خلط الأوراق.. و«الشرق الأوسط الجديد»
المشهد الأول كان استخدام الولايات المتحدة الفيتو الأمريكي ضد مشروع قرار منح فلسطين عضوية كاملة في الأمم المتحدة، والثاني (المنقسم إلى ثلاث) هو تصويت وإقرار مجلس النواب الأمريكي السبت 20 إبريل/ خطة مساعدات واسعة لصالح إسرائيل وأوكرانيا وتايوان، بحزمة ضخمة بلغت قيمتها الإجمالية 95 مليار دولار.
قبل الخوض في تفاصيل ما يخص المنطقة بشكل مباشر، فإن ملف تايوان أصبح بمثابة قنبلة مستقبلية، وعلى الرغم من اعتبار الغرب بأن الصين تمثل تهديداً حقيقياً لهم على المستوى البعيد، كان الرهان على أن دمجها في الاقتصاد العالمي قد يحول دون الصدام مرحلياً من خلال انفتاحها السياسي بشكل أكبر على الغرب، والحفاظ على توازن سياستها الخارجية بما يحول دون اصطفافها ضد الغرب، لكن أزمة تايوان توشك أن تضع الغرب في مواجهة مع الصين التي زحفت نحو العمق الأفريقي بشكل أسرع من حسابات الغرب، لتصبح شبيهة بالأزمة الأوكرانية التي أريد لها أن تتواصل.
بالعودة لما يخص الشرق الأوسط فإن التساؤلات المطروحة جميعها يمكن تلخيصها في كلمتين (إدارة الصراع)، بما يحافظ أو يحقق المصالح الاستراتيجية الأمريكية في المقام الأول والغربي ثانياً، إذ تحفظ الكتلة هيمنة القطب الذي تربطه مصالح عميقة ومتجذرة مع المنطقة لا يمكن الانفكاك عنها بسهولة، وربما أيضاً هي ضرورية للتوازن المستقبلي.
فيما يتعلق بالفيتو الأمريكي ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة، فإن واشنطن ربما لا تريد تسوية القضية في الظرف الراهن وما يشهده العالم من تحولات كبرى، إذ يعد الملف من أعمدة الاستراتيجية والسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وكانت العديد من توصيات مراكز الأبحاث منذ عهد أوباما تشير إلى ضرورة اتخاذ واشنطن خطوة إيجابية لما للوضع من انعكاسات سلبية على مكانتها، دون أن نتغافل الرؤية الإسرائيلية، وخاصة نتنياهو، التي تستثمر في كل المواقف بما يخدمها أيضاً.
إلى جانب ما سبق، فإن توجس واشنطن من الترتيبات التي تحدث بشأن (تعدد القطبية)، تدفعها نحو إبقاء المنطقة تحت هيمنتها الأمنية التي فرضتها لعقود من خلال الصراع الإسرائيلي العربي من جهة، والإيراني العربي من جهة أخرى، وهو ما يفسره إعادة خلط الأوراق مجدداً، الذي يتصل بروسيا والصين وإيران.
من جهة، حين شعرت واشنطن بأن روسيا والصين تزحفان نحو المنطقة بخطى أسرع وأعمق وكذلك أفريقيا، ذهبت لإشعال الأزمة الأوكرانية، في محاولة لوقف التمدد الروسي والعودة بقيادة بوتين، التي جاءت بنتائج عكسية بالنسبة للغرب، حين أبقى العرب على موقف الحياد من الأزمة.
في خطوة لاحقة، حققت الصين اختراقاً مهماً في المنطقة من خلال الاتفاق الذي وقع في مارس 2023، بين طهران والرياض برعاية بكين، والذي اعتبرته دوائر صنع القرار في الغرب، تحولاً خطيراً في المنطقة وتهديداً لنفوذها بشكل عملي، إذ برهنت الصين بحضورها السياسي في المنطقة بعد أن اكتفت لعقود بالحضور الاقتصادي.
منذ ذلك التاريخ تحركت واشنطن بشكل أكثر فاعلية من أجل الحفاظ على مصالحها في المنطقة، لكنها وجدت الفرصة الأفضل في مشهد (صراع النفوذ) بين إيران وإسرائيل، بعد أكثر من ستة أشهر من الاستثمار في ملف غزة، بالإبقاء على الصراع بين إيران وإسرائيل، ضمن ما يعرف اصطلاحاً بـ(قواعد الاشتباك)، إذ تيقن أن اندلاع مواجهات مباشرة في الوقت الراهن ستكون نتائجها الاقتصادية كارثية لكل الأطراف، في حين أن الإبقاء على المشهد في حالة غليان دون الحرب يضعف المنطقة تدريجياً، ويوقف خطط التنمية الاقتصادية بين المنطقة العربية من جهة والصين وروسيا من جهة، في محاولة لإجهاض «تعدد القطبية».
