أفعال إسرائيل في شماليّ قطاع غزّة تهزّ أركان النظام العالميّ
تحدَّت حرب إسرائيل ضد قطاع غزة، والآن لبنان، مرارًا وتكرارًا أسس النظام الدولي الليبرالي المبني على القواعد والذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، فضلًا عن مبادئ القانون الدولي والدبلوماسية متعددة الأطراف والديمقراطية والإنسانية…
مشاهد الدمار في جباليا جراء القصف الإسرائيلي المتواصل (Getty)
في حين كان من الممكن أن يوفّر مقتل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيى السنوار مخرجًا للصراع في غزة، فإن تعهدات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المستمرة بتحقيق «النصر المُطلق» تجعل هذا يبدو غير مرجحٍ، ويثير مفهوم «النصر المُطلق» إشكالية بالغة. ففي كل مرة تعلن إسرائيل عن منطقة ما أنها خالية من حماس ثم تنسحب منها، تعود حماس، التي نفذت الهجوم المروع على جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بسرعة لإعادة فرض السيطرة.
ونتيجة لذلك، شهدنا تصعيدًا إسرائيليًا ملحوظًا في شمال مدينة غزة في الأيام الأخيرة، ودارت مناقشات كثيرة حول ما يسمى بـ «خطة الجنرالات» التي يدفع بها بعض أعضاء اليمين في حكومة نتنياهو. تهدف الخطة التي أعدها الجنرال الإسرائيلي السابق جيورا إيلاند، في جوهرها إلى التخلي عن المفاوضات، وتقسيم القطاع إلى نصفين، وإعطاء سكان شمال غزة البالغ عددهم 400 ألف نسمة الاختيار القاتم بين المغادرة والموت.
ونحن لا نعلم ما إذا كان نتنياهو سيصادق رسميًا على الخطة[1]. وذكرت التقارير أن القادة الإسرائيليين أبلغوا وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن هذا الأسبوع أنهم لن ينفذوا الخطة. ومع ذلك، فإنها تحظى بدعم واسع النطاق بين النخبة السياسية والعسكرية في إسرائيل. وقد أصدر الجيش الإسرائيلي بالفعل أوامر بالطرد لأهالي شمال قطاع غزة. وقالت الحكومة إن أي شخص يبقى في المنطقة سوف يعتبر هدفًا عسكريًا وسيحرم من الغذاء والماء.
وفي حين تنفي إسرائيل عرقلة المساعدات الإنسانية، قال برنامج الغذاء العالمي إنه تُدخل أية مساعدات غذائية إلى شمال غزة لمدة أسبوعين في أوائل أكتوبر/تشرين الأول. وعلى الرغم من دخول بعض المساعدات منذ ذلك الحين، ما يزال الآلاف معرضين لخطر المجاعة وتفشي الأمراض التي يمكن الوقاية منها. علاوة على ذلك، فإن العديد من الفلسطينيين، بمن فيهم المرضى وكبار السن والجرحى، غير قادرين على التحرك، وليس لديهم مكان يذهبون إليه، إذ إن احتمالات وجود مدن خيام مكتظة وغير محمية في الجنوب ليست مغرية على الإطلاق للتحرك تجاهها.
وتقول جماعات حقوق الإنسان الإسرائيلية إن الجيش كان يمنع المساعدات عمدًا حتى لا يترك للسكان أي خيار سوى مغادرة شمال غزة. وربما تتراجع إسرائيل الآن تحت ضغط من الولايات المتحدة، التي أعطت حكومة نتنياهو مهلة مدتها 30 يومًا لزيادة كمية المساعدات التي تسمح بدخولها إلى غزة أو المخاطرة بفقدان تمويل الأسلحة الأميركي[2].
تقويض القواعد والأعراف الدولية
لقد تحدَّت حرب إسرائيل ضد قطاع غزة، والآن لبنان، مرارًا وتكرارًا أسس النظام الدولي الليبرالي المبني على القواعد والذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، فضلًا عن مبادئ القانون الدولي والدبلوماسية متعددة الأطراف والديمقراطية والإنسانية.
وتتجلى معايير النظام العالمي الليبرالي في مؤسسات مختلفة، مثل:
- ميثاق الأمم المتحدة
- مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، بقراراته الملزمة قانونًا.
- محكمة العدل الدولية في لاهاي.
- اتفاقيات جنيف التي تحكم قواعد الحرب.
- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، من بين العديد من المعاهدات الأخرى.
ومؤخرا، قضت محكمة العدل الدولية بأن احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية غير قانوني، وأمرتها بالانسحاب. وفي رده، قال نتنياهو إن المحكمة اتخذت «قرارا كاذبا». وفي قضية منفصلة، رفعت جنوب أفريقيا دعوى أمام محكمة العدل الدولية، زاعمة أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني خلال العام الماضي. وأصدرت أعلى محكمة في العالم حكمًا أوليًا يفيد بوجود قضية «معقولة» للتوصل إلى نتيجة مفادها أن الإبادة الجماعية وقعت في فلسطين، وقالت إن إسرائيل يجب أن تتخذ التدابير اللازمة لضمان منعها.
