هل جنت «الزُهرة» و«الزرافة» على ابن رُشد ؟
ويرى أستاذ الفلسفة، بو شعيب بن إيجا، أن الفكر الفلسفي كان نعمة على ابن رشد، زمن الخليفة أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وحينما تولى ابنه أبو يعقوب المنصور الموحدي غدا نقمة على ابن رشد؛ إذ قرر الموحدي إلحاق الأذى بابن رشد وجماعة من العلماء، فأصدر منشوراً يتهمهم فيه بتهمة الانحراف عن الدين، يقول المنصور: «ومن عثر له كتاب من كتب ابن رشد وباقي العلماء؛ فجزاؤه النار التي يعذب بها أربابه».
ويرى ابن إيجا، أن ابن رشد عند العامة كافر بالله؛ لأنه نقل عن اليونان؛ أن كوكب الزهرة أحد الآلهة، وهذا عند العامة دليل على الزندقة والمروق من الدين، وعزوه إلى اشتغاله بالفلسفة، ما يوجب منع وتحريم الاشتغال بها، ويذكر (ابن رشد) أيام محنته قبل صدور الحكم، أن أعظم ما طرأ عليه في النكبة «أنه دخل، وولده عبدالله مسجداً بقرطبة، وقد حانت صلاة العصر فثار عليه سفلة العامة (كما وصفهم) فأخرجوه منه».
إلا أن محنة ابن رشد لم تدم طويلاً كما يقول صاحب المعجب إذ سرعان ما رغب أبويوسف المنصور في تعلم الفلسفة، وأرسل في طلب ابن رشد للإحسان إليه والعفو عنه، فحضر ابن رشد إلى مراكش فمرض بها مرضه الذي مات منه؛ آخر سنة 594 للهجرة، وكان ناهز الثمانين.
ويتساءل ابن إيجا، السؤال الذي يتبادر إلى ذهن القارئ للتراث الرشدي: هل هناك في كتب ابن رشد ما أجج نار الحكام ونقمتهم عليه؛ لما فيه من أفكار مناهضة للفساد والاستبداد؟
ويجيب: بأن المفكر محمد عابد الجابري يروي رواية مخالفة لما قال به صاحب المعجب عبد الواحد المراكشي؛ مفادها أن سبب نكبة ابن رشد هو سبب سياسي يتمثل من جهة في نشر ابن رشد «جوامع سياسة أفلاطون»، ومن جهة ثانية هو قيام ابن رشد لعلاقة بينه وبين أخ الخليفة أبي يحيى والي قرطبة، وعدّ كتاب جوامع سياسة أفلاطون أغنى كتاب من الناحية السياسية، خصوصاً لأنه تناول السياسة بشكل علمي مجرد من الأقاويل الجدلية.
وذهب ابن إيجا إلى أن من الأسباب التي جعلت رجال الدين يهاجمون فلسفة ابن رشد، خصوصاً والفلسفة على وجه العموم؛ هو أن هذه الفلسفة تجعل للعالم نواميس طبيعية، وأن ابن رشد يرى حاجة الإنسان إلى الاجتماع البشري ما يفرض نشأة المدينة؛ أي استحالة عيش الفرد لوحده، فلا بدَّ من تقسيم العمل بين الأفراد، ومن هنا كان وضع مبدأ التماثل بين قوى النفس، وفئات الدولة الثلاث، وميز في كتابه الضروري في السياسة، بين أنواع السياسة؛ الفاضلة، والكرامة، وسياسة الرجال القلة، والسياسة الجماعية، وسياسة وحدانية التسلط، وبين بأن هناك نوعين من السياسة الفاضلة؛ وهما: رئاسة الملك الفيلسوف، ورئاسة الأخيار، ويورد ثلاثة أشكال أخرى من السياسة؛ وهي سياسة الملك الحق، وسياسة ملك السنة، والسياسة المشتركة بين الفقيه والمجاهد.
ويؤكد محمد بن شريفة، أن المنافسات والخصومات بين الأعلام في ذلك العصر كانت من أسباب محنة ابن رشد، إضافة إلى أن كتاباته جرت عليه خصوماً وعداءات من جهات عدة، ومن يطالع كتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) والضرورة في أصول الفقه، ليقف على النقد الذي يوجهه ابن رشد لفقهاء عصره مباشرة، في حين يرى المفكر عبدالرحمن بدوي، أن الحملة على ابن رشد من جانب الفقهاء كانت بسبب اشتغاله بالفلسفة والفلك وبمؤلفات أرسطو، ويعتقد بدوي أن السبب السياسي هو الأصل في النكبة، إذ كان النزاع مشتعلاً بين المنصور الموحدي وبين النصارى الإسبان؛ ما اضطر المنصور للتقرب من العامة والفقهاء، على حساب المشتغلين بالفلسفة؛ كون الحكام في مثل هذه الظروف السياسية، يحتاج الشعب حوله للدفاع عن البلاد.
ويلفت ابن إيجا إلى أن الروايات والمواقف اختلفت حول أسباب النكبة الرشدية، إذ اكتنفتها عوامل عدة منها: العامل الديني والعامل الشخصي والعامل السياسي الذي يبقى هو المرجح وصاحب الأسبقية على جميع العوامل، وإن لم تدم إلا حوالى ثلاثة أعوام.