حمد الجاسر.. علّامة الجزيرة المتنوّر في ذكرى رحيله الـ 23
ولد حمد بن محمد بن جاسر بن علي آل جاسر الحربي في الأول من يناير 1910 بقرية «البرود» شمال محافظة القصيم النجدية، ابناً لأسرة فقيرة منهكة مادياً ومثقلة بالديون. ونشأ ضعيف البنية كثير المرض، إلى درجة أن أسرته كانت تتوقع وفاته في أية لحظة، لذا جُهز له قبر أكثر من أربع مرات، لكن الحياة كانت تدب فيه في كل مرة، فيُستخدم القبر المحفور لدفن غيره. وبسبب مرضه وهزاله لم يحسن المشي إلا في سن الرابعة، كما أنه للسبب ذاته لم يستطع مساعدة والده في فلاحة الأرض مثلما كان يفعل إخوته وأقرانه مع آبائهم، ما جعل جده لأمه يختاره لمساعدته في إمامة مسجد القرية. وبعد فترة أرسله والده لتلقي العلم في كتّاب تقليدي بقرية «حزمية» المجاورة لقريته، حيث حفظ القرآن وتعلم القراءة والكتابة. وفي عام 1923 سافر إلى الرياض، التي تعلم فيها شيئاً من الفقه والتوحيد على يد أحد أخوال أبيه وهو عبدالعزيز الفايز، لكنه ما لبث أن عاد في السنة التالية إلى قريته بسبب اشتداد المرض على والده، وبعد وفاة الأخير سنة 1925 تقريباً، تكفل جده لأمه علي بن عبدالله بن سالم برعايته وتوجيهه توجيهاً دينياً صارماً. وكان من ثمار تلك التربية أن انتدب الرجل وهو في سن الثامنة عشرة ليعلم أمور الدين لبدو رحّل من قبيلة عتيبة ويصلي بهم رمضان، فكان ينتقل معهم أينما حلّوا. على أن هذا لم يستمر طويلاً، إذ سرعان ما اشتاق للتحصيل العلمي، فسافر إلى مكة المكرمة ليستقر بها ويلتحق فيها بالمعهد العلمي السعودي (أول مدرسة ثانوية نظامية تؤسس في الحجاز في العهد السعودي)، ويتخرج منها سنة 1935 متخصصاً في القضاء الشرعي.
في ريعان شبابه، وتحديداً في رحلته الثانية إلى الرياض للدراسة والتحصيل، زاول الجاسر عدداً من الأعمال ومنها عمله قاضياً في إحدى الهجر، ومعلماً في قصر الملك عبدالعزيز لعشرين من رجال وصبية القصر، وإماماً لصلاة التراويح في مسجد القصر، وناسخاً لبعض الرسائل والنصائح وأدعية ختم القرآن. لكن بعد تخرجه من المعهد العلمي عمل مدرساً في ينبع، واستمر في ذلك حتى عام 1938، وهو العام الذي انتقل فيه إلى سلك القضاء ليعمل قاضياً في ضبا بشمال الحجاز، غير أنه حصل على بعثة حكومية في عام 1940 إلى مصر، ليكمل تعليمه في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً) فسافر إلى هناك. وبسبب ظروف الحرب العالمية الثانية آنذاك، لم يكمل تعليمه بمصر وعاد إلى وطنه. ربما كان بإمكانه العودة مجدداً إلى مصر لاستكمال تعليمه بعد انتهاء الحرب، لكنه لم يفعل. ويبدو أنه أدرك آنذاك ــ طبقاً لمقابلته مع جريدة الأسبوع الأدبي السورية (6/3/1999) ــ أن محافل العلم وكلياته ليست سوى وسيلة للاستزادة منه فحسب، وأن بإمكانه أن يعتمد على جهده الشخصي وموهبته وفهمه وتجربته في جمع ما يهمه ويحتاجه من معلومات من الكتب والمراجع عبر البحث والتدقيق والتمحيص والتصحيح والشرح. بعد عودته من مصر شغل منصب مدير التعليم في نجد، قبل أن تُعهد إليه في حدود عام 1950 إدارة كليتي الشريعة واللغة