عباس فائق غزاوي «بابا عباس».. أبو الإذاعة السعودية مُشرِع الأبواب للمبدعين
ولصاحبنا من الأولويات، التي تفرد بها على غيره، ما يبهج الخاطر، ويسعد الناظر.
جيل صاحبنا، كان أمامه طريق واحد لا مسلك سِواه، وهو البحث المضني عن وظيفة، ثم التقدم لها، وربما الدخول في مسابقة عليها، فإذا نالها، أَمَّنَ ما يُقِيمُ به أَودَ عائلته، وتمكن إن شاء أن يبتاع ما يمكن أن يزيد من هيبته وجمال مظهره، بين أصحابه، وربما ليختال به أمام أعين الفتيات اللاتي يمخرن عُبَابَ شوارع الأسواق ذهابًا وجيئة، دون أن ترى منهن شيئًا غير عيونهن، وكفى بالعيون فتنةً، كما قال جرير:
إن العيون التي في طرفها حورٌ
قتلننا ثم لم يُحيِينَ قَتلَاناَ
يَصرَعنَ ذَا اللُّبِ حَتَّى لا حِراكَ بِهِ
وَهُنَّ أَضعَفُ خَلقِ اللهِ إِنسانَا
أيُ معادلة هذه التي تقوم على التناقض؟! هل يجدُرُ بذي اللُبِ أن يَخِرَ صَريعًا؟! وإذا كان هذا مآل أولي الألباب، فكيف بمصائر غيرهم؟!
ليس هذا فحسب، بل كيف لأضعف خلق الله، أن يَصرَع الجديرين بالغلبة؟!
أما وقد أصبحتم غير جديرين بغلبة، فإذا رأى أحدكم اللون الأسود يُقبل على عينيه، ويتمدد أمام ناظريه شيئًا فشيئًا، فنقول له: انجُ سَعد، فقد هَلَكَ سُعيد!
هذا هو الطريق الأوحد للحصول على الوظيفة؛ إلا عند صاحبنا، إذ لم يسلك هذا الطريق، ولا سار فيه، ليس لأنه آثر البطالة، وإنما لأنَّ الوظيفةَ سلكت إليه طريقًا مختلفًا!
فمن فرائده أن العمل جاء ساعيًا إليه، حتى بَرَكَ في حِجرِه، ودَنَت أَمام عينه قِطاف الوظيفة، فاستنكف أن يقطفها، فقطفت له نفسها!
لم يبحث عن الشهرة، ولا سعى إلى النجومية، بل أتته منقادة… إليه تَجُرجِرُ أذيالها!
في عنفوان شبابه، كانَ يُعَدُّ الأب الروحي للقطاع الذي يعمل فيه، وَبَقي أيقونته الأبرز، حتى بعد أن انتقل إلى قطاع آخر، وهو لم يُجاوِز الثلاثينات من العمر، على أن النجاح والتألق والذيوع، لازمه حيثما حَلَّ.
أصدق ما يمكن أن نفتتح به الحديث عن سيرة صاحبنا، إيراد جزء من آخر مقال كتبه، ولم يكن الفارق بين تاريخ رحيله إلى بارئه، وكتابة المقال سوى ثلاثة عشر يومًا!
في مقاله الأخير، لم يحتَر صاحبنا في اختيار الفكرة، بمجرد أن عزم على الكتابة، إذ أزمته أزمة قناعة، لا صناعة، فكيف يحار مثله في صُنع فكرة؟ وهو الذي قضى حياته للأفكار منتجًا، ولمبدعيها حاضنًا، مُشَرِعًا لهم الأبواب، مُمهدًا لهُم الطرق، فكم من مُبدِعٍ كان صاحبنا له بداية التحفِيز، وانطلاقة المسيرة، ولا تَسَل عن تألقِ السِيَرِ بعد ذلك، ولا عن مسارات الإبهار، فهل يُستغرَبُ على النجوم، تزيين السماوات بسطوعها؟!
في المقال، الذي عاد صاحبنا إلى كتابته بعد انقطاع، بَرَّرَ أسباب الانقطاع، وشرح علاقته بالحرف والكلمة، ويبدو أَن الاستفزاز أسهم في هذه العودة، فبعد التقاعد، ناكَفَهُ البعض، بالقول: هل تُحِس بأَنَّكَ أصبحتَ إنسانًا عاديًا الآن؟ وهو من كانَ مِلءَ السمع والبصر، طيلة حياته!