ولكن في هذه المرحلة، زعمت جماعات حقوق الإنسان وغيرها أن إسرائيل فشلت في الامتثال لهذا الأمر، مما أدى إلى تقويض إحدى المؤسسات الرئيسة في النظام العالمي الليبرالي. يتفاقم هذا الأمر بسبب حقيقة مفادها أن عددًا قليلًا من الدول الديمقراطية الكبرى كانت على استعداد لإدانة فشل إسرائيل في الامتثال للقانون الدولي في غزة بقوة، أو فعلت ذلك متأخرًا، ناهيك عن التدخل بأي شكل ملموس.
وفشل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، في المقام الأول بسبب حق النقض الذي تمارسه الولايات المتحدة، في اتخاذ أي تدابير ملموسة لفرض قراراته ضد إسرائيل، فضلًا عن أحكام محكمة العدل الدولية. وهذا من شأنه أن يغذي تصورات واسعة النطاق بالنفاق فيما يتصل بمساءلة الدول الديمقراطية نظريًا عن الانتهاكات المزعومة للقانون الإنساني، مقارنة بالدول الأخرى التي لا تحظى برعاية القوى العظمى.
أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في أوائل تسعينيات القرن العشرين على سبيل المثال بالإجماع عدة قرارات ضد غزو العراق للكويت، ثم تلا ذلك بعد عقد من الزمان قرارات تطالب نظام صدام حسين بالامتثال لتفويضات التفتيش على الأسلحة. وقد استخدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها هذه القرارات مبررًا قانونيًا لغزوها العراق. وفي نهاية المطاف، لم يعثر على أي أسلحة دمار شامل. ثم قال الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في وقت لاحق أن غزو العراق كان غير قانوني ويتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة.
ومع ذلك، فقد أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عشرات القرارات المتعلقة بإسرائيل، ولكنها لم تُنفَّذ. وقد رفض الولايات المتحدة العديد من القرارات الأخرى.
وطلب المدعون العامون في المحكمة الجنائية الدولية أيضًا إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية (بالإضافة إلى عدد من قادة حماس الذين اغتيلوا الآن). وقد أثارت مذكرات الاعتقال الصادرة بحق نتنياهو وغالانت استياء بعض السياسيين الغربيين. ورغم ذلك، أشاد الغرب على نطاق واسع بمذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتن. وحاول الكونغرس الأميركي فرض عقوبات على المحكمة بسبب مذكرة اعتقال نتنياهو، مما يسلط الضوء مرة أخرى على الطريقة الانتقائية في كثير من الأحيان التي تطبق بها الدول الوطنية القانون الدولي.
أزمة شرعية النظام العالمي
تحب الدول الديمقراطية أن تقدم نفسها على أنها حامية للنظام العالمي الليبرالي، ومنفذة له في بعض الأحيان، وتضمن استمرار السلام والأمن الدوليين. وغالبًا ما تُصوِّر إسرائيل وأنصارها أنشطتها العسكرية باعتبارها خطّ الدفاع الأمامي للعالم الديمقراطي ضد القوى الأكثر استبدادية، ووسيلة لحماية نفسها من الخصوم الذين يريدون تدميرها. المشكلة هي أن تصرفات إسرائيل تتناقض في كثير من الأحيان وبصورةٍ مباشرةٍ مع النظام العالمي الليبرالي الذي تدعي أنها تدافع عنه، مما يقوض شرعيته.
أدّى الفشل في كبح جماح تصرفات إسرائيل إلى اتهامات بـ «المعايير المزدوجة» فيما يتعلق بالقانون الدولي. الولايات المتحدة وألمانيا تزودان إسرائيل بـ99% من وارداتها من الأسلحة والغطاء الدبلوماسي. ورغم أن ألمانيا توقفت عن الموافقة على صادرات الأسلحة الجديدة إلى إسرائيل، فمن المؤكد أن كلا البلدين يتمتعان بقدر أكبر من النفوذ لوقف المذبحة في قطاع غزة إذا رغبا في ذلك.
أصبح التفوق الأخلاقي الغربي، الذي تخلى عنه الغرب بمحض إرادته، في حالة يرثى لها مع استمراره في تقويض مبادئ النظام العالمي الليبرالي. والسؤال الآن: إذا انهار هذا النظام العالمي، فكيف سيبدو النظام العالمي الجديد؟
إحالات:
[1] الخطة قيد التنفيذ فعلًا، وتجري عمليًا تطهير عرقي للفلسطينيين حاليًا في جباليا وبيت لاهيا (المُترجم). [2] لم يحصل أي تراجع، بل واصلت إسرائيل تنفيذ خطتها في إفراغ سكان جباليا وبيت لاهيا، والمساعدات التي دخلت، دخلت إلى مدينة غزة لا شمالها، ودخلت بعد قصف فرق التأمين المسؤولة عنها (المُترجم).
المصدر: عرب 48