً، ومدعاة للشماتة، ناهيك عن ردود الفعل على مستوى الفرد خصوصاً إذا كان (أحمق) عياذاً بالله، وعلى مستوى قانون ونظام الدولة، الذي من دواعيه وغاياته ضبط تصرفات وأخلاق المجتمعات.
وما أصدق قول ابن مسعود رضي الله عنه (وَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ شَيْءٌ أَفْقَرَ وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: أَحْوَجَ إِلَى طُولِ سِجْنٍ مِنْ لِسَان). بينما البعض يُطلق للسانه العِنان، فيخوض ويغوص فيما لا يعنيه، ولا يؤجر عليه؛ بل يؤزر، وكثيراً ما نغفل ونظن أن وظيفة اللسان الكلام، بكل ما هبّ ودبّ، دون تفكّر في قول الحق تبارك وتعالى (ما يلفظ من قول)، وقوله (أم يحسبون أنّا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون)، و من الأحاديث الصحيحة (وإنا لمؤاخذون بما نقول يا رسول الله؟ فقال: وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم)، هذا على المستوى الأخروي والإلهي، وعلى المستوى الدنيوي، كم من لسان محترم رفع صاحبه للقمم، وكم من لسان هوى براعيه في حضيض الرمم.
وفي أوقات الأزمات، تكثر التحليلات، وربما تزيد ثقة البعض بنفسه وبثقافته، فيدلي بدلوه الفارغ إلا من هُراء، وإذا كانت المرأة تتخفف من حملها بالولادة، فإن الذي يحبل من لسانه لا يتخفف من حمله وتبعاته، وتبقى في الروح ندوب، وفي الوعي جراح لا تندمل، مهما سعى المتضرر وبذل وجاهد في سبيل تضميدها، وإذا أردت أن تقيّم شخصاً فانتظره حتى يتفوّه، فالحكي يفك وكاء الوعي.
من القصص التي حضرتها، كنا في مناسبة عشاء قبل ربع قرن، ومعزبنا (دمه فاير) على طول، فصادف في مقهى ومطعم المندي الذي عزمنا فيه، غريماً له يدوّر عليه منذ شهور؛ لأنه يطالبه بمبلغ ثمانية وعشرين ألف ريال، وبمجرد شافه جالس وسط رجال، شروى القُرّاء، قال بصوت جهوري (وراك ما تسددني حقي يا …..)، الكلمة التي قالها قذف صريح، فقال الغريم لكل من سمع: اشهدوا عليه.
قلتُ والحاضرون لمضيفنا، والله لركبك الحق، وانقلبت على رأسك، وطالبناه بمعالجة الموقف؛ فأقسم بالله (ما يثني له أصبعه)، وحاولنا يومي الإجازة الخميس والجمعة نتدارك الأمر، ولكن المضيّف المتلفظ، يهدر فوقنا مثل البعير الفحل وقت الضراب!
كنا يوم أربعاء، وما بدأ دوام السبت إلا والشرطة تطلب صاحبنا، وتم تحويل المعاملة للمحكمة، لحقنا المعاملة عند موظفين أجواد، قالوا ما بندخلها على الشيخ إلا بعدما تعجزون في الصلح، وطلبت من كاتب مرموق أن يتصل من جوالي على رفيقنا (المهايط) وقال له، أنت قاذف، ولو دخلت معاملتكم للشيخ سيقام عليك الحدّ ثمانين جلدة وتُفسّق علناً، ولا تُقبل لك شهادة أبداً.
راحت السكرة وجاءت الفكرة، وغدت عشر رفيقنا ثمان، فاستنجد بالوسطاء، وأول ما طالب به المُدّعي، إسقاط الدين، فطاحت الثمانية وعشرين ألف ريال، ثم طلب خاتمة خمسة آلاف ريال مأكولة، ورحنا للرجال بيته، وتعشينا على كثيرة الشحم، واليوم الثاني تعشينا عند صاحبنا، وردّ له خصمه الخمسة آلاف ريال، وسقط الدين، وتعشينا على أربعة طليان، وحسب المتلفظ الحسبة، فوجد أنه غرِم خمسة وثلاثين ألف ريال، وأقمت لصلاة العشاء وقرأتُ آيات من سورة النور، عن رمي المحصنات، ويوم انتهينا من الصلاة، قال المحقوق أوّل مرة أسمعك تقرأ هذي الآيات، ليتك قرأتها قبل ما يزل لساني، فتحوّلت السهرة لضحك ووناسة، وصفيت الخُطّر على بعضها.