العربية، اللتين شكلتا النواة الأولى لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض. وأثناء فترة إدارته للتعليم بنجد أسس في الرياض أول مكتبة لبيع الكتب تحت اسم «مكتبة العرب»، وأشرف بنفسه عليها وعلى ما كان يُعرض فيها من مؤلفات حديثة. ويقول أحد الذين لازموه كالظل في فترة من فترات حياته وهو الدكتور عبدالله عبدالرحيم عسيلان (عضو مجلس الشورى السعودي الأسبق) في كتابه عنه الموسوم بـ«حمد الجاسر وجهوده العلمية»، إن الظروف حملت الجاسر أثناء دراسته وإقامته بمكة المكرمة على الالتحاق ببعض الأعمال المؤقتة، فكان مثلاً إماماً يصلي بالجند في قلعة أجياد، التي كان أحد أخوال أبيه يعمل قائداً بها، كما عمل ضمن هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما أثناء عمله بالتدريس في ينبع فقد اضطرته الحاجة وحالة الضنك أن يبيع أنيس وحدته آنذاك وهو كتاب «معجم البلدان» لياقوت الحموي بثمن بخس.
تزوج الجاسر، الذي توفي في 14 سبتمبر 2000، في أربعينات القرن العشرين من هيلة بنت عبدالعزيز العنقري، التي أنجبت له أولاً مي، التي لم تعش سوى أشهر معدودة، ثم مي الثانية التي ولدت في الطائف فمحمد الذي فقده في حادث تحطم طائرة في لبنان سنة 1975. بعد ذلك رزقه الله بهند وسلوى ومعن ومنى.
أول إسهاماته الصحفية كان في مطلع الثلاثينات، حينما كان يدرس الثانوية في المعهد العلمي بمكة المكرمة، حيث رصدت له حينذاك مقالات أدبية واجتماعية ونقدية ومشاغبات لكبار أدباء تلك الحقبة، مثل حسن عواد وأحمد الغزاوي، قبل أن يتجه إلى نشر نتاجه الشعري بدءاً من عام 1932. كانت نظرة الجاسر إلى الصحافة أنها وسيلة تنوير وتبصير للمجتمع وأداة إصلاح ومواكبة لتحديات العصر قبل أن تكون وسيلة لنقل الأخبار والأحداث، ومن هذا المنطلق أدرك أن العمل الوظيفي لا يلبي تطلعاته ولا يتناسب مع طموحاته، فاختار العمل الصحفي. كانت البداية في سنة 1952 في عهد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، حينما اتصل بولي عهده الأمير سعود طالباً ترخيصاً لإصدار أول صحيفة في نجد باسم «الرياض»، فجاءته الموافقة من قلم المطبوعات بوزارة الخارجية، بأن تصدر الجريدة شهرياً إلى أن تصبح أسبوعية، لكنه أصدرها باسم «اليمامة» في العام نفسه، وطبع أعدادها الأولى في مصر ثم جدة ثم لبنان، الأمر الذي أدخله في متاعب مع الشيخ عبدالله بلخير (مستشار الملك وقتذاك)، الذي أصدر أمراً يمنع دخول الصحيفة إلى السعودية إلا بعد تغيير اسمها كما ورد في الترخيص. وقد حاول الجاسر توسيط صديقه الشيخ خيرالدين الزركلي (وكيل وزارة الخارجية آنذاك)، لإعادة النظر في الأمر، إلا أن جهودهما باءت بالفشل (طالع مجلة العرب ــ ديسمبر 1977 ــ صفحة 632)، فأيقن الجاسر من تلك اللحظة، أن مهنة الصحافة هي بالفعل مهنة المتاعب. وعلى الرغم من ذلك فإن الرجل، الذي عرف عنه عدم اليأس، واصل إصدار صحيفة اليمامة الرائدة على مدى عشر سنوات، حفلت بالكثير من التحديات الإدارية والفنية والرقابية والمالية إلى أن توقفت نهائياً عام 1964، على إثر صدور نظام المؤسسات الصحفية (كبديل لنظام المؤسسات الصحفية الفردية)، الذي بموجبه ظهرت مؤسسة اليمامة الصحفية، وتحولت اليمامة من صحيفة إلى مجلة. ومن إسهامات الجاسر الأخرى قيامه في عام 1955 بتأسيس أول دار للطباعة في نجد كي تغنيه عن طباعة صحيفته في الخارج، وفي عام 1966، أسس «دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر»، التي أخذت على عاتقها إصدار مؤلفات كثيرة للكتاب السعوديين، وفي الأول من مايو 1965، أطلقت مؤسسته جريدة الرياض اليومية (أول جريدة تصدر في العاصمة الرياض)، لتتبعها في العام نفسه مجلة «العرب» الفصلية المتخصصة في تاريخ وأدب الجزيرة العربية، التي وجد فيها نفسه وأنقذته من متاعب الصحافة السياسية وأشواكها. علاوة على ذلك أسس «مؤسسة حمد الجاسر الخيرية» بهدف الحفاظ على إرثه الثقافي ونشر إنتاجه الأدبي والمعرفي، وخدمة الباحثين والدارسين في مجالات تخصصهم المختلفة.
لم يكن ما قلناه حول الخلاف على اسم صحيفته سوى محطة واحدة من محطات عدة تسببت له في الألم والحسرة. فحينما زار الزعيم الهندي جواهر لال نهرو الرياض لأول مرة سنة 1956، خرجت اليمامة بمانشيت يقول «أهلا برسول السلام»، وهو ما أغضب بعض رجال الدين ممن استنكروا وصف زعيم هندوسي بالرسول، وقاموا بتوغير صدور البسطاء على اليمامة وصاحبها. وأثناء احتدام الخلافات بين المملكة العربية السعودية والنظام الناصري في مصر، دأب الشيخ عبدالله عمر بلخير، المسؤول آنذاك عن الإذاعة والصحافة والنشر على إرسال مقالات للنشر في اليمامة تهاجم مصر والمصريين، وقد اقترح الجاسر أن يتم نشرها تحت عنوان «جاءنا من المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر ما يلي»، فلم يعجب ذلك بلخير، على الرغم من أن الجاسر حاول إقناعه بضرورة عدم مجاراة الخصوم في المهاترات المؤدية إلى توسيع شقة الخلاف بين العرب والمسلمين، والمماحكات غير المتفقة مع مبادئ الدين، خصوصاً أن السعودية تعد قبلة للمسلمين وقدوة للدول في الأخلاق والأعمال الصالحة، وقد استشهد الجاسر في ذلك بقوله عز وجل «وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه» وقوله تعالى «وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً». لكن النتيجة كانت أن صدر أمر عام 1961 بإيقافه ونفيه إلى مسقط رأسه في بلدة البرود، ليقيم فيها إقامة جبرية. قال الجاسر، متحدثاً عن هذه الواقعة (بتصرف) «كنت عند صدور هذا الأمر في بيروت، فأُبْلغتُ به، فبقيت سنين مقيماً في لبنان، حتى تولى الملك فيصل رحمه الله الحكم، ورغب مني العودة، فتريثت فوقعت الحرب الأهلية اللبنانية التي لاقيتُ خلالها الأمرّين، إلى أن خرجتُ وعدت إلى الرياض». هذا علماً بأن الجاسر خلال سنوات إقامته في لبنان كوّن لنفسه مكتبة زاخرة بأمهات الكتب، لكنها احترقت خلال الحرب مما شكل له صدمة نفسية جعلته يقول «بكيت على كتبي المحترِقة، أكثر من بكائي لاحتراق ولدي محمد في الطائرة». وقد لخص الرجل أهم المحطات المفصلية في حياته في كلمات بسيطة فقال «الملك عبدالعزيز أنقذني من الجهل، والملك فيصل من السجن، والملك خالد من المرض».