فكتبَ: «تكاثرت دعوات أصدقاء وإخوة أعزاء، تطالبني بأن أستأنف الكتابة، وتستغرب امتناعي عنها، رغم مرور حوالى أربع سنوات منذ أن تقاعدت عن العمل، وأصبحتُ كما قال لي أحدهم ــ ببعض السذاجة ــ: هل أصبحتَ عادِيًا مثل أي شخص آخر؟! قلت له، وفي خاطري ابتسامة: نعم يمكنك اعتباري كذلك. وعُدتُ إلى نفسي، أتساءلُ وأنا أعرف الجواب: هل كُنتُ في أي يوم من الأيام، شخصًا غير عادي؟! والجواب: لا بكل قوة، فأنا لم أكن إلا أنا، منذ أن عرفت نفسي يافعًا، مرورًا بكثير من المراكز، والمسؤوليات الحكومية وغير الحكومية. ولذلك فإن تقاعدي لم يُمَثِّل بالنسبة إليَّ أي تغيير في حياتي، بالنقص أو بالزيادة، ذلك أنني أتمثل بقول أحدهم: لا تجعل شخصيتكَ مُلتصقة بعملكَ الرسمي، فإذا ذَهَبَ العَمَلُ ضاعت الشخصية! والحقيقة عندي بالنسبة إلى الكتابة، أنها عِشقٌ لم يُفارقني في يومٍ من الأيام، ولذلك فإني أتعاملُ معها كما يتعامل العاشقُ مع المعشوق… الكثيرُ من الاحترام، والمزيد من الاهتمام، والحساسية الزائدة عن الحد، وكادَ العِشقُ… أن يؤدي إلى العُقمِ. وبعيدًا عن العواطف، ومن ناحية عملية، فإني مؤمنٌ بأن الكاتبَ يَجِبُ أن يُقَدِّمَ جديدًا إلى قُرَّائِه، وإلا فإنَّ الأولى به التوقف، احترامًا للقارئ واحترامًا لنفسه، وقد سبق لي أن نَشَرتُ هذا في «وقفة تأمل» في جريدة «»، منذ أكثر من عشرين عامًا. واليوم ونحن في عالم التحديات، والعُقَدِ والحلولِ، الحافل بكل ما نريد وما لا نريد، بما نقبلُ وما لا نقبل. ونحنُ في عصر العولمة، هذا (الغول) الذي يخاف منه الكثيرون من أمثالي، وقد يستفيد منه الآخرون، اليوم وقد عُدتُ إلى قلمي استرضيه، وإلى قُرَّائي مُعتذرًا، وإلى أصدقائي وإخواني مُلبيًا الدعوةَ، أَجِدُ نفسي في قلب العاصفة مع نفسي، فقد قبلت التحدي، وسوف لن أُضيفَ جديدًا، إلا ما نَدَرَ، ولكنني سأحاول أن يكون ما أكتبه صادقًا ومخلصًا، في كل الأحوال، وأن يكون هادفًا إلى الخير والحق والجمال، قدر المستطاع».
كانت هذه آخر سطور خطها، عباس فائق غزّاوي، رحمه الله، الذي ما عَلِمَ بأنه يكتبُ مقالة مُوَدِّع، ولكن يكفيه أنه استرضى القلم، واعتَذَرَ إلى القارئ، وأجاب الصديق.
وإذا ذُكرت الإذاعة السعودية، فمن أوجب الواجبات، أن يُذكر إلى جانبها عباس غزاوي، أحد أهم روادها، وآبائها الروحيين، إن لم يكن أبرزهم.
وُلِدَ عباس غزاوي، في حارة الفَلْق بمكة المكرمة، عام 1351هـ، (1932م)، وبها ترعرع ونَشَأَ، وكان والده فائق غزاوي أحد موظفي ديوان نائب الملك في الحجاز، الأمير فيصل بن عبدالعزيز (الملك لاحقًا)، وتحديدًا في ما كان يسمى المخابرات، وهي الاتصالات، التي كانت آنذاك وظيفة لا يُحسن القيام بها إلا قلة، لحداثة وسائل الاتصال من هاتف وبرقية ونحوها.
درس غزاوي الابتدائية في المدرسة السعودية بالمُعَلَّاة، والثانوية في مدرسة (تحضير البعثات)، وكانت مدة الدراسة فيها ست سنوات، تشمل الإعدادية، والثانوية، وتؤهل طلابها للابتعاث خارج السعودية، حيث لم يكن في المملكة جامعات آنذاك. وبينما كان عباس يُؤَدِّي امتحانات التوجيهي؛ السنة الأخيرة في الثانوية، بُشِّرَ بولادة ابنه البكر، عصام، ثم أضاف إلى هذا الخبر السعيد خبرًا مثله؛ تخرجه من التوجيهي وترتيبه الأول على المملكة، مع أنه كان آخر سنتين من المرحلة الثانوية، يعمل إلى جانب الدراسة مذيعًا في الإذاعة، أي منذ كان عمره نحو 17 عامًا! فكيف عَمِلَ في الإذاعة في هذه السن المبكرة؟!
غزاوي، كان مُولعًا منذ طفولته بالقراءة، مفتونًا بالكتب، وذلك بسبب والده، الذي كان يُصِر على أن يقضي الابن ساعاتٍ كل يوم، قارئًا في مكتبة المنزل، منذ العاشرة من عمره، فيما كان أقرانه لا يَمَلونَ من اللعب في شوارع الحارة. ومع ما كان يسببه ذلك للفتى المكي من ضِيقٍ أحيانًا، إذ اعتبر في البداية أَمرَ والده حرمانًا له من الاستمتاع باللعب مع أصحابه، إلا أنه أَدركَ لاحقًا كم أَسهمت عُزلة القراءة في تكوين معارفه، وتراكم ثقافته، بما جعله يَبُز الأقران.
وهل يتخطى موضع الحزم فاضل
له أدب في قومه وله عقل
جاءت القراءة بشقيقتها؛ الكتابة، فأصبح عباس يكتُبُ القِصَّة، وكَتَب يومًا قصة أسماها (أم البطل)، عن جندي سعودي جُرح في حرب فلسطين، وما عَلِمَ أن قصته، سترسم مسار حياته كلها.
