فهد الشقيران لـ«»: التغريب وهم نشره «الإخوان»
• يظل سؤال الإسلام دين ودولة، أم دين فقط، منطلق لإشكالات الإسلاميين عبر القرون، كيف تقرأ مثل هذا السؤال؟
•• هذا السؤال يعيدني إلى فيلسوف كبير هو محمد أركون الذي طالما شكا من ضبابية مفهوم العلمانية بالترجمة إلى العربية، موضحاً أننا إذا قلنا laïcité بالفرنسية فإن المعنى للمفهوم أكثر إشعاعاً وسطوعاً ودلالةً من ترجمته إلى العربية بـ«العلمانية»، وآية ذلك أن المفهوم علاوةً على الضلال الأيديولوجي في تفسيره وحمولة الشحن بوجه العلمانية باعتبارها تسحق الدين وحضوره بالمجال العام، فإن مناحي أخرى من الدلالات لا تتضح كفايةً بالشرح العربي. فالمفهوم لا يضع الدين مقابل الدنيوية، بل وظيفة المفهوم متعددة، ومجالات فعله أكبر من تفاسير الفصل بين الدين والدنيا، بل يحمل فضاءً من الترتيب للمجال العام لتحريره من القيود التاريخية وجعل الحياة أكثر تشبّعاً بحضور الإنسان وازدهار واقعه، ليست وظيفة العلمانية أن تتدخل بأي تفسير ديني، ولا أن تصحح أي مفهوم عقائدي، بل يعمل على ترتيب واقعٍ أقل كارثيةً، بدليل أنه انبجس بعد عهودٍ من الحروب والنزاعات الأهلية وقصص الدماء.
• ما مدى إمكانية تمدين الخطاب الإسلامي؟
•• في ظلّ مشاهد دموية عانى منها العالم بسبب أفكار ومعتقدات وموروثات تاريخية ضاربة، قررت رابطة العالم الإسلامي جمع نخبةٍ من المرجعيات الدينية والروحية والفكرية للاتفاق على أسسٍ مشتركةٍ تمهّد لانطلاق المسلمين وعلمائهم نحو رحلة أصعب تتمثل بالتطبيق، وتغيير المفاهيم، وبناء خطابٍ فقهي جديد يُعنى بالتغيرات النوعية لظروف العيش الإنساني المشترك.
قبل إطلاق وثيقة مكة تحدث الملك سلمان بن عبد العزيز بوضوح عن ضرورة لجم خطابات الكراهية والعنصرية، وأهمية إحياء القيم الإنسانية المشتركة، ونشر السلام والتعايش بين الأمم. لم تعد الساحة العالمية بمنأى عن المتطرفين من جميع الديانات، وحادثا نيوزيلندا وسيريلانكا مثالان فاقعان على الأزمة التي وصلت إليها البشرية، جرّاء التورط في خطابات العنف والنفي والاستئصال، ومبادرة ألف ومائتي شخصية للغذ من التجربة الإنسانية والخروج منها بقيمٍ ثابتةٍ تدوّن في بنودٍ تُعلن للعالم أراها شجاعة وفارقة في هذا التوقيت الحرج. ظننا لوهلةٍ أن الدروب وصلت إلى بابٍ مسدود، وأن الكارثة قد حلَّت، لكن «وثيقة مكة» فتحت كوةً في جدار الكراهية الصلد.
• ما سبب عسكرة الإسلام؟
•• هذا سؤال جوهري، برأيي أن مشكلة عسكرة الإسلام بسبب الاضطراب في استيعاب مفهوم الدولة جزء أساسي من بناء الإسلام السياسي (التوتر) في فهم معنى «الدولة»؛ وآية ذلك ما يجري في تونس. حاولت حركة النهضة قيادة الدولة لكنها فشلت، والسبب الرئيسي أن فهمها لمعنى الدولة منقوص، لم تحسم خياراتها بين الدولة والخلافة، بين الدولة والجماعة، وهذا أردى بها إلى غاية أوحال الفشل.