أبرز عناوينه
ولعل من أهم وأبرز ما أنجزه من عناوين، كتب؛ «المناسك وتحديد أماكن الحج»، «معالم الجزيرة»، «المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية» (صدر في ثمانية أجزاء، وبـ21 مجلداً)، «إطلالة على العالم الفسيح»، «معجم قبائل المملكة العربية السعودية»، «رحالة غربيون في بلادنا»، «مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ». إلى ذلك رصد مركز حمد الجاسر الثقافي في كشّافه الصادر عام 2007 ما مجموعه ثلاثة آلاف عنوان لمقالاته وبحوثه التي نشرها في اليمامة، ومجلة العرب، والعديد من الصحف والمجلات المحلية والخليجية والعربية. ومن كتبه التي صدرت بعد وفاته بمستشفى في الولايات المتحدة بتاريخ 14 سبتمبر 2000 كتاب «من سوانح الذكريات»، الذي قال عنه د. عبدالرحمن الشبيلي في صحيفة الشرق الأوسط (11/4/2016) «عُدّت السوانح واحدةً من أنفس الذكريات والسير الذاتية في الأدب السعودي، ومن أفضل ما كُتب في وصف البيئة المحلية في فترة تأسيس السعودية، عن الحياة في عموم مناطق البلاد، وعن بيئة البادية والحاضرة، وأحوال القرية وزراعتها ومعيشتها وملابسها وتعليمها واقتصادها، ونشأة الهجر والإخوان فيها، وذلك لجمال الأسلوب، وسلامة العبارة، وبلاغة الكلمات من دون تكلّف، وتدفّق الأفكار، ودقة التوثيق، وشفافية التشخيص، وصراحة القول والشهادة والأحكام».
وعن تكريماته وجوائزه، منحته بلاده جائزة الدولة التقديرية عام 1984، وحصل على وسام التكريم من مجلس التعاون عام 1990، ووسام الملك عبدالعزيز خلال مهرجان الجنادرية عام 1995. وفي عام 1996 منحته جامعة الملك سعود الدكتوراه الفخرية، ونال جائزة الملك فيصل العالمية للأدب العربي، وجائزة سلطان العويس الأدبية، وجائزة الكويت للتقدم العلمي. إلى ذلك تمّ إطلاق اسمه على طريق في تبوك وشارع مجاور لبيته في حي الورود بالرياض وشارع في حي الروضة بجدة، ومستشفى في بلدة البرود، وقاعة بجامعة الملك سعود، وأخرى في مؤسسة اليمامة، وثالثة في جامعة آل البيت بالأردن.
دراسة جغرافية الأماكن والأنساب
يُروى أن اهتمام الجاسر بالبحث والتنقيب في التاريخ والجغرافيا والمواقع والأنساب بدأ بحكاية حدثت له عام 1935، حينما كان مدرساً في ينبع، حيث كان يشرح لطلبته أحد أبيات أبي العلاء المعري التي وردت فيها الإشارة إلى موقع «رضوى»، فقال لهم معتمداً على مطالعاته في المراجع، إن رضوى جبل قريب من المدينة سهل المرتقى، فرد الطلبة بصوت واحد «لا يا أستاذ.. إنه الجبل الأسود الذي نشاهده من النافذة». يقول الجاسر تعليقاً على ذلك «فخجلت من نفسي، وأدركت أنه لا خير في أستاذ يكون طلابه أعرف منه». وهكذا كانت هذه الواقعة دافعاً له للانصراف إلى دراسة جغرافية الأماكن والأنساب والتقصي ميدانياً عن المواقع من خلال القراءة والسؤال والتنقيب في القصائد الشعرية ذات الصلة، ودراسة الأنساب والقبائل وتفرعاتها وهجراتها، ناهيك عن الترحال باستخدام الجمال والدواب أو المشي على الأقدام، فكانت المحصلة عشرات المؤلفات والأبحاث والدراسات التي أثّرت بشكل فعال وإيجابي في داخل السعودية وخارجها، وصارت قيمة فكرية وعلمية يسترشد بها الدارسون والباحثون كنموذج للتحقيق والتوثيق وإيصال المعلومة بأمانة مع التحليل والتعليل العلميين.