أرسل طالب الثانوية عباس غزاوي، قصته إلى الإذاعة السعودية، حديثة العهد (بدأ بثها في عام 1949م)، وكان رَدُّ الإذاعة؛ أنها تنتظره في مقرها بجدة، ليقرأ بنفسه قصته عبر الأثير. وفي غمرة ما اجتاح عباس من فرح غامرٍ بقبول قصته، أدرك أن قراءتها بصوته فرصة ذهبية ساقها الله له، فسافر من مكة إلى جدة بسيارة بريد، في رحلة مُنهِكَة شَاقَّة، تجاوزت خمس ساعات، إذ لم يكن التنقل بين المدينتين آنذاك يسيرًا، وأنزلته سيارة البريد بعيدًا عن مقر الإذاعة، فاضطر للمشي طويلًا، وبالكاد أدركَ البث لما وصل المقر، فلم يتبق على موعد بث قصته إلا بضع دقائق، بل إن مذيعًا كان سيقرأ القصة، بدلًا منه!
ظَنَّ غزاوي أنه وصلَ مُتأخرًا، والحقيقة أن صوته صدح عبر الأثير بقصته في الوقت المثالي، حيث كانت أُذن الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، رحمه الله، تُنصِتُ إلى المذياع حينها، وصادف أن استمعَ إلى قصة عباس غزاوي، فحازت القصة على إعجاب الملك، وأمر آنذاك بتعيين قارئ القصة مذيعًا بالإذاعة فورًا، في عام (1948م، كما قال غزاوي نفسه، لا كما كتب 1950م)، مع أنه ما زال طالبًا بالثانوية، عمره نحو سبعة عشر عامًا، وهي من تفردات غزاوي وأولياته، فهو أول مذيع يُعَيَّن بأمرٍ ملكي!
أما قلتُ لكم يا سادة، إن الوظيفة أتته طائعة ودنت فتدلت بين يديه؟!
منذ تلك الحادثة، انتظم عباس في الإذاعة السعودية موظفًا، فصار يدرس نهارًا، ويعمل بالإذاعة ليلًا فيسجل البرامج، ويقرأ النشرات، ويقدم الفقرات.
عشق عباس للقراءة، ونهله بنهم من معين الكتب، خلق شخصيته المثقفة، وأصبح العمل في حقول المعرفة والثقافة والأدب من انشغالاته واهتماماته، ومن مظاهر ذلك، مشاركته زملاء مدرسة (تحضير البعثات)، إصدار مجلة اسمها «اليقظة»، تولى هو رئاسة تحريرها، وشارك فيها حسن بن عبدالله آل الشيخ (أصبح وزير المعارف لاحقًا)، ومصطفى حسين عطار (أصبح مدير التعليم بمكة لاحقًا)، وطاهر الفاسي، ومحمد المرزوق الصانع، وضياء الدين رجب، ونشر فيها حسين عرب (الشاعر السعودي الكبير لاحقًا) بعض قصائده، واستمرت ثلاث سنوات، وهي لم تكن المجلة الوحيدة، بل واحدة من مجلات أصدرها غزاوي رفقة زملاء المدرسة، بمجهودات فردية بسيطة، وأسماء كانت آنذاك صغيرة، لكنها أصبحت لاحقًا من كبار شخصيات الدولة والمجتمع.
شباب نهاه الحلم أن يتبع الهوى
وعزم كفاه الحزم أن يتتبعا
«بابا عباس» البرنامج الشهير… والمقدم الشاب القدير
في الإذاعة اشتهر غزاوي بلقب «بابا عباس»، إثر تقديمه برنامج الأطفال الشهير، وبلَغَ صيته أن سائقي الحافلات بجدة، لا يُسَمونَ مقر الإذاعة بجدة باسمها، بل بـ«بابا عباس»، ويصيحون في الركاب قبيل بلوغها: من أراد النزول عند «بابا عباس»، فليستعد!
العجيب أن «بابا عباس» قدم هذا البرنامج نحو سبع سنوات، وبدأ تقديمه وهو في بداية العشرينات من عمره، واستطاع بذلك العمر أن يقدم خطابًا تربويًا مناسبًا للأطفال، مُشركًا الآباء والأمهات، في عمل إعلامي مميز، لا يكاد يوجد من عاصره صبيًا، دون أن يدمن على متابعته، وهو قال: كثيرًا، ما ظَنَّ من يسمعني في «بابا عباس» أن عمري يتجاوز الخمسين.
وحكى لي من عاصر تلك الفترة، أن مجموعات كانت تلتف حول المذياع حين بث برنامج «بابا عباس»، ولم تكن أجهزة الراديو منتشرة آنذاك، فيجتمع قوم في منزل، وفيهم أهل البيت ونفر من الجيران، ويجتمع آخرون في الحارة، منهم الكبير والصغير وعابر السبيل، وكلهم ينصت في صمت مطبق، من بداية البرنامج حتى نهايته.