البعض يزلّ لسانه، وتمر بسلام، فيستمرئ الزلّة، فيكررها دون مبالاة بمشاعر، ولا احترام لأعراف، ولا التزام بأخلاق، ولا مراعاة نظام؛ وهذا البعض يذكرنا بالحكاية الطريفة، التي تُروى، بأنَّ زوجاً عاطفياً، طلب من الأطباء في مشفى خاص، تمكينه من دخول غرفة توليد زوجته، ليمسك يدها، ويخفف عنها آلام المخاض، وفي لحظة خروج الجنين، صاحت ونددت بالزواج وساعته، وكانت تقول، توبة من الحمل، فتفاعل زوجها معها، وانفعل وعاهدها ما عاد يجيب منها غير هذا المولود، فتناست كل متاعبها، وصارت تصيح وتردد، لا… لا دخيلك كُربة وتعدّي وأزمة وتنفرج!
كم جرّ اللسانُ متاعب على الإنسان، ولكن ليس في كل مرة تسلم الجرّة، يقرر طويل اللسان التوبة، ثم يعود معتقداً بأنها أزمة وتعدي، ويعود لما كان، وكما قال الأوّل (الرجّال يحبل من لسانه)، وهذا تشبيه واستعارة للفت الانتباه والنظر إلى خطورة الكلام، فربما يكون الإنسان في سعة من أمره، فيحضر مجلساً فيه بائع يطالب غريمه بمبلغ، فيندف صدره ويقول، أعطه مهلة وإنْ أوفى وإلا مبلغك عندي، فهو هنا حبل بالالتزام الذي كان في حلّ منه لو لم يتكلّم، وكم من متحمس أراد أن ينفع بشفاعة فضرّ، بالمبالغة وتأجيج الضغائن، متناسياً ما يطرق سمعه من حكمة (لسانك حصانك، إن صنته صانك، وإن أهنته أهانك).
والتبعات اليوم لا تقتصر على كلام؛ بل كذلك الفعل بالكتابة أو التغريد، أو الفسبكة والتدوين على المنصات والوسائل بالمنشورات، والتصوير للمقاطع، وبثها دون وعي بخطورة ما يترتب عليها من أضرار مكلفة، خصوصاً في العصر الرقمي، فربما جنى التدوين على فاعله، ما يجره اللسان، فالكل محسوب لك أو عليك، من الله ومن الدولة ومن المجتمع، وكما أن الحَبَل يترتب عليه مشاق ومتاعب، فكذلك الكلام، والتعبير بالخط، والعاقل يتعظ بغيره.
هذا المثل الوارد في العنوان، يناظر بين حمل المرأة ومتاعبه ومصاعبه، من شهر أول لثانٍ ولتاسع، وربما تتفلك الحامل بمعونة الله دون حاجة لعملية قيصرية، وأحياناً لا مناص من مشرط الجراح، الذي يبقى أثره مُعلّماً في البطن.
قال صديقي، ربما لو كان الرجال يحبلون ويلدون، لكان أهون عليهم من الحَبَل باللسان أو بالأنامل بكلام لغو، أو تناقل وتداول شائعات، ولا يعني كل ما سبق أن الكاتب بريء، لكنّ الله سِتير، ويموت المُعلّم ما تعلّم، كما يقول أهلنا في المنطقة الغربية.
وما أبلغ قول الإمام الشافعي:
لِسانُكَ لا تَذكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئٍ
فكلك عَوراتٌ وللنّاسِ ألسنُ
وعيناك إنْ أبدَتْ إليكَ معايباً
فعِظها وَقُلْ يا عَينُ للنّاسِ أعيُـنُ.