أزمنة موازية
لا تجدي المقاربة بين موت وموت، فقد قارب صحافيّ إسرائيليّ بين قتل عبد القادر الحسيني في القسطل “صدفة” وبين قتل يحيى السنوار “عرضة”. ولا تجدي مقاربة بمحاصرة وقتل عزّ الدين القسّام قرب جنين بقتل يحيى السنوار بتل السلطان. فبعد قتل القسّام حصلت الثورة، وقد هزم الاستعمار البريطانيّ الثورة بالعنف الشديد والعقاب الجماعيّ، هزمت الثورة فتلتها النكبة، وقتل عبد القادر الحسيني فسقطت القدس. لا تجدي الأسطرة، فالأساطير هي أساطير، والتاريخ هو التاريخ. الأسطرة مواساة للذات، المقهورة المنكسرة.
قضى “أبو إبراهيم” موتًا كان يشتهيه، ملثّمًا مشتبكًا نازفًا، وقضى عمره في الأسر؛ ومن ثمّ في التواري، يقال إنّه لم يخرج من قطاع غزّة إلّا مرّة واحدة، زيارة للقاهرة، أمّا “خروجه” الآخر من القطاع، فكان إلى سجون إسرائيل، فيما مات حسن نصر اللّه قبل أن يحقّق حلمه. فقد حلم كما روى بأنّه يدخل القدس، وإلى جانبه عماد مغنّية. لم يقل إنّه دخلها في حلمه، بل كان على مشارفها. وستجد في يوتيوب مواعظ دينيّة له عن رذالة الحياة الدنيا، وأنّها عابرة، فهي دنيا.
كانا يعيشان في زمانين موازيين، استعارة من وليد دقّة، زمان دنيويّ وزمان سمويّ، ويعتقدان أنّهما الأخبر بخصائص إسرائيل ومواجهتها، بناء على تجربة عقود، لكنّ إسرائيل ليست خيبر، وقيامها ونصرها وهزيمتها ليست وعدًا إلهيًّا، والغرب ليسوا الروم، ونحن لسنا العماليق.
إنّ “صاحب الزمان” عند إيران هو المهدي المغيب، ونائبه في الدنيا هو الوليّ الفقيه، وكلّ هذا الموت هو تفصيل في التمهيد لعودة المهديّ. عقيدة وأيديولوجيا تحكم دولة. وبالنسبة لنتنياهو فهو “صاحب الزمان”، فهو يرى أنّه يحمل رسالة تاريخيّة للشعب اليهوديّ في كلّ مكان وزمان، بإنقاذه من الإبادة.
كأنّنا نعيش في أزمنة موازية، زمان إيرانيّ وإسلاميّ وزمان إسرائيليّ، الأوّل سرديّات خلاصيّة تحوّلت لمشروع إقليميّ يريد العودة إلى “الزمن الأوّل”، زمن الصحابة، والثاني سرديّات تاريخيّة تحوّلت إلى مشروع قوميّ غربيّ حديث فتّاك.
سارع مفكّرون عرب إلى تفسير هزيمة العرب في حرب حزيران 1967 بعوامل ثقافيّة و”ذهنيّة” و”عقليّة” عربيّة تحريميّة ومتخلّفة، مرجّعة الهزيمة إلى علّة ذاتيّة متجاهلة السياق الاستعماريّ الغربيّ للمنطقة وطبيعة الأنظمة الحاكمة وخلفيّاتها. ويمكن إحالة سؤال الهزيمة في 1967 إلى سؤال الديمقراطيّة وشرعيّة الأنظمة، والسياق الاستعماريّ الغربيّ للمنطقة وطبيعة المشاريع المقاومة والمناهضة له، وهو الّذي قام داخليًّا على التقدّم العلميّ والتكنولوجيّ والاقتصاد الحرّ إلى جانب الديمقراطيّة الليبراليّة.
وقد دخل العرب القرن الحاليّ، الحادي والعشرين، بخسارة الرهان على السلام أو التسوية مع إسرائيل، وبخلافات بينيّة، وبنى اقتصاديّة واجتماعيّة متخلّفة، وباحتلال أميركيّ لعاصمة عربيّة هي بغداد، فتح المجال أمام إيران الخمينيّة للتدخّل بالفضاء العربيّ. فيما دخلت إسرائيل القرن الحاليّ بانسحابها من جنوبيّ لبنان وكذلك من “عمليّة السلام” مع الفلسطينيّين، لكنّها استغلّت “سنوات السلام” للانفتاح عليها شرقًا وغربًا، لتصبح قوّة تكنولوجيّة واقتصاديّة جدّيّة، وعبرت ديمقراطيّتها امتحانات جدّيّة بعد اغتيال إسحاق رابين والشرخ الحقيقيّ بشأن التسوية مع الفلسطينيّين.