ويعتز عباس غزاوي بما تركه برنامج «بابا عباس» من أثر في صغار ذلك الجيل، ويتحدث بفخر عن مئات قابلهم بعد البرنامج بعقود، قال له معظمهم كيف أسهم البرنامج في تميزهم دراسيًا، ومنهم من يحدثه كيف أنهم توجهوا لهذه المهنة أو تلك تأثرًا بما أذاعه «بابا عباس»، من توجيهات ورسائل، غُرست في قلوب خصبة، فنبتت، وأينعت، وآتت أكلها.
وقد سَارَ ذِكْري في البلادِ فمَن لهمْ بإِخفَاءِ شَمسٍ ضَوْؤُها مُتكامِل
وضمن فقرات البرنامج، فقرة «صندوق البخت»، وفيه تقرأ أسماء الشطار، وأسماء غير الشطار. وكان «بابا عباس» عندما يتلقى من الآباء رسائل تنقل تقصير أبنائهم، أو عدم اجتهادهم، يوجه نداء بالاسم لهذا الطفل أو ذاك، فيه عتاب رقيق، ويحثه باسمه على الاجتهاد، فإذا أرسل الوالدين لاحقًا، ما يفيد تطور ابنهم، وتحسنه، عاد «بابا عباس» ليثني عليه باسمه. وكانت هذه الفقرة، كما قال لي معاصرو البرنامج: من أكبر الدوافع لدينا، على الجد والاجتهاد، حتى لا يسمع أحدنا اسمه يومًا بين المقصرين.
ولم يكن البرنامج ذا اتجاه واحد فقط، بل كان كثيرًا ما يلتقي الأطفال، ويجري معهم حوارات، تتحدث عن أفكارهم، وتطلعاتهم، ورؤاهم، ويشركهم أحيانًا في أداء هذا النشيد، أو تلك الأغنية. ومن برنامج «بابا عباس»، الذي شارك فيه عام 1961، بدأت علاقة الطفل محمد عبده، بالغناء، ولما أصبح يافعًا تقدم لتجربة الأداء بالإذاعة، فأُقر صوتًا، لكنه مُنع لأن اسمه يطابق اسم شيخ الأزهر السابق محمد عبده، فخرج من اللجنة باكيًا، وفي الممر قابله، عباس غزاوي، فسأله عما يبكيه؟ فأجاب: يريدون أن يغيروا اسمي، كيف يمكن أن أُغير اسمي يا أستاذ؟ فما كان من غزاوي إلا أن وَقَّع على قبوله باسمه دون تغيير، ثم أرسله مع الشاعر الكبير طاهر زمخشري إلى لبنان، بضعة أشهر، ليتعلم من الأجواء الفنية المزدهرة هناك، وكانت تلك هي انطلاقة فنان العرب، محمد عبده، برعاية رجل يتقن منح الفرص وفتح الأبواب للمواهب، اسمه عباس فائق غزاوي.
ومع أن «بابا عباس» قضى في المجال الديبلوماسي، ضِعفَ ما قضى في العمل الإعلامي، إلا أنك بمجرد نُطق اسمه، تسمعُ صوته العذب في أُذنيكَ مُذيعًا، قبل أن تراه بعينيكَ رجلًا ذا هالة لا تُخطئها عين، سفيرًا وديبلوماسيًا، لا خلاف عليه.
يقول الدكتور هاشم عبده هاشم، الإعلامي المخضرم: «متابعتي للإذاعة وإعجابي الشديد بشخصية الأستاذ عباس غزاوي، يرحمه الله، كانت سببًا في إغرائي بدخول المجال الإعلامي، في جانبيه الإذاعي والتلفزيوني، وأكاد أجزم بأن صوت الراحل الكبير، الشجي، وطريقته في الدخول إلى عقول ومشاعر الناس، هي حالةٌ نادرةٌ، وغير متكررة».
أول تسجيل من على سطح الكعبة المشرفة من أوليات غزاوي
في كتاب: «التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم»، تأليف: محمد طاهر الكردي المكي، يتحدث عن البدء في تجديد السقف الأعلى للكعبة: ضحى يوم الجمعة، 18 رجب من عام 1377هـ، الموافق 7/2/1958م، إذ حضر إلى المسجد الحرام ولي العهد السعودي الأمير فيصل، يرافقه ولي عهد المغرب الأمير الحسن الثاني، وبعد أداء تحية المسجد، صعدا إلى سطح الكعبة المشرفة وأمسك الأمير فيصل، بيده مطرقة، فسمّى اللّه وأثنى عليه، وبدأ بهدم جزء قليل من إفريز سطح الكعبة المشرفة، إيذانًا ببدء الهدم والإصلاح، فتبعه كافة الحاضرين بالهدم وقلع رخام السطح، ثم نزل الأمراء والوجهاء عن السطح، وبقي الناس يرفعون أنقاض الهدم من حجارة ورخام ونورة وخلافها، إلى أن قرب وقت صلاة الجمعة، فنزل الجميع استعدادًا للصلاة، ثم عاودوا العمل من بعد صلاة العصر إلى قبيل المغرب، وهم في حالة التسبيح والتكبير والتهليل. وأضاف المؤلف: «حضر إلى سطح الكعبة المعظمة، مندوب دائرة الإذاعة العربية السعودية، تلميذنا الفاضل النجيب، الأستاذ عباس فائق الغزاوي، لتسجيل تسبيح الناس وتهليلهم حين العمل، وتسجيل مشاعرهم وفرحهم بعمارة بيت اللّه الحرام، التي لا تقع إلا نادرًا بعد مئات السنين، فسجل مندوب الإذاعة شيئًا من كلمات بعض الفضلاء من فوق سطح الكعبة المشرفة، وقد سجل المذكور لمؤلف هذا الكتاب محمد طاهر بن عبدالقادر الكردي، كلمته التي ارتجلها على السطح».
