المحمود: الدراما التاريخية تبتذل الجاد لتغازل المشاعر
وعد المحمود؛ الدراما التاريخية العربية «جَمْهَرَة للتاريخ بكل ما تستلزمه فعالية الجَمْهَرة من تشويق وتسطيح، من خلال إنزال المادة التاريخية من مستوى «العِلم الجاد» إلى مستوى «الفن المبتذل» الذي يُغَازِل المشاعرَ الساذجة عند عموم الجماهير البائسة المأخوذة ـ جَهلاً وتَعصّباً ـ بأوهامها عن تاريخها البعيد، ويرفع نسبة مشاهدات المتابعين عبر الفضائيات والمواقع».
ويرى أن الجماهير الجاهلة الكسولة والمستفَزّة والمُشْتَعِلة جَهْلاً وتعصّباً حَدَّ الاحتراق، والمفتونة ببَحْثها في المصادر الأولى، وتنقيبها في الوثائق، تطمح لأن تَملأ الدراما التاريخية فراغَ جهلها بما تظنه عِلماً، وتُرْوِي ظمأَ تَعصّبها بما تظنه حَقاً، وتُداوِي جُرْحَها النرجسي بما تظنه مجداً تاريخياً، وهي مُغْتبِطة بما تستهلكه، بينما تصبح ـ بعد مشاهدتها لهذه الأعمال الدرامية العبثية ـ أعظمَ جهلاً وأشدَّ تعصّبا.
ولا ينكر المحمود أن العمل الدرامي يمكنه الجمع بين الجَمْهَرة والتشويق من جهة، والمصادقية التوثيقية (التي تحتفظ بنواة الحقيقة التاريخية التي صَادَق عليها العِلم) من جهة أخرى. إلا أن هذا لا يحدث في الدراما التاريخية العربية؛ إما لأن حقائق التاريخ ليست محل اهتمام أصلاً، وكل ما يهم هو التكسّب المادي والرمزي من استعادة التاريخ؛ وإما لأن إرادة التزييف (لأجل التوظيف… !) موجودة سلفاً. ولهذا، لا تتضمن مسيرة إنتاج هذه الأعمال تخصيص لجان علمية (بحثية) تُشْرِف على مسيرة إنتاج العمل، وإن ادعى البعض تشكيل (لجان شكلية لا علاقة لها بالبحث الجاد والموضوعي)، لتضمن له أن يكون وَفِيّاً للحقيقة التاريخية في خطوطها العامة، خصوصاً وأن للعمل الفني شروطه الخاصة التي تستلزم مستوى من التحوير، الذي يفي لـ«نواة الحقيقة»، لا التحوير الخائن الذي يتعمّد التزوير، ويُمَارس بَهْلوانية الانتقال بالحقائق من النقيض إلى النقيض.
ويؤكد المحمود أن «المادة التاريخية»، في وجودها الموضوعي الخام، ليست محايدة تماماً. وبالتالي، فإن استحضارها في عمل درامي ليس محايداً بالضرورة. ليس محايداً ابتداء؛ على افتراض إرادة الحياد. ومؤكد أنه لن يكون محايداً في سياق عملية الاستحضار التي لن تكون لوجه الحقيقة، على الأقل، لوجه الحقيقة النسبية كما هي في حدود مشروطية البحث التاريخي.
ما يجعل «المادة التاريخية» «قناعاً» لفكرة ما، وتعبيراً عن منحى إيديولوجي ما، وعن «اصطفاف ما»، لهذا السبب أو ذاك. ولا ضير في ذلك لو كان الوسيط مُتَخَيّل تماماً، أو مُدَّعَى تماماً، إلا أن المشكلة تتمثل في أن الوسيط هنا هو وقائع تاريخية محددة، لها علائقها العضوية بكثير من مسارات التاريخ، وبكثير من مسارات الفكر على امتداد التاريخ أيضاً. ما يعني أن تحويلها لقناع إثر تزييف كثير من مُكَوِّناتها الأساسية، يُعَدُّ انتهاكاً لِحُرْمَة الحقيقة، وتدميراً لمبادئ الوعي العلمي، وتشويهاً ـ واعياً أو غير واعٍ ـ لِنَسقِ القيم الإيجابية التي تتغيا الإنسان في الإنسان، والتي لا تَتشكّل إلا من خلال وعي قِيَمي بالتاريخ.
ويذهب المحمود إلى أن مستوى مصداقية العمل الدرامي ترتبط بقوة علاقته مع حقائق التاريخ، وهو جزء لا يتجزأ من مقومات الإبداع الفني فيه، ويرى في التهافت الفني في الأعمال الدرامية التاريخية العربية؛ ارتباطاً عضوياً وثيقاً بتهافت المصداقية في علاقة العمل بالتاريخ، كون الهُزَال الشديد الذي يطال العَصَبَ الفكري للعمل الفني يُورِث بالضرورة هُزَالاً على كل مستويات الإنتاج؛ كون ثمة رثاثة عقلية ناظمة لكل عناصر العملية، منذ ما قبل البداية، وإلى ما بعد قراءة رَد الفعل الجماهيري.
وتطلّع لأن يكون الإبداع الفني؛ فعالية منخرطة في سياق إرادة الارتقاء بالإنسان، واحترام عقل المُشَاهد، مقروناً باحترام موقع العمل الفني المراد إنتاجه في تاريخ الإبداع؛ بحكم أن الإبداع الحقيقي ليس ظرفياً، ولا يقع أسيرَ اللحظة التاريخية المحدودة التي يتموضع فيها، وإنما يعي ذاته بوصفها إبداعاً خالداً يتجاوز ظرفيّة الزمان والمكان، أو على الأقل، يطمح لدرجة ما من درجات الخلود المتجاوز للظرف الخاص.
وأبدى المحمود تحفظه على العمل الفني الذي يتعمّد التزييف، وقلبَ حقائق التاريخ، والاستخفافَ بالإنسان، كونه لا يَهتم بموقعه في تاريخ الأعمال الفنية، ولا بما سيقال عنه في مستقبل الأيام، ولا يعنيه أن تتهكم الأجيال اللاحقة به، من حيث كونه«طيشاً فنياً» عابراً لا يهدف إلا لكسب معركة جماهيرية تافهة في حدود ظرف خاص، ولهدف أقل بكثير من الحدود الدنيا لمستهدفات الأعمال الفنية الخالدة التي كانت تعبيراً عن الثابت الإنساني في الإنسان.