أمّ كلثوم تستفيء في ظلّ البلّوطة
إينا فاسيبيندر، Getty
رسائل للهروب
مدّ نور يده عميقًا في الجرح، فغابت ذراعه أوّلًا ثمّ غاب صوته، تبعهما نفَسه ثمّ جسده. مدّ يده في جرح كلّ شخصيّة من الشخصيّات المحيطة به، فأخرج من جُحْر روحها وقلبها وعقلها المعتم كمًّا هائلًا من قيح المشاعر المكبوتة، والأكاذيب، والخوف. تسرّب هذا النور إلى دواخل الشخصيّات، فأضاء مخازن النفسيّات الحالكة، ودون أن يدري غيّر مصيره ومصيرها إلى الأبد.
كم من القدرة على التبصير يلزمنا لنفهم إشارة الراوي في الأسطر الأولى الرواية، بأنّ هذا الطفل سيكون جزءًا عضويًّا من الأرض الشاسعة، الّتي تبرز على طولها كتل ترابيّة بنّيّة داكنة مغطّاة بشواهد رخاميّة وُضِعَت بترتيب ودقّة؟ مَنْ سيتذكّر هذه الإشارة بعد مئتين وخمس وخمسين صفحة، هي طول حياة رواية «سبع رسائل إلى أمّ كلثوم» (2023) لكاتبها علاء حليحل؟
يموت المؤلّف وتُولَد الرواية، تخرج من رحم تعاركت فيه التجارب الأدبيّة والشخصيّة والنفسيّة، وتزاحمت فيه الأسطر والفقرات الّتي تخشى أن تشطب…
على ذات المنضدة، يموت المؤلّف وتُولَد الرواية، تخرج من رحم تعاركت فيه التجارب الأدبيّة والشخصيّة والنفسيّة. في تلك اللحظة الفارقة ما بين حدثين جللين، وقبل أن يرسم الشدّة فوق الميم في كلمة ’تمّت‘، يقف الراوي على تلّة البلّوطة، ينظر إلى الأحداث المترامية على المساحة الشاسعة، بين أعالي ميرون وجبال نابلس؛ ليتأكّد من مخالفة الأحداث لكلّ الوصايا، فما حياة الشخصيّة لولا متعة الخطأ؟ دعها تكذب، وتقتل، وتشتهي آخر، وتسرق، وتشهد زورًا، وتحلف باسم الله بالباطل.
يحوم طيف الموت فوق كلمات الحكاية، وفوق المنزل الراقد بهدوء وسلام بجانب تلّة البلّوطة، فمَنْ يرقد بهدوء وسلام سوى هؤلاء الّذين فارقناهم؟ أمّا الرسائل إلى أمّ كلثوم فما هي إلّا مهرب تعالج فيه النفس ذاتها بالتذكّر والحنين، إذ تحاول الكلمات الّتي حفرت في الرسائل أن تخفّف من ألم نكبة فقدان صغار خرجوا من أرحامنا، وكانوا ملاذًا وبيتًا وحضنًا بحجم وطن.
نور
في هذه الرواية سيرة ذاتيّة قصيرة لم تتعدّ السنوات التسع من العمر، وكلّ ما يحيط بها من تفاصيل ترتبط بها بشكل أو بآخر، هذا النور؛ أي الطفل المشاكس الشقيّ، يربط خيوطًا متشابكة من الأحداث عمادها أفعاله الصغيرة، ويرسم صور الحياة في بقعة فلسطينيّة نائية دون أن يدري. هو الحقيقيّ الّذي يرى العالم من خلال التساؤلات والتحدّي والعناد والرفض، وهو المحبّ الّذي يعبّر عن حبّه بالضحك والركض والحركة، والصادق حين يعرف بفطرته كيف تترتّب الأولويّات، والابن الّذي يعرف متى يتكوّر عائدًا إلى الرحم، مانحًا الدفء لجوف الأمّ الّذي جمّده غياب الحبّ والشوق واللهفة. هو الفلسطينيّ الّذي تتكوّن هويّته بشعور التضامن مع صورة انتفاضة مرّت خلال نشرة أخبار.