• ما منزع ودافع الإسلام السياسي عبر تاريخه؟
•• منزعهم حركي وديني وسياسي هذه هي الثيمات الثلاث. لقد كانت العقود الثلاثة الماضية عصيبة على السعوديين؛ الموجة الراديكالية التي عمّت العالم الإسلامي بعد الثورة الخمينية ألقت بظلالها الكئيب على تفاصيل الحياة، إذ بات الواقع ميداناً للانتقام المتبادل، امتلأت النفوس بالحسرات، والرغبة بالتوبة من المباحات، قُصفت البيوت ليلاً ونهاراً بالأشرطة والمطويّات، تخلص الناس حتى من صور ذكرياتهم، وإن سمع المرء مقطعاً من أغنية عابرة بالراديو فإن الوساوس كفيلة بهد كاهله. لقد كانت المباحات تنقض ظهر الإنسان، كل شيء حُرّم تقريباً، باستثناء ما يبيحه دعاة تسيّدوا المشهد، واختطفوا المجتمع، واكتسحوا المنابر واحتلوا الواقع بأكمله، وغدا الصالح من يزينونه هم، والطالح من يعادونه. لقد قُضي على الحياة تماماً، وقد كان لقلةٍ غرباء من المثقفين والكتّاب أدوارهم المتحدية لأولئك وذلك من خلال الكتب والروايات والصحف، قادوا مقاومةً نصرُها مستحيلٌ أمام جيوش الكراهية، حتى نالهم من التكفير والتضييق ما نالهم فما وهنوا وما استكانوا، حتى جاء الأثر السياسي التاريخي.
• من أين يستمد الإسلام السياسي قوّته؟
•• من الأيديولوجيا الكارثية والنفوذ بالمجتمع؛ وأبرز سلاح انتصرت به الصحوة كان التضييق على المباحات، مع أنه الأصل في الدنيويات، ولا يُحرّم شيء إلا بدليلٍ قاطع ناصع، ومعظم المحرمات التي يساط بها ظهر المجتمع هي من المباحات، والآية القرآنية صريحة: «قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق». إن الحرب على المباح كانت منظّمة عبر الكاسيتات والمطويات والخطب والمواعظ، وذلك من أجل استهداف المجتمع بضميره الواخز، حتى تعزز الوسواس، وباتت النجاة من عقاب الله لا يمكن أن تكون إلا عبر ذلك الداعية، والانصياع لتعاليم «الشيخ». الآن نعيش حالة مختلفة، تعود الأمور إلى نصابها، وكل القرارات التي اتخذتها السعودية هي من قبيل إتاحة المباح وتنظيمه، وهذه بداية الطريق للخروج من السياجات الصحوية الكارثية التي حبست أنفاس المجتمع.
• هل من تقاطع بين الإسلام السياسي وجماعات العنف؟
•• بالتأكيد قالها الأمير محمد بن سلمان حفظه الله كل رموز العنف جاؤوا من تيارات الإسلام السياسي. من يعرف أدبيات «القاعدة» و«حزب الله» وحركة حماس مثلاً، يجد صيغ التجنيد مختلفة؛ فالإرهابي يكون قد مر بمراحل تأسيسية كبرى منذ الصغر، وذلك ضمن برامج وورشات وأدبيات ومحفوظات، ضمن إشراف الزعيم الذي يوزع المسؤوليات ويعيّن الكوادر، ولكن في الحالتين المعاصرتين؛ (داعش السنّي)، و(داعش الشيعي)، تنعدم الإدارة المركزية في تسيير العمليات، فهو ضرب منفلت بكل اتجاه… ينعدم الحد الأدنى من قواعد الاشتباك، ولا تعثر بوصفك باحثاً على أدبيات وأبحاث وكتب وسجالات كما كانت الحال لدى تنظيم القاعدة أو «أحزاب الله» الشيعية بلبنان وغيرها من الدول، وهذا مؤشر على أن الخلية الإرهابية بشكلها الحالي طغى فيها العملي على النظري، فجذبت عصابات الإجرام أضعاف ما جذبت من شبيبة أحلام الخلاص، وأناشيد الحق، وشعارات الطغيان… هذا ما تخبرنا به نتائج الحرب على الإرهابيين المخربين في العوامية.
