العام والخاص.. ذَنْبَك على جنبك
لعلي أمْيَل إلى أن التفكير في الصعب، وطلب المستحيل، والاشتغال بالمُعقّد، والمورّط ليست من العقل الأخلاقي في شيء، بل هو ضرب من الجنون أو الانتحار، وعدم التفكير كُليّاً في واقعك مثبّط ومُحبط، فالإنسان فطره ربه على التأمل والتقليد والمحاكاة، وبعض القرويين كائنات مُسيّسة، إلا أنها توظّف سياستها ودهاءها في سبيل المنفعة، والمغنم، وبعضهم كان ينقل لنا تعليقات يونس بحري، عن الحرب العالمية، وهو يجلجل من إذاعة برلين «يا أيها الإنجليز أدخلوا مساكنكم.. لا يحطمنكم هتلر وجنوده وهم لا يشعرون»، مُضمّناً النص القرآني.
يحمّل البعض نفسه فوق طاقتها بانشغاله بالهمّ العام، علماً بأنه لا يحقق بذلك الهمّ أي منجز يحسب له، ولا يضيف للمشهد مفيداً، بل يخسر، ويُخسّر، فانغماسه في مسؤولية ومهام ليست من اختصاصه تضعف دوره، وتُقلّص فاعليته فيما يعنيه، مما لا يقوم إلا به من الهموم الخاصة.
جاء في الأثر «من لهم يهتم بأمر الناس فليس منهم)، وكما قال الراحل الشيخ محمد بن عثيمين، لو لم يصح سنده، إلا أنّ متنه صحيح، وموافق لما ورد في الكتاب والسنة من أخوة المؤمنين، وتعاضد البشر بالتعاون على البر والتقوى، لكن الشعور بمتاعب شعوب أو أزمات دول ليس مسوّغاً لتوجيه الاتهامات، وتبني وجهات نظر متأزمة؛ لأن ملفّات أغلب القضايا يعرفها المختصون والمسؤولون أكثر من غيرهم، ويعون تفاصيلها ومقاسها وتبعاتها.
هناك من يرى نفسه (مؤهلةً) للخوض في الشأن العام، دون إحاطة كافية بفضاء (ما يخفى منه أضعاف ما يظهر)، متجاهلاً أن الأمور ليست دائماً على ظاهرها، ومن ناحية شرعية يقول الحق جلّ وعلا (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، و(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، ولا تناقض بين استشعار واستحضار هموم إخوتنا وجيراننا، وبين عدم تحميل أنفسنا ما لا تطيق، فهناك شعور معنوي بالتعاطف معهم، والدعاء لهم ومد يد الجود بما تجود عبر القنوات المخصصة لذلك، فقط، وأكثر من ذلك تهوّر لا مبرر له.
الإعنات الشرعي والاجتماعي ليس من لوازم ومقتضيات التشريع، والنفس البشرية ضعيفة، ومن ناحية قانونية كل من ترتضيه حاكماً (مناط به) بموجب العقد الاجتماعي تحمّل تبعات لا يُسأل عنها المحكوم إلا في إطار معنوي وأدبي (لا مادي)، والحاكم لا يقبل التدخل في عمل المواطن بصفته الشخصية ناقداً أو ناقماً، وإنما يضع الأنظمة والقوانين والتشريعات بينه وبين وزرائه وأعوانه وموظفي حكومته، فكيف يسوّغ للمواطن الذي (يا دوب معرفته تسدّه أو على قده)، كما نقول في الأدبيات الشعبية، أن يفهم في شأن عام، ويسهم بآراء يظنها مُدبّرة لشؤون البلاد والعباد، وهو أعجز ما يكون عن تدبير نفسه؟.
ليس من المسؤولية الدنيوية أو الأدبية أن أحاسب غيري، سائلاً كان أم مسؤولا، بل في محاسبة نفسي، ولن يغيب عن ذهن أي مسؤول أن هناك تاريخاً ربما ينصفه، وربما يتجنى عليه، إلا أنه يوثّق ما حدث، ويحلل أحياناً أسباب حدوثه، كما أن الأجيال التي تتوارث منجزات لا تتجاهل دور القيادات من مسؤوليها سابقين وحاليين، فقطف الثمار لا يعني بالضرورة أن نتناسى الذي غرس الشجرة.
هناك أدب ينبغي غرسه في النفوس وزرعه في المشاعر والوعي، وعلينا التأدب به، متمثلاً في الإحجام عن التطاول أو النقد السلبي الذي يستثمره الخائبون في نعتنا بما ليس فينا؛ لدق أسفين بيننا وبين بعضنا، والتأثير على لحمتنا ووحدتنا الوطنية، ونحن اليوم أكثر وعياً بما حيك ويحاك لهذه البلاد المقدسة عند الله، وعند الناس.
السياسي الحقيقي لا يتحدث سياسة، ومعيار نجاح الفرد ليس في تحليلاته السياسية؛ بل في حياته الشخصية، ويومياته الحياتية، ومن فشل في الخاص لا ينجح في العام، مع حفظ هامش استثناء.
يطرح البعض في مجالس خاصة مواضيع لا مناسبة لها، ويطلب منك إبداء الرأي حولها، علماً بأنّ رأيك لا يقدم ولا يؤخر، ولا يُؤنث ولا يُذكّر، وربما يُنفّر ولا يُبشّر، وإن وافقت طارح الموضوع فيما ذهبت قناعاته إليه عززت نرجسيته، وإن خالفته أثرت حفيظته حدّ أنك تقول «لا عادت ساعة أتعرّض فيها لموقف كهذا».
قال لي أحد الأعدقاء؛ بحكم أنك صحافي، فأنت تتبنى دور القردة الثلاثة الذين يضعون أيديهم على أعينهم وآذانهم وأفواههم خوفاً على وظيفتك!! فقلت الصحافة ليست وظيفة بل مهنة، وأعي أنك أردت بالقردة ضرب مثل فقط، لكني أرى بتفاؤل، وأسمعُ بوعي، وأتحدثُ بانتماء، وأحاول التمسك بالموضوعية في أي حوار، محاذراً الانحراف مع هوى نقد، أو مجانبة استقامة قصد، أو مجاوزة حدّ، فقال: ذَنبك على جنبك، قلت: حتى أنت ذنبك على جنبك.