تشير الكلمات المنتقاة في غير موضع إلى موت مقترب، ولا تسعفنا القراءة العابرة للنيل من محاولات الراوي اختبار ذكائنا. علينا أن نقرأ ثانية وثالثة كي نلتقط الإشارات ونحلّ اللغز…
تشير الكلمات المنتقاة في غير موضع إلى موت مقترب، ولا تسعفنا القراءة العابرة للنيل من محاولات الراوي اختبار ذكائنا. علينا أن نقرأ ثانية وثالثة كي نلتقط الإشارات ونحلّ اللغز، فهو يراوغنا بتفاصيل تباعد ما بيننا وبين بطل الحكاية، وهو كرمز يصلح لأن يكون كلّ واحدة وواحد فينا. دعي نور يسأل، دعيه يمرح، دعيه يغامر ويرتكب ما شاء من الحماقات، يكفيه كلّ مَنْ سيحاولون إسكاته في الحياة حتّى موته. حضر وسيغيب تاركًا مَنْ يحيطونه يعيشون على حافّة الحياة طوال الرواية.
في سرده حكاية تنطلق من تلّة البلّوطة، حيث شُيِّد بيت مصطفى وهاجر، يقدّم الراوي ابنهما نورًا على أخيه يزن في معظم الفرص، رغم أنّه الأصغر سنًّا، وليس الراوي وحيدًا مَنْ يدفع بنور إلى المقدّمة؛ فهاجر تقضي معه وقتًا دون طفلها الآخر، تتآمر وإيّاه على أكل علبة الملفوف المطبوخ، وتشاركه لعق بوظة الشوكولاتة، وتغذّي تمرّده، وتعزّز حقّه في حفظ كرامته الصغيرة، وتنهش بكفّ يدها وجه مَنْ يعتدي عليه، وتحضنه وتدلّله وتغفر خطاياه. أكانت غريزتها تستبق التاريخ فتختلق فرصًا لوداعه، أم أنّها كانت تحاول أن تغفر لنفسها خطأ مقتربًا، تعجز فيه عن حماية أولادها وهم على بُعد غرفة منها؟ أم كانت بذلك تعوّضه ونفسها عن البوح: “أنا بحبّ نور أكتر واحد بالعالم”؟
“كأشرعة سفينة معطّلة لا تبحر إلى أيّ مكان”، تعيش هاجر ومصطفى حياة زوجيّة رتيبة، تقنيّة خالية من انفعالات الحبّ، “كالمياه الراكدة مليانة أمراض” يعيش الزوجان حالة متواصلة من الكذب المبطّن، كلاهما يعرف لكنّهما يتفاديان الاعتراف. مصطفى “كالخلد الأعمى الّذي يبحث عن قوت أولاده… بشتغل كلّ النهار زيّ الكلب” في محجر ورثه عن والده، جعل قلبه مغلّفًا بالكثير من طبقات الغبار، الّذي تصلّب وحجب عن قلبه قدرته وحاجته إلى التعبير عن الدفء والتلذّذ باكتمال جمال زوجته قلبًا وقالبًا. أمّا هاجر فتعيش في جلباب اسمها، فهو فعل قام به غيرها، فقد هاجر جمال تاركًا إيّاها وراءه مهجورة مكسورة، فريسة للنميمة ولشرّ لا بدّ منه.
