حسام فيّاض: تسويق التفاهة «مهارة» لتدمير المجتمعات
وحثّ صاحب (تمظهرات السلوك الإنساني في المجتمع المعاصر) مؤسسات التنشئة الاجتماعية بمختلف أنواعها على ترسيخ قيم ومبادئ العمل في حياة الإنسان والمجتمع؛ لأن الإنسان في وجوده على وجه الأرض في حاجة ماسة لبناء نفسه وتطويرها من كل النواحي، والبناء لا يتم إلا بالعمل النافع لدنياه وآخرته، وعدّ شأنه شأن العمل باعتباره قيمة اقتصادية حضارية أسهمت في تطوير قدرات الفرد المادية، وانعكست على الحياة الاجتماعية، واستقلاله باستقلاليته المالية، لافتاً إلى أن التنشئة لا تقل أهميةً عن المال في تنمية القوى العقلية والنفسية بما يُعزز شبكة العلاقات الاجتماعية، ويؤهله لمواجهة مشكلات الفقر والبطالة، والتشرذم الاجتماعي والانتحار والمخدرات، والعنوسة، والسلوكيات الإجرامية، كما أن العمل، في جانبه الإيجابي، يُسهم في بعث روح التعاون وتعميق مفهوم المسؤولية الاجتماعية والاستقرار الاجتماعي وازدهاره وتقدمه، ويؤدي إلى تحقيق التغير الاجتماعي نحو مستقبل أفضل، موضحاً أن وسائل التواصل الاجتماعي غدت جزءاً لا يتجرأ من حياتنا الاجتماعية، فمن خلالها يمكن لنا ملء أوقات الفراغ والترفيه النفسي، وتنمية الثقافة العامة، ورفع مستوى الوعي الاجتماعي والصحي والسياسي، باعتبارها تمثِّل أعلى درجات التطور التكنولوجي؛ الذي وصل إليه الإنسان بفضل العلم والبحث العلمي الدؤوب في وقتنا المعاصر، إلا أن استخدامها وتحقيق الفائدة المرجوة منها يتوقفان على طبيعة التكوين النفسي والاجتماعي لمستخدم الوسائل التكنولوجية بحد ذاته.
وقال فيّاض: «إذا أردت أن تدمر مجتمعاً فدمره بالقبح واليأس وغياب الأمل وسيطرة الدهماء والتافهين على الاهتمامات العامة للناس، مشيراً إلى أن فكرة كتاب (نظام التفاهة) ل(آلان دونو) تتمحور حول أن كل نشاط في المجال العام؛ سياسياً، اجتماعياً، ثقافياً، أصبح أقرب إلى (لعبة) يعرفها الجميع رغم ألّا أحد يتكلم عنها، ولا قواعد مكتوبة لهذه اللعبة، ولكنها تتمثل في الانتماء إلى كيان كبير ما، تُستبعد القيم فيه من الاعتبار، فيختزل النشاط المتعلق به إلى مجرد حسابات مصالح متعلقة بالربح والخسارة عند الماديين (المال، والثروة)، وعند الفارغين (السمعة، والشهرة، والعلاقات الاجتماعية)، إلى أن يصاب الجسد الاجتماعي بالفساد بصورة بنيوية، فيفقد الناس تدريجياً اهتمامهم بالشأن العام، وتقتصر همومهم على فردياتهم الجزئية والصغيرة».
ولفت إلى أن تجاهل اللعب مع أنفسنا يُوسّع من نطاق قواعدها طوال الوقت، ويفرض لها قواعد جديدة حسب الحاجة، إذ في كل مجتمع أفراد طموحون، ذوو معايير عالية تنشد النجاح الرفيع، وآخرون ذوو معايير متدنية يبحثون عن النجاح السهل، ومن يدير اللعبة هم الفئة الثانية؛ لأن أفرادها أقرب إلى ما تتطلبه الطبيعة اليومية للحياة من التبسيط، ونبذ المجهود والقبول بكل ما هو كافٍ للحدود الدنيا، وبما أنه لن يرتفع أصحاب الفئة الثانية إلى المرتبة العالية للفئة الأولى، حرصوا على أن ينحدر أولئك إلى دركهم، إن لم يتنبه إليه أصحاب المعايير العالية كونه يحدث بسرعة، وبشكل مراوغ، ولا يلبث المرء معه إلا وقد وجد نفسه سقطت من عليائها، وانضم إلى من في السفح الأدنى، والتسفّل أيسر من الترفع، كما قال فيلسوف الشرق وموقظه جمال الدين الأفغاني، وللأمر تفسير فيزيائي «فكل مرتفع يقاوم الجاذبية الأرضية، فيما كل منحدر يسلم نفسه إليها بمرونة». وكشف أن جوهر كفاءة الشخص التافه، تتمثل في القدرة على التعرُّف إلى شخص تافهٍ آخر. وبهذا يدعم التافهون بعضهم البعض، فيرفع كل منهم الآخر، لأن الطيور على أشكالها تقع، وتكمن مقدرة التافه الرئيسة حسب دونو في التعرُّف إلى تافه مثله، ويعملان معاً على تمتين شوكة مجموعات عددها في ازدياد، وليس همها تجنب السخافة، بل جعلها تكتسي صور السلطة والمشروعية.
مضيفاً أنه وفي ظل هذا التوصيف، تنحسر الثقافة، وتتقهقر الجدية، وينسحب العلماء والمفكرون ويسود الدهماء، وهم من يقرر الأولويات، ويحدد المشكلات، ويثير الزوبعات، وبعض المثقفين يشاركون في المعمعة وهم لا يفقهون قواعد اللعب؛ فتتساهل النخب الفكرية وتغدو تبع الدهماء فيما يعرض ويناقش، مما يهم ولا يهم، ويتساءل: أليسوا هم الأكثر شهرةً والأكثر حضوراً على مواقع التواصل الاجتماعي؟ أليسوا هم من يتبعهم الآلاف بل الملايين أحياناً؟ ويجيب: أتاح هذا المجتمع لأفراده بواسطة التطورات التكنولوجية المتلاحقة منقطعة النظير أن يكون مثقفاً مخضرماً، سياسياً محنكاً، مصلحاً اجتماعياً، فقيهاً دنياً، ومن خلال جسر مواقع التواصل الاجتماعي (العالم الافتراضي)، يعبرون عن آرائهم وأفكارهم وطموحاتهم، ويدلون بأصواتهم على منابر وحلقات البث المباشر والمناقشات الجماعية التي لا تفيد ولا تثمر، ما بوأ هؤلاء الأفراد مكاناتٍ وأدواراً بعيدة كل البعد عن أدوارهم الحقيقية، وهدفهم جني الأموال من خلال التركيز على رفع عدد المشاهدات، من خلال تقديم المحتوى الهابط الذي يتمحور بشكل أساسي حول دغدغة الغرائز، وتوسيع دائرة التافهين ليفقد المجتمع ثقته بنفسه وكوادره ومنظوماته.