وهذه من خصائص عباس غزاوي، وأولياته وفرائده، التي قد لا تتأتى لأحد بعده، ولا أعطيت لأحد قبله.
غزاوي يقرأ الأخبار يوميًا على الملك سعود
كانت الإذاعة هي هواية عباس المفضلة، وعشقه الأول، وهو فيها من صُنَّاع مرحلتها الذهبية، أما دراسته فذلك جانب آخر من شخصية عباس غزاوي، إذ حصل على بكالوريوس الحقوق في جامعة القاهرة في عام 1378هـ، (1959م)، وخلال دراسته الجامعية، لم ينقطع عن الإذاعة، فكان يسجل البرامج من القاهرة للإذاعة السعودية، كما اقترب من أجواء الإذاعة المصرية، وهي من أعرق المدارس الإذاعية العربية، فاستفاد منها.
كما عاد غزاوي للسعودية أثناء الدراسة، بعد أن عُيِّن المذيع المرافق للملك سعود، لتغطية رحلاته الداخلية والخارجية، وخلال هذه الفترة، كلفه وزير الدولة الشيخ عبدالله بالخير، المسؤول عن الإعلام حينذاك، ببعض مهامه في الديوان الملكي، ومنها قراءة ملخص الأخبار على الملك يوميًا، ومتابعة ورصد الأخبار للديوان. وهو ما أطال سنوات دراسته الجامعية.
كان منطقيًا أن يصبح عباس غزاوي المدير العام للإذاعة وحدث ذلك عام 1376هـ، (1957م)، ثم أضيف إلى حزمة المسؤوليات، إدارة التلفزيون منذ بدأ ترتيبات انطلاقته، ومن أولياته أنه أول مدير للتلفزيون السعودي. ولكن في الإذاعة تجلت قدرات غزاوي الفذة في القيادة، والتي يشهد بها كل من عمل معه، فهو المحترف الحازم، البشوش، رقيق القلب، المحب للجميع. تطورت الإذاعة السعودية كثيرًا خلال فترة قيادته، حتى أنه استطاع خلق الهوية السعودية للإذاعة، والتي كانت متأثرة بالمدرسة المصرية ثم اللبنانية وخرج من تحت عباءته الكثير من المذيعين والإعلاميين مستغلًا في ذلك خبرته الواسعة وذوقه الرفيع.
عباس بالإضافة إلى تقديم برنامج الأطفال الشهير «بابا عباس»، قدم برنامج «دنيا» الذي يتناول المشكلات الاجتماعية عن طريق تمثيلها إذاعيًا، وبرنامج «في الطريق»، وبرنامج «ندوة المائدة المستديرة». وفي التلفزيون قدم «ندوة التلفزيون»، كما قدم برنامجًا اجتماعيًا بعنوان «وقفة تأمل».
وكان إلى جانب عمله في الإذاعة والتلفزيون، غزير الأدب، واسع الاطلاع، بليغ العبارة، رفيع المستوى، بديع الأسلوب، إذا واجه الميكروفون ملك بحديثه الأسماع والقلوب، وإذا كتبَ تدفقت الكلمات على أوراقه، فقد كتب القصة القصيرة، وأبدع فيها، وفقًا لشهادات النقاد، وسَطَّر المقالات، ونشر العديد من المواضيع السياسية والاجتماعية في الصحف.
تبنى طلال مداح وشجعه
ومن آثار عباس غزاوي الإيجابية إبان إدارة الإذاعة السعودية، تقديم قيثارة الشرق، الفنان طلال مداح، إذ آمن به غزاوي بعد أن استمع إليه وشجعه للقدوم إلى الإذاعة بجدة، وتسجيل أولى أغانيه: «وردك يا زارع الورد»، التي أعلنت ميلاد أحد عمالقة الأغنية الخليجية.
كما استطاع أبو عصام أن ينجح في استقطاب كبار الأدباء السعوديين وجذبهم للإذاعة للمشاركة في برامجها ضيوفًا، ومقدمين، وإثرائها رغم ضعف الحوافز المادية آنذاك.
وضمن ما سبق، دفع غزاوي الإذاعة لتُجري نقاشات فكرية وتثقيفية راقية، وتدير حواراتٍ، يظهر خلالها آراء متعددة في قضايا كثيرة، بأسلوب راقٍ. ويحضرني هنا ما قاله لي الفنان محمد عبده، متحدثًا عن صورة عباس غزاوي، بالنسبة لجيل محمد عبده: «كان الأستاذ عباس غزاوي، بالنسبة لنا كرائد فضاء، بحداثة ما يطرحه من أفكار وأساليب من جهة، وبما كان يقدم في الفضاء المفتوح من أفكار منفتحة، ومتفتحة على كل الجوانب المتطورة في هذه الحياة، وهو ما يجعلك تنظر إلى الجانب الجميل في هذه الدنيا. كان متقدمًا على عصره كثيرًا، رحمه الله».