دخل العرب الزمن الجديد، المعولم، على وقع زحف الدبّابات الأميركيّة لبغداد، وبأنظمة أسريّة، سواء كانت أسريّة ملكيّة أو أسريّة جمهوريّة، فيما دخلت إسرائيل هذا الزمن بالانفتاح الاقتصاديّ وانتهاء حكم الحزب الواحد (مباي)، وصعود قوى سياسيّة متعدّدة.
وفيما أنتج النظام العربيّ مشاريع سياسيّة دينيّة متطرّفة بسبب، وفي مواجهة الاستبداد والاستعمار الجديد، أنتجت إسرائيل أجيالًا من الكفاءات التكنولوجيّة في مناخ من الانفتاح الاقتصاديّ، لكنّها أنتجت أيضًا أجيالًا من المتطرّفين في مناخ ديمقراطيّ إلزاميّ للتقدّم الاقتصاديّ والتكنولوجيّ. وسيتحوّل هذا إلى الصراع بين أجيال التكنولوجيا والاقتصاد الحرّ وبين أجيال التطرّف القوميّ الدينيّ، وضع الديمقراطيّة الإسرائيليّة في امتحان جدّيّ كما عبّرت عنه خطّة “الإصلاحات القضائيّة” أو “الانقلاب الدستوريّ”، لكنّ السابع من أكتوبر ساعد إسرائيل على تجاوز هذا الصراع أو الامتحان باستعادة الجيش لمكانته في الوعي والهويّة الإسرائيليّة، و”بوتقة صهر” للخلافات العموديّة في المجتمع الإسرائيليّ في هذه المرحلة.
في الأثناء، استسلم العرب لإسرائيل حتّى، دون أن يقاتلوا، وقد أخذ هذا الاستسلام شكل اتّفاقيّات تطبيع حتّى التحالف ليشكّل محورًا بقيادة إسرائيل. وبدا أنّ إيران صارت الجهة الوحيدة المقاومة للمشروع الإسرائيليّ في المنطقة من خلال التنظيمات المسلّحة، في لبنان وسوريّة العراق، ولكن في الحقيقة كان ذلك ضمن “تصدير الثورة”، وسعي إيران إلى فرض مكانة لها في المنطقة، وكانت المجتمعات العربيّة أولى ضحاياها من خلال استغلال التنوّع الطائفيّ والمذهبيّ.
وفيما ذهبت إسرائيل إلى تطوير مشروعها الاستيطانيّ والاستعماريّ على ركيزتي التقدّم التكنولوجيّ والانفتاح الاقتصاديّ إلى جانب الديمقراطيّة وما ينعكس ذلك على تطوير قدراتها العسكريّة واستعداد جيشها لـ”الجيل السادس” من الحرب الذكيّة، ذهبت إيران إلى تطوير مشروعها الإقليميّ على ركيزتي المذهبيّة وشقّ المجتمعات العربيّة للتمدّد فيها والوصول إلى البحر المتوسّط، والتورّط في مشروع نوويّ دمّر اقتصادها نتيجة العقوبات الدوليّة الغربيّة، بحيث لم تستطع تجاوز اعتبارها دولة منبوذة من الغرب.
أيّ مشاريع أو خطابات سياسيّة انتشرت في المنطقة العربيّة في هذا الواقع؛ خطابات سياسيّة دينيّة، سنّيّة أو شيعيّة. الأوّل، السنّيّ، فوت فرصة تاريخيّة في الربيع العربيّ بفشل الإخوان المسلمين إتقان اللعبة الديمقراطيّة والتعدّديّة في مصر، تلتها هيمنة حركات جهاديّة متطرّفة على الحراكات الشعبيّة ووأدها؛ والثاني، الشيعيّ، يواجه اليوم حرب وجود مع إسرائيل.
وبات الصراع اليوم بين قوّة استعماريّة تمثّلها إسرائيل تخوض حرب “جيل سادس” تعتمد على التقدّم التكنولوجيّ والذكاء الاصطناعيّ والتفنّن بأساليب القتل، في مناخ من الديمقراطيّة والاقتصاد الحرّ، في مواجهة قوّة إقليميّة تخوض الحرب من أجل عودة المهدي “صاحب الزمان” في مناخ من الحصار الاقتصاديّ والمحافظة السياسيّة الداخليّة.
ليس الصراع بين التأخّر والتقدّم، بين القديم والحديث، أو بين التكنولوجيا والأيديولوجيا، فقد حوّلت إسرائيل التكنولوجيا إلى رذيلة باستخدامها للقتل “النوعيّ” و”الذكيّ”، و”ابتكار” أنواع جديدة منه، بتفجير أجهزة اتّصال بآلاف الأشخاص. هذا شبيه إلى حدّ كبير بما حذّر منه مفكّرو أوروبا بعد النازيّة وقبلها، “العقلانيّة الأداتيّة” في زمن الحداثة.
إلّا أنّنا نعيش في مواجهة بين زمانين موازيين.
المصدر: عرب 48