أنماط جديدة وإقحام النساء وتسليح العائلات
شهد المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني هذا العام تصاعدًا خطيرًا في معدلات الجريمة كما في العام الماضي، وهو تطور لا يمكن تجاهله بالإضافة إلى أعداد الجرائم التي حافظت على نسبتها المضاعفة هذا العام مقارنة بالماضي.
في السنوات الأخيرة، أصبحت الجريمة المنظمة على وجه الخصوص تؤثر بشكل كبير على الحياة اليومية للأفراد، بل وتأخذ شكلًا منظمًا ومتزايدًا يعكس الوضع الأمني المتدهور. هذا التصعيد في الجريمة ليس مجرد زيادة في الأعمال الإجرامية، بل يظهر في تطور أنماط الجريمة نفسها وتوسعها لتشمل مظاهر جديدة تكشف عن عمق الأزمة وتفاقمها.
في البداية، من المهم الإشارة إلى أن تصاعد الجريمة في المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالانفلات الأمني وفقدان السيطرة من قبل الجهات الأمنية الإسرائيلية التي تهمل وتهمش المجتمع العربي بشكل واضح حتى أصبحت سلطة القانون معدومة. في غياب دور فاعل للشرطة والمؤسسات الحكومية في توفير الحماية للأهالي، أصبحت الجريمة تأخذ أشكالًا أكثر تطورًا وتنظيمًا، وهو ما يعكس التحديات الأمنية التي واجهها المجتمع العربي.
أنماط الجريمة المتصاعدة
من أبرز الأنماط التي ظهرت في العام الأخير بالمجتمع العربي هي الجرائم ذات الطابع المنظم التي يتم تنفيذها من قبل منظمات إجرامية تتوسع نفوذها في المنطقة، وأيضا عائلات. هذه المنظمات لا تقتصر أنشطتها على الجريمة التقليدية مثل القتل والتجارة بالمخدرات، بل بدأت تشمل أيضًا القتل على خلفية صراعات بين العائلات، إذ أن عددا من العائلات بدأ يستعين بخدمات المنظمات الإجرامية للانتقام من العائلات الأخرى، أو أن عددا من عناصر المنظمات الإجرامية تقحم عائلاتها بصراعات دموية.
هناك ظاهرة جديدة وخطيرة بدأت تظهر بشكل لافت في الآونة الأخيرة، وهي إقحام النساء في الصراعات بين المنظمات الإجرامية والعائلات. فقد أظهرت المعطيات أن 21 امرأة قُتلت هذا العام، 11 منهن قُتلن على خلفية الجريمة المنظمة والصراعات بين العائلات، وهو أمر لم يكن يحدث بهذا الشكل من قبل. هذا التصعيد في استهداف النساء يعد تطورًا خطيرًا، حيث كانت النساء سابقًا في منأى عن هذه الصراعات، لكن اليوم أصبحنا نشهد إقحامهن في هذه الصراعات بشكل مباشر أو غير مباشر. ما كان في الماضي استثناءً أصبح جزءًا من الواقع المرير الذي تعيشه العائلات، اليوم.
تسليح العائلات العادية.. ظاهرة جديدة
ظاهرة أخرى بدأت تبرز بقوة في المجتمع العربي هي تسلّح العائلات العادية التي لم تكن ضالعة في القضايا الجنائية سابقًا أو لها أي نشاط جنائي إجرامي. في الفترة الأخيرة، لوحظ أن عددًا من العائلات أو الأفراد داخل هذه العائلات بدأوا يتشاركون في شراء الأسلحة غير القانونية كنوع من الشعور بالحماية المفقودة. وهذا يدل أولا، على زيادة الطلب على السلاح غير المرخص في المجتمع العرب، مما قد يفسر جزئيًا ارتفاع أسعار الأسلحة في الفترة الأخيرة. وهنا تكمن الخطورة، ما كان في السابق صراعًا صغيرًا بين أفراد في الشارع أو على “مصف” من الممكن أن يتحول لنزاعات دامية بسبب استخدام الأسلحة. في العديد من الحالات، ما يبدو في الظاهر كخلافات عائلية صغيرة أو مشادات بين أفراد يتحول بسرعة لصراعات دموية لا نهاية لها.
ما يجعل هذه الظاهرة أكثر تعقيدًا هو أن بعض هذه الصراعات العائلية يأخذ في جوهره طابع الجريمة المنظمة، على الرغم من أنه قد يظهر في البداية كخلافات شخصية أو عائلية. هذا الربط بين الجريمة المنظمة والصراعات المحلية يؤدي إلى توسيع دائرة العنف، إذ أن القتل لم يعد يقتصر على الجاني والمجني عليه فقط أو دائرته الأولى، بل يتسع ليشمل جميع أفراد العائلة في الدوائر الثانية والثالثة، حتى أولئك الذين ليس لهم علاقة مباشرة بالصراع.