الحجيلان وغزاوي… سياسات الوزير ومدرسة المدير
وعند الحديث عن الأبواب المشرعة، نؤكد على تشابك مسيرة عباس غزاوي، مع مسيرة جميل الحجيلان، أول وزير إعلام بالسعودية، الذي عُيِّن عام 1963، فطوال ثلاث سنوات، كان غزاوي المنفذ الرئيسي لسياسات وأفكار الحجيلان، المتسمة بالانفتاح، والجرأة، والمهنية، ضمن أهم حقبة إعلامية سعودية، اضطرت لمواجهة تيار مجتمعي معارض لهذه السياسة بشدة، دون أن تثنيها المعارضة عن تحقيق أهدافها.
سياسة الحجيلان ومدرسة غزاوي، لم تكن توجهًا شخصيًا للوزير أو المدير، بل كانت تنفيذًا لسياسة الدولة في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز، والتي أعلنها ولي العهد، ورئيس مجلس الوزراء الأمير فيصل بن عبدالعزيز، في البيان الوزاري، المتضمن برنامج الإصلاح الداخلي ذي النقاط العشر، ونص سابع نقطة: «السعي لإجراء تعديلات هامة في شكل الحياة الاجتماعية، وتوفير وسائل التسلية البريئة لجميع المواطنين».
مسرح الإذاعة مصنع النجوم
كان مسرح الإذاعة، ثم مسرح التلفزيون بعد ذلك، وأشرف عليهما غزاوي مباشرة، تنفيذًا لتوجيه الحجيلان، مصنعًا للنجوم، وحاضنة لتفريخ المبدعين، الذين أصبحوا لاحقًا عمالقة الفن السعودي ورموزه، مثل: محمد علي سندي، وعمر باعشن، وحسين عشي، وطارق عبدالحكيم، وعبدالله محمد، وطلال مداح، ومحمد عبده، وغازي علي، وأبو بكر سالم بلفقيه، وعمر كدرس، وسراج عمر، وحسن دردير، ولطفي زيني، وغيرهم.
ومن أبرز تشابك المسيرة بين الحجيلان وغزاوي، إشراك العنصر النسائي في البث لأول مرة عبر الإذاعة السعودية، وهو القرار الذي اتخذه الوزير الحجيلان بجرأة وشجاعة، فكان ضمن أول الأصوات التي ظهرت عبر الأثير صوت السيدة نجدية الحجيلان، زوجة مدير الإذاعة عباس غزاوي، وأخت وزير الإعلام جميل الحجيلان، ليقولا صراحة: نفتخر بأن تكون زوجة المدير وأخت الوزير ضمن أول الأصوات النسائية في الإذاعة، ونعتقد أن هذا عمل لائق، لذا نبدأ بأقرب النساء إلينا، أختًا، وزوجة. وبعد بضعة أيام من الظهور الإذاعي باسم نجدية الحجيلان، صارت تستخدم سلوى إبراهيم اسمًا لها، تجنبًا لاستفزاز أصوات المعترضين العالية، حينها.
السيدة الحجيلان، استمر ظهورها الإذاعي ثلاث سنوات، وهي قالت إنها خضعت للتدريب على الإلقاء، وضبط مخارج الحروف، ولفظ الكلمات على وجهها الصحيح، على يد زوجها عباس غزاوي، وإنها ما كانت لتقدم على تلك الخطوة، لولا تشجيع أخيها جميل الحجيلان.
هكذا كانت الشراكة المثالية بين الرائدين، قرارات استثنائية وجريئة من الوزير، وتنفيذ محترف ومسؤول من المدير، والمُنفذ الأمين.
يجدر بالذكر، أن فترة بداية مشاركة الأصوات النسائية بالإذاعة، شهدت ظهور الدكتورة فاتنة أمين شاكر، ونجوى مؤمنة، وشيرين حمزة شحاته، ونجاة حسن عواد، وأسماء زعزوع، اللواتي كن زوجات أو كريمات أبرز رموز الأدب والفكر والإعلام في ذلك الوقت.
والحق أن أثر الرعيل الأول، من الرواد، لا يمكن حصره أبدًا.
كما أُلفِتُ إلى خلافٍ في تحديد أول صوت نسائي ظهر إذاعيًا، بين نجدية الحجيلان، وفاتنة شاكر، وأسماء زعزوع.
غزاوي صانع أجيال الإعلاميين
هل تريد أن تعرف كيف كان دور عباس غزاوي مؤثرًا في خلق جيل من الإعلاميين؟ استمع إلى حديث الدكتور عبدالرحمن الشبيلي، عن طفولته الإعلامية في إذاعة جدة منتصف عام 1383هـ، (1963م) كان، كمن أُلقي في البحر ليتعلم السباحة، لم تكن له وسيلة منتظمة للتدريب، لكن بين تصميم الحجيلان، وحنو غزاوي، وحزم عبدالله راجح، ومرافقة منير شماء، ومحمد صبيحي، ومحمد الشعلان، وعبدالكريم نيازي، وتوجيهات عزيز ضياء، قد تعلمت الأبجديات.