• من المسؤول عن نشوء وتضخم التنظيمات الحزبية الحركية؛ المجتمع؛ أم السلطة؛ أم طرف ثالث؟
•• إن الاعتماد على عاملٍ واحدٍ لمسببات انضمام الأصوليين للجماعات المقاتلة وممارستهم للعنف يحتاج إلى مسح وجرد للشخصيات والقادة، غير أن مثل هذا المسح لاستجلاء جامعٍ معرفي أساسي غالب عليهم لم يتم، وآية ذلك أن المجتمع المتطرف متنوع بمرجعيات المنتمين إليه، فالقيادي الأمريكي اليمني بـ«القاعدة» أنور العولقي يختلف في تكوينه الأيديولوجي عن زميله إبراهيم الربيش، ومثل ذلك اختلاف مرجعية يوسف العييري عن عبدالعزيز المقرن، من أولئك من تكوّن في بيئة الصحوة الإسلامية (السرورية) ومنهم من جاء من الخلايا الإخوانية، والبعض من السلفية المحضة، وعليه فإن البحث عن عاملٍ يشمل الغالبية بالطريقة التي بني عليها تحليل «علموية الإرهابيين» واختصاصاتهم بالعلوم الطبيعية يحتاج إلى مناقشة ومحاججة مستفيضتين، مع أن ولي نصر لم يزعم أن هذا التحليل من خواطره هو، بل مؤكد أنه قرأ مثله في الدراسات التي ينكبّ عليها حول الشرق الأوسط بحكم عمله وتعليمه لهذا المجال في عدد من المراكز والجامعات.
• كيف يمكن تحصين المجتمعات العربية من خطابات الإسلام السياسي؟
•• هناك تشابك بين هذه الجهات؛ وثمة تجاهل؛ وأذكر بتصريح الأمير الشجاع محمد بن سلمان الذي وعد بتدمير الصحوة. رزح المجتمع طوال ثلاثة عقود تحت سلطة الصحوة القاهرة، فقد كانت وكأنها دولة موازية للأسف، إذ إن لها نفوذها في مؤسسات التعليم والدعوة والإعلام، تحوّل المجتمع إلى ثكنة دعوية ضخمة، كل شيء صار مهيمناً عليه من قبل الصحوة، وقسم المجتمع إلى قسمين، من ينتمي إليهم عملاً وشكلاً وأسلوباً، والقسم الآخر هم المنبوذون من حليقي اللحى، وسامعي الأغاني، ومسبلي الثياب، والذين يعتبرونهم مجرد زوائد تمشي على الأرض، وأن بينهم وبين النار شهقة الموت، وهم في الآخر حطب جهنم.
• ما نسبة احتمال عودة الإرهاب في عالمنا العربي والإسلامي؟
•• تروّج عبر الميديا، وبعض الاستشارات، وجل الأطروحات الفكرية أكذوبة نهاية «الإخوان». والواقع أن هذه الفكرة خطيرة، فـ«الإخوان» وأذرعتهم من الصحويين يعيشون في حالة من الكمون ولذلك على الدول والمؤسسات الانتباه من هذا الكمون الغامض. الإرهاب لم ينتهِ، وحذاري أن تطمئن الحكومات والمؤسسات الأمنية، والصروح الفكرية لهذا الوهم. إن خروج «داعش» من أراضٍ معينة لا يعني أبداً نهاية التنظيم، ويا له من وهمٍ خطير إنْ انطلى على أحد.
• هل أسهم الفكر الإسلامي في تأصيل خطاب الإسلام السياسي؟
•• ثمة منظومة فكرية شاملة ساهمت في بروز مثل هذا العنف طوال القرون الماضية. إن جميع المتطرفين في العالم يعادون الدولة ويعارضون «العقد الاجتماعي» ويطمسون الفرد.. هذا هو هيكل التنظيم الأساسي. ويمكن التذكير مجدداً بكتابٍ رائع لبول دوموشيل بعنوان «التضحية غير المجدية.. بحث في العنف السياسي»، وفيه يشرح نظرية توماس هوبز للدولة وعلاقات الدولة والعنف والجماعة المارقة. تفضل الجماعات المارقة العيش في ما يعرف بـ«حالة الطبيعة» التي تسبق الدولة، وشعارها «حرب الجميع ضد الجميع» من دون عقد اجتماعي، أو قانون نافذ، أو مؤسسة فاعلة، وضع أشبه ما يكون بالغابة، به تتجلى حالة «السبع» أو «الذئبية»، إنها حرب أبدية من دون مبرر، بينما مفهوم الدولة يحقق العقد الاجتماعي الضابط لعلاقات الأفراد بالمجتمعات وبالدولة، ومهمة الدولة نزع السلاح من أجل أن تحتكر وحدها استخدام العنف، وذلك ضمن القانون ومهام كل مؤسسة لإنفاذ العدالة المنصفة.