الهجرة بسبب الجريمة
ظاهرة فرعية للجريمة المتزايدة أيضا، جنبًا إلى جانب الشعور المتزعزع بالأمن الشخصي، وهو إجبار العديد من العائلات على الهجرة إلى خارج البلاد بحثًا عن مأوى أو ملاذ بسبب التهديدات على حياتهم، وأيضا هجرة المتورطين بالجريمة. الوجهات الأكثر شهرة للهجرة هي دبي وتركيا، تليهما دولة المغرب. اختيار هذه الوجهات الثلاث ليس عشوائيًا: دبي تجذب المجرمين، أولئك الذين يستطيعون تحمل حياة الرفاهية في المدينة الفارهة، حيث يجدون ليس فقط حياة فاخرة، ولكن أيضًا مصادر دخل، غالبًا من الأعمال غير القانونية التي تتيح لهم غسل الأموال والهروب من التهديد المستمر على حياتهم. تركيا والمغرب يتم اختيارهما بسبب اللغة المشتركة وسهولة التكيف مع المكان بفضل وجود عدد كبير من العرب، والتقارب الثقافي والديني. في تركيا هناك مصادر كثيرة للعمل، وفي المغرب، بالإضافة إلى اللغة، تقدم أيضًا فرصًا اقتصادية لا تتوفر في أماكن أخرى.
على الرغم من عدم وجود إحصائية دقيقة تشير إلى عدد المجرمين والعائلات، الذين هاجروا أو هربوا إلى الخارج، فإن تقارير الشرطة تشير إلى أن العشرات من المجرمين هربوا إلى الخارج كجزء من صراعاتهم في حرب الجريمة التي اجتاحت البلاد في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، يجب الإشارة إلى أنه بالتوازي مع ذلك، هناك العديد من العائلات الطبيعية التي هاجرت بسبب تهديدات على حياتها، وليس بالضرورة بسبب ارتباطهم المباشر بالجريمة.
هذه العائلات هاجرت بسبب تورط أحد أفراد الأسرة أو أكثر في السوق السوداء، مما عرّض العائلة بأكملها للخطر. ليس دائمًا تتوفر الحلول الفورية لهذه العائلات. البعض يبيع ممتلكاته في البلدة لتمويل هجرته لفترة مؤقتة، وآخرون يغادرون ومعهم بعض المال يكفي لبضعة أسابيع فقط. في العديد من الحالات، تضطر العائلات للتكيف مع واقع جديد والقبول بوظائف شاقة طوال الأيام والليالي من أجل البقاء والعيش. على الرغم من ذلك، لا يعرفون دائمًا ما الذي سيحدث لهم على المدى بعيد، وهناك من يعيشون في حالة من عدم اليقين.
الأنماط الجديدة للجريمة والتصعيد
أصبحت الجريمة المنظمة في المجتمع العربي في تطور مستمر، وأخذت أشكالًا أكثر تعقيدًا وتنظيمًا. مع استمرار الصراع بين المنظمات الإجرامية، أصبحت أساليب العنف في الفترة الأخيرة أكثر تطورًا، حتى بدأت تظهر بشكل يشبه الحروب “الكارتلية” في أميركا الجنوبية. في الماضي، كانت هناك أماكن في المجتمع العربي تُعد آمنة مثل المنازل الخاصة والمقاهي والشوارع الهادئة. لكن مع بداية عام 2023 و2024، بدأت تظهر بعض الأنماط الجديدة من العنف تشهد اختطاف الضحايا من منازلهم أو من الشوارع، ثم قتلهم والتنكيل بجثثهم أو إحراقها أو إخفائها.
على سبيل المثال، في جريمة قتل ربيع نعيم عرايدي (43 عاما) من مدينة المغار، الذي تم اختطافه يوم 13 حزيران/ يونيو وقتله، لم يترك القتلة خلفهم أي أدلة. بالإضافة إلى ذلك، غسلوا رأس الضحية المقطوع بمادة تنظيف بهدف محو الحمض النووي لهم. لم يكن عرايدي الضحية الوحيدة هذا العام في أنماط الجريمة المتصاعدة في الصراعات العنيفة بين المنظمات الإجرامية، فقد وقعت جريمة قتل أخرى في نهاية تموز/ يوليو، قتل فيها أمل عساقلة (28 عاما) من المغار، ووجدت جثته بمنطقة مفتوحة قرب الكعبية بعد أيام من اختفائه.
من حيث الأساليب التي تستخدمها المنظمات الإجرامية، هناك ترجيحات بأن عمليات الخطف والقتل تتم في كثير من الجرائم بواسطة قاتل مأجور. ولكن أيضا قد يكون من ارتكب هذه الجريمة تلقى أوامر ولم يكن لديه لديهم خيار سوى الامتثال لها، لأن الرفض قد يعرض حياته للخطر.
يمكن تفسير تصاعد هذا السلوك، بالخوف المستمر لدى المنظمات الإجرامية من فقدان السيطرة على مناطقها. وهنا يتزايد الشعور بالخطر، ويباشرون باستخدام أساليب عنيفة تتصاعد مع الوقت، بهدف ردع خصومهم وتوجيه رسالة تهديد. ولكن العنف المتزايد لا يقتصر على الجريمة نفسها، بل يشمل أيضًا محاولة ترهيب المجتمع، والخصوم المحتملين، بأنه “لا يمكن العبث معنا”.
وهذا “التدهور الأخلاقي”، كما وصفه أحد المصادر في الشرطة، يتجسد في زيادة القسوة، والعنف، والتعذيب النفسي والجسدي للضحية قبل قتله. وكل هذا من أجل محاولة إخضاع المنافسين. ولكن إحدى النتائج المترتبة على كل ذلك هي أن المجتمع يبدأ في قبول الجريمة كحالة لا مفر منها، لأنها تترك مخاوف متزايدة حيث يصبح الفرد في حالة من العجز. ويعد هذا التصعيد جزءًا من التطور الطبيعي للجريمة في حال لم تصدها قوة رادعة. وعندما تصبح النزاعات بين المجرمين أكثر عنفًا، تنخفض درجة الحساسية تجاه الضحايا بشكل كبير.
المصدر: عرب 48