قبر في ظلّ البلّوطة
“أنتِ لم تُرْزَقي بأولاد يا سومة”، كتبت هاجر في رسالتها إلى أمّ كلثوم؛ أمّ الجميع الّتي اتّخذت مكانًا في الرواية. أمَّ المخلّص، تلتجئ إليها هاجر شاكية كانت أو شاكرة، تلفّها تلك الأمّ بالكثير من الرقّة والتفهّم والحنان، لا تعاتبها ولا تصدر عليها أحكامًا، تتقبّلها كما هي، وتبقى هالتها دائمة الحضور في معبد هاجر. وكذلك، لم تُرْزَق المعلّمة روز بالأولاد، لكنْ لهاجر اثنان، ينقبض قلب هاجر في كلّ مرّة يذهبان وحدهما في هذه الجولة، كان من الأجدر بقلبك، يا هاجر، أن ينقبض في كلّ مرّة يكونان فيها وحدهما، في جولة أو دونها؛ لأنّ الغيرة الّتي نمت في نظرات يزن وشخصيّته وتصرّفاته، غيرة الابن الّتي غذّاها غضب الأب؛ فأصابت رابط الدم وأزهقت الروح؛ غيرة تعدّت حدود الطفولة، وكسّرت سنسلة هذا البيت، وزادت اضطرابه.
لم تنجح الانتفاضة، ولا احتلال الفراكش لأرض قدّيتا ودلّاثة، ولا وفاة أبي جمال، ولا اعتقال الشاباك لوجدي في إبعاد شبح الموت، ارتعش جسم هاجر وهي تحاول أن تتخيّل أحد ولديها ميّتًا. مسكينة، لم تكن تدرك أنّ الكاتب حاول بهذه الجملة زجّها في بروڤا لحدث جلل، ستعيشه في أواخر صفحات الرواية، عندما رفض البرد حقًّا إخلاء المكان لبراعم الربيع الأولى، وظلّ جاثمًا بعتمة غيومه الرماديّة فوق صدر البيت، وتلّة البلّوطة.
لم تنجح الانتفاضة، ولا احتلال الفراكش لأرض قديتا ودلّاثة، ولا وفاة أبي جمال، ولا اعتقال الشاباك لوجدي في إبعاد شبح الموت…
لم تكن تلّة البلّوطة مكانًا مجرّدًا من الأهمّيّة، في الطريق الصاعد إليها سار موكب المشيّعين، هاجر ويزن ونور ورابعهم كلبهم، ثمّ سار الموكب نزولًا بلا كلبهم. دفع الراوي بنور ليبيت في بيت الكلب وكأنّه يشي بوجود قبر صغير شاهِده البلّوطة، لكنّنا حين ضاع نور لم نلتفت إلى هذه الإشارة، لم نستوعبها، كانت قلوبنا مثقلة بأذى غضب مصطفى الّذي دفع يزن ورِكْسْ ثمنه، وكنّا قلقين على مصير نور؛ فلم نكن نرغب في أن نستمع للراوي وهو يحدّثنا عن جسد صغير ممدّد على حافّة مجرى الوادي؛ فقد رأينا هذه الصورة تتكرّر على شواطئ هجرة الأطفال السوريّين، واكتفينا حسرة.
العشاء الأخير
نلمس الخيانة عندما يؤذينا أكثر الناس الّذين نهبهم حبّنا غير المشروط وثقتنا. “ليش خلّيتها تضربني إنت أخوي الكبير… وبكى كأنّه سيسلّم الروح”. كانت أولى الخيانات الّتي تعرّض لها نور، حينما لم يقوَ أخوه الأكبر على حمايته. كان هذا السؤال عظيمًا بحجم الروح الّتي لم تعُد تجد لها مكانًا داخل الجسد، وكادت تغادره.
على مائدة العشاء الأخير في تسلسل الرواية، اجتمعت العائلة لتناول طعامها المفضّل، بعد اجتهاد مصطفى ويزن في إعداد الحطب للمدفأة، لم يعِ مصطفى أنّ استمالة ابنه البكر إليه، وتربية شيطان الأنانيّة وحبّ السيطرة داخله، ستجعلان علاقة الولدين كقطعة خشب متينة، تتفرّق مع كلّ ضربة بلطة. لم يتنبّه مصطفى إلى أنّه أنكر نورًا ثلاثًا كما فعل بطرس، لم يلتفت إلى أنّه خان عائلته المقدّسة كيهوذا، وحينما ندم قام محاولًا الانتصار على ضعفه وخنوعه؛ بملء سيّارة التندّر بشعور وطنيّ ساعد انتفاضة الحجارة، لكنّه لم يقف أمام انتفاضة هاجر.