• لماذا اختفى سياق التمدن والتقدم من المنظومة الفقهية؟
•• ثمة مسافة بين الفقه بتاريخه وحدثيته الظرفية، وبين انتقالاته عبر تعدد جغرافية المكان، وسيرورة الزمان. فمحتوى الفقه مجموع عمليات معالجة لحكم ديني على موضوع دنيوي بمجال عام. ولو عدنا لتاريخ الفقهاء الشخصي وتجاربهم الدنيوية لعثرنا على الأثر التجريبي في الصياغة الفقهية، ولو قرأنا ظروفهم الاجتماعية والسياسية لعلمنا عن كثب مسببات تشكل المذهب على هذا الشكل أو ذاك. ومن الواضح أن العزوف عن البحث التاريخي للنشأة الفقهية هو ما أسس للخلط بين الفقه والنص الديني، وهذا ما سبب الاشتغال على علل التشريع والحفر وراء القصد الشرعي وعلاقته بالمجتمع كما فعل الجويني والأبهري والآمدي والقرافي والشاطبي وآخرون، ملاحقين ومتقصين جذر العلاقة بين الفقه وسجالاته مع الواقع وظروفه وتحولاته.
إن مجتمعنا الآن يمر بتحولاتٍ كبرى تعتمد على اللحاق بركب العالم، وهذا يتطلب تشغيل كل صيغ التجديد بكل المجالات ومنها المجال الشرعي، وخصوصاً المنهاج الذي يتأسس عليه الاستنباط الفقهي، فالمسألة الفقهية استجابة لحدث بادٍ في الدنيا، ولهذا يشبّه السيوطي قول الفقيه برأي الطبيب، إذ إن مناطها مقتضى الحال، والإمام القرافي يربط الفقه بتجدد قضايا الناس ومشكلاتهم في شؤون دنياهم.
• متى يمكن للمسلم تجاوز القلق على هويته؟
•• التحدي الذي يواجه أي دولة يكمن في «صناعة الهوية»، ذلك أن هذا التأسيس كفيل بتحديد أمرين اثنين أولهما: إيجاد آصرة موحدة يلتقي بها المجتمع ضمن تعدديته القبلية والطائفية والدينية. والثاني: إيمان المجتمع بضرورة التآزر مع بنية الدولة من أجل الاستقرار.
• ما مدى تأثر الظاهرة الإسلاموية بالتغريب، والنشوء في ظل الاستعمار الغربي ؟
•• التغريب وهم نشره الإخوان؛ لأضرب لك مثالاً، بعد إعلان مشروع الترفيه نشطت خلايا مدمرة، مدعومة من قوى إقليمية شريرة، ومن القتلة والمأجورين والسفاحين من أنظمة وأذرع إرهابية هدفها تشويه السعودية ومرحلتها التنموية الحالية، دفعت بآلاف الرسائل على الأجهزة الكفية، ظاهرها فيها الخوف على الدين، وذرف الدموع، وادعاء حراسة الفضيلة والحق، وباطنها الإخلال بالأمن القومي السعودي، ومحاولةالإساءة إلى المملكة العربية السعودية وقيادتها، وكل هذه يجب أن يواجه بوسيلتين؛ الأولى، وعي المجتمع بالخطر هذا، ولست أدري أين هي المؤسسات الحوارية والثقافية عن نشر مثل هذا الوعي بالمعركة التي نخوضها ضد العدو القريب والآخر البعيد؟! والثاني: من خلال التأكيد الدائم على أن الشريعة محفوظة مرعية، وليس صحيحاً أن هناك مخططات تغريبية، بل الهدف «أن نعود إلى ما كنا عليه» كما يؤكد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حيث نعود إلى البراءة الأصلية، ومناطق المباح الأساسية في الشريعة بدلاً من ثقافات الموت.
• ما بديل خطاب الصحوة في المملكة؟
•• خطاب الصحوة طارئ وعارض وعابر؛ البديل في مقولة واحدة لولي العهد الأمير محمد بن سلمان وهي عبارة بليغة ومختصرة وفعالة: «نعودإلى ما كنا عليه»، الحفاظ على المفيد من الموروث والانفتاح على الثقافات الحديثة المتجددة وهذا منصوص عليه في بنود الرؤية.
• هل شقيت المملكة بحُسن ظنها في الإسلاميين؟
•• كانت هناك عوامل سياسية محددة لها ظروفها وسياقها؛ والعبرة بتمام النهايات لا بنقص البدايات؛ وآية ذلك ما نشهده من جدية وصرامةضد العنف والمحرضين عليه.