في استدعاء القديم، فإن فشل السيناريو في 2011، لا يعني عدم التفكير فيه مجدداً، ويمكن اعتبار الراهن هو استدعاء له، مع العودة للحديث عن (الشرق الأوسط الجديد)، مرة أخرى في دوائر صنع القرار، والعديد من العناوين ومراكز الأبحاث.
ارتبط مفهوم (الشرق الأوسط الجديد) بالجنرال الأمريكي إلفرد ماهان عام 1902م، حين أشار إلى أهمية منطقة الخليج العربي على كافة المستويات، وبدأ تداول المصطلح بين الدوائر الاستخباراتية للدول الاستعمارية، التي صبت تركيزها على كيفية الحفاظ على مصالحها في المنطقة تحت راية الهيمنة وفرض ثقافتها وسياستها خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي.
للأسف لم تكن أهمية المنطقة العربية للغرب في مرتبة الشراكة، قديماً أو حديثاً، وربما تؤكد تصريحات الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، ونائب رئيس المفوضية الأوروبية جوزيب بوريل حين قال: «أوروبا حديقةٌ.. بقيّة العالم أدغال»، عدم تغير رؤية الغرب حتى بعد انتهاء الاستعمار بسنوات، وهنا أذكر ما سبقه إليه الروائي هيرمان ميلفيل عام 1812م، حين قال: «نحن رواد العالم وطلائعه..اختارنا الرب، والإنسانية تتطلع إلى سلالتنا وتنتظر منا الكثير، ونحن نشعر في مكنون أنفسنا بالقدر على فعل الكثير، لقد بات لزاماً على الكثير من الأمم أن تحتل المؤخرة»، وكذلك مقولة ثيودور روزفلت (1858 1919م)، بأن «أمركة العالم مصير أمتنا وقدرها»، الأمر الذي يفسر النظرة التي يتعامل بها الغرب وبالأخص واشنطن مع المنطقة على كافة المستويات. وهو ما رسخ بشكل كبير في عهد بوش الابن الذي وضع المصلحة الأمريكية فوق أي اعتبار اتساقاً مع ما قاله روزفلت: «إن قدرنا هو أمركة العالم»، وهو ما اتضح في السنوات التي حضرت فيها الولايات المتحدة إلى المنطقة، وتنصيبها لبعض القيادات في الدول التي سيطرت عليها، ومحاولة فرض الولاء للعقيدة الأمريكية والتماهي مع إسرائيل، مع العمل على تجريد العالم الإسلامي من هويته وأمركة هويته وثقافته أيضاً، تحت مزاعم نشر الديمقراطية التي تريدها بقياسات خاصة.
منذ عقود تعمل الإدارات الأمريكية المتعاقبة على ضمان تفوق إسرائيل عسكرياً واقتصادياً، للحفاظ عليها حليفةً وإدارة الصراع في المنطقة عبرها.
في الأخير، يمكن القول إن أوروبا وكذلك واشنطن مطالبون بإعادة التفكير بمستقبل مصالحهم في الشرق الأوسط وإيجاد تسوية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، للحفاظ على مصالحهم وتحالفاتهم في المنطقة، بدلاً من الذهاب إلى حافة الهاوية وخلط الأوراق مجدداً، التي ستخسر فيها العديد من دول المنطقة الكثير، لكن المؤكد أن الصحوة القادمة لن تكون في صالح الغرب ولا أوروبا في المنطقة حال استمرار هذا النهج.
أيضاً، لا يمكن تغافل ما يسعى له نتنياهو في الاستفادة من تواجد البوارج الأطلسية في المنطقة واقتحام رفح، لتحقيق خطوة ضمن رؤية (إسرائيل الكبرى)، مستغلاً إدارة واشنطن وأوروبا لصراعهم مع الصين وروسيا في المنطقة، وهو السيناريو الذي قد يدفع نحو عدم استقرار كامل ستطال نيرانه أوروبا وحتى الداخل الأمريكي.
كما يمكن القول إن دول الشرق باتت مطالبة بالدفاع عن مصالحها في المنطقة بشكل أكبر، وإظهار القوة للدفاع عن السلم والأمن الدوليين والتنمية، وعدم الاكتفاء بالإدانة والشجب، إذ يمكن للتلويح بالحرب منع اندلاعها.