إبداع الأطفال في الحرب
عُرفت هذه الحرب بأنها الأكثر همجيّة ووحشيّة منذ بداية الصراع العربي الصهيوني على فلسطين، وذلك أن أكثر ضحاياها من المدنيين، وخصوصًا من الأطفال، إذ بلغت أعدادهم ما يقارب العشرين ألف طفل، وهو عدد لا سابق له من الضحايا في مجموع الحروب كلِّها منذ ثورة 1936، مرورًا بعام 1948 والحروب التي تلتها مجتمعة. كانت أكبر مجزرة للأطفال نفّذتها طائرات فانتوم إسرائيلية في نيسان/ أبريل عام 1970 على مدرسة بحر البقر في محافظة الشرقية في مصر، وذلك خلال حرب الاستنزاف بين 1967-1970، بهدف تثبيط علاقة الشعب بالسّلطات المصرية في حينه، والضغط لأجل إرغام الجانب المصري على قبول وقف إطلاق النار. راح ضحية المجزرة 30 طفلا وجرح 50 آخرون. وكان مجموع ما ألقته الطائرات 1000 رطل من المتفجّرات.
وكانت هذه الغارة سببًا في تأخير تسليم إسرائيل أسلحة أميركية متقدّمة بقيادة الرئيس نيكسون في حينه.
لم يسبق تلك الغارة أي عمل عدائي مصري أدى إلى قتل أطفال أو مدنيين إسرائيليين، ليكون هذا انتقامًا، بل كانت هناك عمليات متبادلة ضد أهداف عسكرية، ولكن ذريعتهم في تنفيذ المجزرة هي الذريعة نفسها التي يتخذونها في هذه الحرب، وهو وجود “مخربين” في الأمكنة التي يجري قصفها.
لقد قتل من الأطفال كثر تحت الرّدم، وكثيرون منهم احترقوا حتى الموت في الخيام، إضافة لعشرات آلاف أصبحوا معاقين للأبد، ومبتوري أطراف، وأيتامًا من الوالدين، أو من أحدهما، أو من كل أبناء أسرهم، ومئات الآلاف من غير مأوى ولا مصادر معيشية، إضافة إلى المدارس التي هدمت.
وأكثر من هذا، فقد تباهى بعض جنود قوات الاحتلال بقتل الأطفال، والتقطوا لجرائمهم صورًا تذكارية.
في الوقت ذاته، فإنّ هذه الحرب أبرزت مواهب كثيرين من الأطفال الذين أثاروا الإعجاب.
أطفال كثيرون لم يبلغوا الخامسة، ولكنهم يستظهرون الأشعار الثّورية وأشعار المقاومة والصمود، يردّدونها عن ظهر قلب وبلا أخطاء لغوية، أو بحد أدنى من الأخطاء، وهو ما يثير العجب. هذه الحالة تظهر ذكاءً لدى الأطفال في حفظ مواد طويلة نسبيًا، وكذلك مدى اهتمام ذويهم في جعلهم يحفظون، ما يعني أن علاقتهم ممتازة مع لغتهم العربية. مصدر هذا الاهتمام الكبير في اللغة العربية هو أن كثيرين من هؤلاء الطلاب يحفظون الكثير من آيات وسُوَر القرآن الكريم، وهذا يعني الاهتمام الاستثنائي في اللغة العربية في مدارس قطاع غزّة.
هذه الحالة غريبة، ولا أعتقد بوجودها لدى الأجزاء الأخرى من شعبنا، فقد أتت نتيجة ظروف الشّعب الفلسطيني في قطاع غزة وسيطرة حركة حماس الدينية على منهاج التعليم في القطاع.
بعض الأطفال نجحوا في نقل الحياة اليومية في ظل الحرب والخوف والجوع والعطش، نشروا بالصوت والصورة يومياتهم ومعاناتهم على شبكات التواصل. الجميل أن هؤلاء الأطفال قاموا بدور إعلامي جبّار في نقل معاناتهم ومعاناة أهاليهم، وفي نقل جرائم الحرب من تجويع وغيره.
هذه أول مرة في تاريخ الحروب يسهم الأطفال أنفسهم في نقل معاناتهم ومعاناة شعبهم في ظل الحرب، وقد لاقت أشرطة الأطفال تجاوبًا وإقبالا واسعًا.
شاهدنا آلاف الأطفال، وهم يغنّون ويدبكون في مراكز الإيواء والميادين، حتى صاروا أيقونات في رفع المعنويات، ونشروا الابتسامة والأمل، وفي الوقت ذاته الغضب على الاحتلال وجرائمه وداعميه.
هذه الحرب أنضجت أطفالا أصبحوا رجالاً ونساءً قبل أوانهم، فبعضهم يطهو الطّعام، أو يعد العجين والخّبز، وطفلات يغسلن وينشرن الثّياب، ويبعن الحلوى لكسب معيشتهن.
أطفال يتوعّدون الاحتلال بالانتقام لأنفسهم ولذويهم.
طفل يصرخ أمّي ماتت، وأخرى تقول “جعنا وأكلنا أوراق الشّجر”.
طفلٌ ينشد “اصمدي يا غزة العِزّة القصف بيهون”.
نازح يربّي طفلا عثر عليه بين الأنقاض، ولا يعرف من هم والداه.
طفلة تصرخ وتشير إلى جسد تحت الأنقاض “هذه أمّي أعرفها من شعرها”.
في هذه المرحلة العمريّة تتكون وتتبلور شخصية الطفل، بالتالي مجمل أفكاره وتصرّفاته في المستقبل.
تحتاج غزّة اليوم إلى البناء وإعادة إعمار الحجر والشّجر، كذلك فهي تحتاج إلى معالجة جراح وآلام مئات آلاف الأطفال الناجين من المحرقة، علاجات جسدية ونفسيّة، كي لا يردّوا إلى هذا العالم الظالم المتوحّش، ما قدّمه لهم من ظلمٍ وعنفٍ وتقتيلٍ دون رحمة ولا رأفة.
المصدر: عرب 48