فخرنا بإرثنا التاريخي
لعل من أجل النعم وأعظمها أن قيض الله لهذه البلاد الطاهرة شبه الجزيرة العربية والحرمين الشريفين حكامها آل سعود، وانتماءنا للدولة السعودية، وتأريخ يوم التأسيس لهذه الدولة العظيمة بحكامها وتضحياتهم وشعبها ووفائه، لهو أحد مفاخر هذا الوطن، فعهد الإمام محمد بن سعود كان عهد تأسيس للدولة وتهيئة للفترات اللاحقة.
ودلالات التأسيس تتضح: بعد كفاح الإمام محمد بن سعود الذي امتد أربعين عاما والذي أثمر في صور متعددة منها الاستقلال السياسي للدولة وعدم التبعية لأي قوة سياسية والتنظيم السياسي والاقتصادي واحتواء المناطق المجاورة والعناية بأفراد المجتمع وتوحيدهم، ثم يخلفه ابنه الإمام عبد العزيز والذى استمر في حكم إمارة الدرعية 39 عاما حتى عام 1218هـ/ 1803م قضاها في استكمال ما بدأه والده المؤسس وتقوية أواصر مجتمع الدرعية، مما ساهم في تدعيم عهد ابنه الإمام سعود، فالفترة التي قضاها محمد سعود 40 عاما أضف إليها الفترة التي حكم فيها ابنه عبد العزيز 39 فهذه 79 عاما من الجهود التي بذلت في سبيل بناء وتأسيس الدولة السعودية الأولى، فكان عهد سعود الذي حكم 11 سنة إلى عام 1229هـ/1814م ثمرة من ثمرات تأسيس محمد بن سعود، ثم يأتي بعده ابنه الإمام عبد الله الذي استمر 5 سنوات ثم افتدى شعبه بروحه وقدم نفسه فداء لهم حينما حاصرتهم جنود الدولة العثمانية في الدرعية عام 1233هـ/1818م.
كما أن سلسلة الحكم لدى الأسرة السعودية المالكة تمتد إلى ما يقارب الـ ٦٠٠ عام، وذلك حينما أسس مانع المريدي مدينة الدرعية وهو الجد الثالث عشر لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، حفظه الله، والتأسيس وتغير شكل الحكم من المدينة إلى الدولة الواسعة حدث في عهد الإمام محمد بن سعود، فعند دراسة ظاهرة مدينة الدرعية التي أسسها مانع المريدي في منتصف القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي)، وما نتج بعد ذلك، يتبن لنا من معطيات عدة:
أن قدوم مانع المريدي هو اللبنة الأولى لتأسيس أعظم دولة قامت في المنطقة في تاريخ الجزيرة العربية بعد دولة النبوة والخلافة الراشدة.
أنه أسس الدرعية لتكون المدينة الدولة القابلة للتوسع مع الأيام، ونستشف ذلك من مواقف أمراء الدرعية منذ الأمير مانع أن هناك دستوراً عائلياً للحكم ركّز على فكرة الدولة، وعلى العنصر العربي، وهذا ما جعل هذه المدينة لا تقوم على عصبية قبلية، وإنما على أساس دولة عربية.
والمتتبع لتاريخ الدولة السعودية في أطوارها الثلاثة يلاحظ الامتداد التاريخي لها وتقارب الفترات الزمنية بين الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة..
فالدولة السعودية الأولى بدأت عام ١١٣٩هـ/ 1727م واستمرت إلى ١٢٣٣هـ / 1818م.
الدولة السعودية الثانية بدأت عام 1240هـ/ 1824م واستمرت إلى 1309هـ / 1891م.
والدولة السعودية الثالثة قامت بفتح الرياض عام ١٣١٩هـ / ١٩٠٢ م.
وهذه دلالات واضحة على امتداد الإرث التاريخي للدولة السعودية، كما أن مبادئ هذه الدولة في أطوارها الثلاثة ثابتة لم تتغير من حيث أن دستورها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأسسها تقوم على الحكم الرشيد والإنجازات المستمرة التي تحققها لصالح الدولة والمواطنين.
وأود أن الفت الانتباه إلى أن الفترة التي أعقبت سقوط الدرعية وحتى بداية حكم الإمام تركي بن عبد الله سنة 1238هـ/1822م كانت تعتبر من الفترات التاريخية التي تميزت بالفتن والحروب الداخلية وسادها الارتباك السياسي والاقتصادي الذي اختل بتوازن قوى المنطقة، ومع أن الدولة السعودية الأولى انهارت من الوجهة والمفهوم السياسي إلا أنها تركت في نجد مقومات الدولة السعودية الثانية، إذ ظل المجتمع النجدي يكن الولاء للأسرة السعودية التي تبنت الدفاع عنهم في حملات الدولة العثمانية وضحى بنفسه من أجلهم إمامهم وقائدهم الإمام عبد الله، لذلك سارع أهل نجد والمناطق المحيطة بها في الالتفاف حول الإمام تركي بن عبدالله أملا في أن يحفظ لهم ما بقي من الأنفس والأموال، في الوقت الذي كان أفراد الأسرة السعودية مطاردون من الحاميات العثمانية في أي مكان للقبض عليهم وقتلهم أو تشريدهم، ففي هذه الظروف استطاع الإمام تركي أن يعيد ملك الأسرة السعودية ويعيد هذه البلاد إلى أهلها وينشر الأمن والاستقرار فيها، مما جعله المؤسس الحقيقي للدولة السعودية الثانية والتي قامت في عام 1240هـ/1824م واستمرت حتى عام 1309هـ/1891م.
وقد عاصر الملك عبد العزيز أول أيام عمره بعض الأحداث التي مرت بها الدولة السعودية الثانية، والتي أدت إلى نهايتها، وهذا يعطي دلالة على النشأة التي نشأها الملك عبد العزيز وما كان فيها من قساوة وعن تفهمه للأحداث منذ فترة مبكرة من عمره. لقد كانت نشأة الملك عبد العزيز عاملاً مساعداً له في تخطي الكثير من المصاعب التي واجهته في تأسيس المملكة العربية السعودية، ومما أثر في نشأة الملك عبد العزيز تأثيراً كبيراً مرافقته لوالده في ارتحاله بعد سقوط الدولة السعودية الثانية، ومن ثم استرد الرياض عام 1319هـ/ 1902م، وبدأ معارك توحيد شبه الجزيرة العربية العسكرية في المرحلة الأولى من حياة الملك عبد العزيز، ثم مرحلة البناء الحضاري للدولة السعودية الثالثة.
وعليه فإن تأريخ يوم التأسيس وجعله مناسبة وطنية أحد مفاخر هذا الوطن، ومما يجعلنا نستحضر العمق التاريخي والإرث الحضاري ومفهوم الدولة العميقة لهذه البلاد الغالية، من حيث ارتباطها بجذورها الراسخة وله انعكاس على الأجيال السعودية من حيث أن قوة الدول في إرثها التاريخي والحضاري والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، فهذه المقومات قد أسس لها أولا الإمام محمد بن سعود، ثم أكمل بعده أبناؤه وأحفاده مسيرته حتى حظيت الدولة السعودية بما نحن عليه الآن من الأمن والاستقرار والازدهار ورفاهية العيش، حفظ الله حكومتنا الرشيدة وهذه البلاد الغالية.
* أستاذ – التاريخ الحديث – جامعة الجوف