عالم من عصيّ
استعدت في أسطر الرواية مشاهد من حياتي الابتدائيّة، واستبدلت بالشخصيّات والأماكن أسماء أكثر قربًا إلى قلبي، تذكّرت زيارتي الأولى إلى بيت صديقتي أحلام، وإعجابي ببيتهم الجميل الّذي يزينه القرميد البنّيّ، وسرت في ذهني قافلة من سيّارات الـ «سوبارو» البيضاء والزرقاء، الّتي راجت في البلدة، وغمرني حنين التردّد الأسبوعيّ في صباح كلّ يوم جمعة على بيت جدّي.
حاولت أن أكسي هاجر بتنّورة صوفيّة كحليّة اللون، وبلوزة تغطّي أعلى الرقبة، كما اعتدت أن أرى أمّي أيّام الشتاء، حمّلتُ مصطفى حقيبة جلديّة سوداء اللون، تفوح منها رائحة العجّة كتلك الّتي حملها أبي إلى عمله، خلتُ يزن ونور كأولاد حارتنا وهم يمرحون في وادي عين القطعة، يتربّصون للضفادع، ويقلّبون الحجارة بحثًا عن الأفاعي. وأخيرًا؛ اجتهدت ولم أفلح في تهميش صور معلّماتي نوال وميمي ونعامة وباسمة، وهنّ يضربن بعصيّهنّ البنّيّة. كم هي مؤلمة هذه الصور.
أغالب شعورًا بالعجز تجاه ما تعرّضنا له من ضرب، دون أن تكون لنا قدرة على التفكير في الرفض أو التحدّي والثبات كما فعل نور…
أغالب شعورًا بالعجز تجاه ما تعرّضنا له من ضرب، دون أن تكون لنا قدرة على التفكير في الرفض أو التحدّي والثبات كما فعل نور، هذه الشخصيّة ذات الفطرة الطاغية، صاحب ضحكة – كما التكشيرة – تكاد تخرج من بين كلمات عذبة وعالية، لكن يبدو أنّ هذا العالم – كما هو طول الرواية – صغير على الأطفال، لا يتّسع لاحتواء شغفهم الحقيقيّ وأسئلتهم وتجاربهم الّتي لا تحتكم للمنطق، ولا للقانون، ولا للعيب.
جسد نور الخفيف الّذي يمكن الريح أن تحمله بعيدًا، وترتفع به نحو السماء، والّذي يمكن للماء أن يجرفه بعيدًا، نحو باطن الأرض الّتي تخرج منها مياه نبع العكروش؛ لتستبدل العذوبة بالعذوبة، وبثورة المياه ثورة مخّ طفل صغير عنيد، أبى إلّا أن يدحرج نفسه على طول حياته وعرضها، مستمتعًا بكلّ ما فيها. لكن، لا مكان حقيقيًّا للطفولة الصرف على وجه هذه الأرض. لذا، تخرج الطفولة في رحلة و”أهم إشي بالرحلة الزوّادة”، ونور تزوّد بما يكفي من الحرّيّة والإرادة؛ ليتابع رحلته في مكان آخر أكثر اتّساعًا.
كم مرّة نبّهنا الراوي بأنّ شيئًا ما خطيرًا يحدث هنا؟ ذلك المشهد حيث يحاول نور إسكات رِكس ينقلب عليه ليضعه مكان الكلب؛ فيصبح فريسة لقبضة أخيه، كيف يمكن هذه الكتلة الثائرة من لحم ودم أن تخضع؟ هل بعد أن فاضت ضوءًا جعل الأسرار والخبايا تطفو على وجوه أصحابها؛ آن الأوان لتنطفئ؟
مواليد الرينة في الجليل. ناقدة سينمائيّة، وكاتبة في مجال الفنون البصريّة والأدب. تحمل شهادة البكالوريوس في«الأدب المقارن» والماجستير في «ثقافة السينما».
المصدر: عرب 48