ويضيف: «حينها لا أنسى كيف كان أبو عصام يتعامل معي تعامله مع زملائه مكتملي الخبرة والتجربة، وقد قدر لي رغبتي الانتقال إلى الرياض، قبل افتتاح إذاعتها لتمكيني من مواصلة دراسة موازية في جامعة الملك سعود».
والعجيب أن كل هذه الإنجازات التي حققها عباس غزاوي في المجال الإعلامي، حققها هذا الرجل وهو ابن أربعة وثلاثين عامًا فقط!
كان العمل الإعلامي، هو السحر الذي لم يستطع عباس، لكنه قرر أن يكتفي بما عاش فيه من تجربة فريدة، أسهم فيها بتأسيس أهم مراحل الإذاعة السعودية، وكان أحد أهم المشاركين في انطلاق التلفزيون، ليخدم وطنه في مجال آخر.
انتقل عباس غزاوي، من وزارة الإعلام إلى وزارة الخارجية، عام 1386هـ، (1966م)، واضطلع بدايةً بمهام إعلامية بالوزارة، حيث شغل منصب المدير العام للإعلام الخارجي في وزارة الخارجية.
تدرج غزاوي في المراتب الديبلوماسية، وبدأ مسيرة عمله الديبلوماسي في الخارج بمرتبة وزير مفوض، في العاصمة الإيطالية روما، ومع ذلك لم تنقطع علاقته بالإعلام خلال تلك الفترة كتابةً وإعدادًا.
انقلاب رئاسي بحضور غزاوي والإعلام يشيد بشجاعته!
وبقي غزاوي سفيرًا لدى تشاد أكثر من أربع سنوات، ليشهد تغيرًا في مزاج الرئيس التشادي، الذي وثَّقَ معه العلاقات، متحولًا إلى تبني الغرائب، ومنها اللجوء للخرافات، حتى ضاق الشعب بالرئيس. دعا الرئيس كبار رجال حكومته والسلك الديبلوماسي لحفلة كبيرة يقيمها بالقصر الرئاسي، وكان السفير السعودي على رأس المدعوين كالعادة، وطال انتظار الضيوف خروج الرئيس للقاء المدعوين، فأجلس الحضور إلى موائد الطعام، وجلس إلى جانب غزاوي، سفير الصين الشعبية، ولم تكن السعودية تقيم علاقات ديبلوماسية معها آنذاك، فتبادل السفيران الأحاديث الجانبية لتزجية الوقت، وفجأة وجد عباس على المائدة حبة طبية، فظن أنها سقطت سهوًا من السفير الصيني، فقدمها له، وابتلعها سفير الصين فورًا. بعد قليل وجد عباس حبة ثانية، فتكرر الظن في ذهنه وقدمها لسفير الصين، الذي لم يتوانَ في بلعها، والعجيب أن الأمر تكرر ثالثة، فتردد غزاوي في تقديمها لجاره، لكنه لم يجد خيارًا آخر، فكرر فعلته، وكرر الجار الابتلاع. بعد ذلك سأل الصيني غزاوي عن هذه الحبوب، وقبل أن يجيب السفير السعودي تعالت جَلبة في أنحاء القصر، وسمع الحضور طلقات رصاص، أفزعت المدعوين وأثارت هرجًا ومرجًا، ولجأ معظم الحاضرين إلى الهرب ركضًا إلى الخارج. لم يتحرك غزاوي، وكأن السكينة نزلت عليه. وبينما كان الجميع يسعى للتعرف على ما حدث خلف الجدران، اكتشف عباس أن الحبوب التي أعطاها السفير الصيني، كانت حبوبًا وزعت على المائدة ليتناولها الحضور، لتحصنهم ضد الملاريا، وفيما علم السفير السعودي أن انقلابًا وقع ضد الرئيس، قام به أحد الضباط، الذي تولى الرئاسة، بعد ذلك بوضع اليد، أخذه التفكير في ما يمكن أن تشكله الحبوب التي تبرع بإعطائها لسفير الصين الشعبية، من أزمة ديبلوماسية، تستند على تسميم السفير السعودي، نظيره الصيني، لولا ستر الله، الذي جعلها حبوب مكافحة الملاريا.
في اليوم التالي كانت الصحافة التشادية تتحدث عن شجاعة السفير السعودي الذي لم يهتز له جفن، ولم يتحرك من مقعده، رغم أزيز رصاص الانقلاب!
سفير مهمته التحضير لزيارة ملكية بعد شهر فقط!
ذات حديث بين عباس غزاوي وديبلوماسي سوداني أقدم منه تجربة، قال السوداني: إذا عُينت في تشاد، فقدم استقالتك، خير لك من الانتقال للعمل هناك! بعد هذا الحديث بشهور، أُبلغ غزاوي بتعيينه سفيرًا لبلاده لدى تشاد، في عام 1392هـ، (1972م)، وكان رحمه الله، لطيفًا، ذا نكتة تجري على لسانه دون تكلف، فقال للمسؤول الذي أبلغه الخبر: هذا يعني أن أستقيل؟! فأخبره المسؤول: إن الملك فيصل، اختارك بالاسم لهذه المهمة. واكتشف السفير أن ثمة مهمات أخرى عليه إنجازها، فهو يجب أن يوثق العلاقات مع تشاد، ورئيسها ومسؤوليها، وأن يُجَهّز مقر السفارة الذي لم يكن موجودًا، والمهمة الأعظم أن يجيد التحضير بسرعة وإتقان، لزيارة الملك فيصل، إلى تشاد، والتي ستتم خلال شهر واحد فقط من تكليفه سفيرًا. أما الإتقان، فيعني إقناع الحكومة التشادية، بقطع علاقاتها مع إسرائيل، لتكون زيارة الفيصل إلى تشاد، ناجحة، ومؤثرة. وصُدمَ غزاوي بالمستوى المعيشي المتردي الذي كانت عليه تشاد، وبعزلتها، فوسائل الاتصال مع العالم بدائية. ورغم الصعوبات، والعوائق، والعراقيل، التي واجهت غزاوي في أول مهمة له سفيرًا، إلا أنه لم يعتد غير تذليل المصاعب، واجتياز الحواجز، فنجح في ما أوكل إليه من مهام.
نموذج رائع في بِرِّه بأُمه
ضرب عباس غزاوي أروع الأمثلة في بره بوالدته، رحمهما الله، والتي توفيت قبله بسنوات، وهي كانت العنصر الثابت، في تنقلات السفير خلال مهماته الديبلوماسية الخارجية كلها.
واستقر في علم من عمل مع غزاوي، أنه لا يرد لأمه طلبًا مهما صعب. ومن ذلك طلبات الأم الطيبة من الابن البار، علاج عشرات الحالات في ألمانيا، وأكد لي أكثر من شخص أن ذلك عادة ما يكون على حساب الابن الشخصي، الذي عمل سفيرًا لبلاده لدى ألمانيا طوال ستة عشر عامًا.
وأعود لتشاد، في قصة بِر غزاوية جميلة، فقد أجرت الحكومة استعراضًا عسكريًا، حضره الرئيس الجديد، وكبار رجال الجيش والسياسة إضافة إلى السفراء الأجانب، وأخذ الحضور بالجلوس على مقاعدهم، في منصة العرض المكشوف، وكان عباس غزاوي، يحضر العرض رفقة والدته، التي لم تكن تفارقه، فيما كانت زوجته وأولاده يعيشون في المملكة، إذ لم يكن ثمة مدارس مناسبة لأبناء السفير في تشاد. وبينما أرتال المدرعات والناقلات العسكرية، تمر أمام منصة العرض، قفزت ثلة من الضباط من عربتهم متوجهين للمنصة، فأمطروها بوابل من الرصاص، بل وبعشرات القنابل اليدوية، التي دوّى انفجارها في المكان. كان انقلابًا عسكريًا جديدًا على الرئيس المنقلب. ولا تسل عن جري من لم يصب برصاصة أو قنبلة فرارًا، من موت شبه محقق. نظر عباس غزاوي يمينًا ويسارًا، فلم ير على مقعد جالساً، أمسك يد والدته، ولزما مقعديهما، حتى هدأ الهجوم، بعد انتصار الانقلابيين. ويبدو أن الإعلام في تشاد أصيب بملل من الانقلابات، فوجد الحديث عن بطولة السفير السعودي، وبسالته، وشجاعته، إذ لم تحركه قنابل، ولا أقامه من مقعده رصاص.
يقول غزاوي: «الحقيقة أن ما ذكر عني من شجاعة ليس صحيحًا بتاتًا، لكني لم أكن لأهرب، تاركًا السيدة الوالدة وحدها، وهي التي بلغت من الكبر ما يمنعها من الحركة السريعة».
ضمن مسيرة غزاوي الديبلوماسية، عمله بين عامي 1977 1984م، رئيس إدارة الشؤون الأفريقية والآسيوية والإدارة الإسلامية في وزارة الخارجية السعودية.
وفي عام 1984م، عُين سفيرًا للمملكة العربية السعودية لدى جمهورية تونس، لعامين ونصف العام. ثم عُيِّن سفيرًا للمملكة لدى ألمانيا. تقاعد غزاوي بعد ذلك وعاد إلى المملكة ليعمل شريكًا مؤسسًا بشركة المحاماة والاستشارات القانونية التي تحمل اسمه.
أما عن رحيل غزاوي عن عالمنا فقد كان رحيلًا يشبه مسيرة رجل من المؤسسين، وأصحاب الفضل، ومثل النجوم التي يسري بها الساري. كأنه أراد قبل الرحيل، وداع أصدقائه القدامى، عندما شعر باقتراب أجله، فبادر بدعوة زملاء الرعيل الأول المتقاعد، لعقد أول لقاء دوري يجمعهم، بعد أن أصبح اللقاء بينهم نادرًا.
كأنه يُؤكد لنا أهمية هذا الجيل، قبل أن يرحل، فأراد أن يهدي هذا الجيل تكريمًا يستحقه. حدث اللقاء بالفعل، في دار صديقه عبدالمقصود خوجة، الذي أصر أن يستضيف اللقاء في داره، على شرف اسم الرجل الكبير قدرًا ومكانة، عباس غزاوي، محققًا مقصده. وفارق الراحل الدنيا بعد اللقاء ببضعة شهور، وتحديدًا في أول شهر أغسطس عام 2005م، في مونت كارلو، وإلى جانبه زوجته ورفيقة دربه، نجدية الحجيلان، التي كانت صنو روح غزاوي، وموضع استشارته، رحمه الله.